مصطفى عبد الوهاب العيسى
حين كنا نتحدث بإيجابية عن كردستان ، كثيراً ما كنا نتعرض لهجوم من بعض الشوفينيين والحاقدين على الكورد وكل ما له علاقة بهم ، وكان ذلك يتم أحياناً بأسلوب سخيف ومؤسف ، وفي أفضل الأحوال كانوا يعتبرون حديثنا الإيجابي عن كردستان مجرد تعاطف نابع من إيماننا بعدالة القضية الكردية ، والقارئ الموضوعي يعلم جيداً بأن وقوفنا مع القضية الكردية أصلاً هو الذي جعلنا ويجعلنا ننتقد بشكل جريء وبنَّاء الكثير من المواقف والسياسات والأحزاب الكردية .
حين اشتدت وطأة الحرب في سوريا ، وتأزمت أوضاع السوريين ، ولا سيما الاقتصادية منها ، وتفاقم تشتتهم يوماً بعد يوم ، وتضاءلت فرص السفر أمامهم بسبب رفض معظم الدول إصدار تأشيرات لحاملي جواز السفر السوري ، كانت كردستان من الوجهات القليلة جداً التي فتحت أبوابها للسوريين ، بل وقبل ذلك كانت قد استقبلت مئات الآلاف من السوريين الفارين – غالباً دون أوراق ثبوتية – عبر الحدود ، وهكذا كانت – وبقيت لفترة طويلة – تستقبل السوريين الهاربين من جحيم الحرب سواء بطرق شرعية أو غير شرعية .
كثر الحديث عن أوضاع السوريين في أوروبا والغرب ، وما ينعمون به من رفاهية مادية ، لكن كثيرين نسوا أو تناسوا أن السوريين في كردستان عاشوا ظروفاً مشابهة في السنوات الأولى حين كانت كردستان في أوج ازدهارها وانتعاشها الاقتصادي قبل جائحة كورونا ، وقبل ظهور تنظيم داعش ، وهذا فضلاً عن الراحة النفسية والمعنوية التي وجدها السوريون في كردستان نتيجة البيئة غير الغريبة عنهم ، والثقافة القريبة من ثقافتهم ، والحرية الواسعة التي مُنحت لهم ، وأرى – شخصياً – أن تلك الحريات في كردستان كانت أوسع من نظيراتها في الغرب الذي فرض على السوريين أجندات وسياسات اندماج قسرية ألقت بظلالها على أنماط معيشتهم وعلى شخصياتهم ، وهو ما انعكس سلباً على صحتهم النفسية كما تشير أرقام المصابين بأزمات نفسية في دول اللجوء الغربية ، ولهذا أتبنى فكرة أن كردستان كانت بحق حضناً دافئاً للسوريين أكثر من الغرب .
فيما يخص دول الجوار السوري ، أعتقد أن المساحة الجغرافية لإقليم كردستان ، وعدد السوريين الكبير نسبياً فيه مقارنة بحجم الإقليم وموارده وإمكاناته ، بل وحتى صلاحياته الدستورية فإن من الواضح أن السوريين لم يشهدوا معاملة أفضل من تلك التي حظوا بها في كردستان ، ولم نسمع عن أي هجمات ضدهم ، أو عمليات قتل ، أو تنكيل ، أو اعتداءات عنصرية ، ولا عن مظاهرات وشعارات مناهضة لوجودهم ، أو تحقير ، أو إيذاء ، أو مطالبات بعودتهم القسرية ، بل على العكس تماماً فقد قُدِّم ما أمكن تقديمه من مساعدة ، ولم يُقصِّر أحد سواء على الصعيد الرسمي أو الشعبي ، ولا أستطيع الجزم أيهما كان الأفضل : الموقف الحكومي أم الشعبي ، ولكن من المؤكد أن المعاملة كانت لطيفة ، وبأساليب جميلة ومليئة بالترحيب والاحترام للسوريين طيلة هذه السنوات .
كانت كردستان على مدى معظم السنوات الخمس عشرة الماضية من أكثر الأماكن أمناً للسوريين ، وظلت لوقت طويل من أهم المحطات التي جمعت شمل العائلات السورية ، سواء داخل الإقليم ذاته ، أو من خلال المقابلات القنصلية ، أو حتى عبر بوابة العبور إلى سوريا ، ولا يمكنني أن أنسى ما حييت أن أول علم حظيت به لكردستان كان هدية من صديقة فلسطينية ، وعندما سألتها عن السبب أجابتني بحروف لن تغيب عن ذاكرتي : ” كردستان كانت الوحيدة التي منحتنا الفرصة ، واستطاعت عائلتي أن تجتمع فيها من جديد بعد سنوات طويلة من الفُرقة والشوق .
تراجع الوضع الاقتصادي في إقليم كردستان في الفترة الأخيرة ، وتأثر بالتضخم الذي أصاب العالم والمنطقة خلال العقد الأخير ، ولا سيما بعد جائحة كورونا ، وبطبيعة الحال فقد انعكست هذه الأوضاع على السوريين المقيمين في الإقليم – شأنهم في ذلك شأن مواطني كردستان – وخاصة أولئك الذين لم يكونوا قادرين على العودة إلى سوريا ، وفي الوقت نفسه يعجزون عن سداد تكاليف الإقامة التي تُعد منخفضة مقارنة بدول أخرى ، ورغم المليارات التي ربما خسرتها خزينة الإقليم من الضرائب والغرامات المستحقة على السوريين فقد أصدرت حكومة الإقليم عفواً شاملاً عن جميع المخالفات التي ترتبت عليها ضرائب باهظة ، وأصدرت أكثر من قرار يخفف الأعباء عن السوريين ، وهو ما شكل فرحة كبيرة لدى السوريين سواء الذين يرغبون بالعودة إلى سوريا ، أو أولئك الذين يطمحون إلى تسوية أوضاعهم القانونية والبقاء في كردستان ، وهذا التفاعل الإيجابي الذي لمسته من السوريين كان دافعاً شخصياً لي لتوجيه الشكر إلى كردستان ورئاسة الإقليم من خلال المقال على هذا القرار الإنساني الذي أدخل السعادة والبهجة إلى قلوب آلاف السوريين .
ربما لا تستطيع كردستان أن تقدم دعماً مباشراً لإعادة الإعمار في سوريا كما تفعل المملكة العربية السعودية مثلاً ، وذلك لأسباب كثيرة لا تُحصى ، لكن يكفينا نحن السوريين أن نشعر بأن كردستان وقفت إلى جانبنا بمحبة ، وقدمت ما تستطيع تقديمه بكل إخلاص ، وربما كانت مصر على سبيل المثال قد احتضنت السوريين بحنانٍ وعطف ، إلا أن ما يكفي كردستان – بالنسبة لي – هو أننا وصلنا إلى مرحلة نقارن فيها تجارب السوريين في دول كبرى بتجربتهم في كردستان .
كانت مواقف الشعب الكردي محل تقدير وإعجاب من قبل السوريين ، كما كانت تصريحات المسؤولين في إقليم كردستان بشأن سوريا دوماً داعمة وإيجابية ، وتُعد من أكثر التصريحات المتعاطفة والموزونة سياسياً على مدى السنوات الماضية .
انطلاقاً من كل ما سبق أرى أن تعاطفنا الدائم مع كردستان عندما تتعرض لقصف غير مشروع أو تدخلات سافرة بشؤونها هو أقل ما يمكن تقديمه ، وأن تضامننا ووقوفنا ضد كل ما يضر بالشعب الكردي من تأخير في صرف الرواتب أو عرقلة لحياتهم اليومية يُعد واجباً أخلاقياً وإنسانياً علينا كسوريين .
ختاماً ، كانت وستبقى كردستان حضناً دافئاً للسوريين ، وستظل العلاقة بينهما علاقة وثيقة ومميزة .
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=70829