حكاية طيار القهوجي في قصيدة سربست رفو –  حاتم خاني

يقول طيار القهوجي : الايرانيون ليسوا ببشر بل هم اوباش , بل اسوأ من الاوباش

هكذا بدأ طيار القهوجي حكايته :

كان يعمل في مقهاه في الموصل بالقرب من مستشفى الصدرية بمنطقة الفيصلية , وبالقرب من هذه المنطقة كانت جامعة الحدباء حيث كان الشاعر سربست رفو طالبا هناك وبين الحين والاخر يرتاد مقهى طيار ليكتب عنه شعرا جميلا :
في يومٍ من الأيام..
في زمن الشناشيل القديمة
على شواطئ دجلتنا الفرحة آنذاك
تحت مئذنة الحدباء الشهيدة
وفي رحم الاوجاع والمعاناة الابدية
كان طيار يرفع أبهى رايات الأمل والسلام
بضحكته وابتسامته البريئة الدافئة
ببهجة نظراته المتواضعة الغنية
المنهمكة في كل حين..
كان طيار يحيا في كنف سعادته
يصف الشاعر سربست بان طيار كان يعيش في زمن الشناشيل حيث كانت هذه الشناشيل تطل على بعضها ويعيش الناس متجاورين متحابين ومتخالطين ببساطة العيش وصدق النوايا وكانت لدى طيار كالاخرين امال وتطلعات ينظر اليها ببراءته المعتادة وهو سعيد بحياته المتواضعة , ولكن
وعلى حين غرة مفاجئة
وبعد مرور الايام والأزمان
سرعان ما تهشمت تلك الروح
ليستيقظ من غفوته المبهمة
ولتستفيق عيناه على رؤى أدخنةٍ خانقة
وصوت صراخ وصاروخ مجنون مزق السكون
بعدها نودي على الجميع وبدأ قرع الطبول
وكأنها مشاهد حرب البسوس
نعم هو صوت الحرب
لترفرفّ باجنحتها السوداء
كأجنحة طائر الخفاش
لتداعب عتمة لياليٍ حالكة موحشة

لتبدأ الحرب العراقية الايرانية وتغطي سماء العراق عتمة الليالي وتسقط الصواريخ  على المدن وتمزق رايات السلام التي كانت ترفرف عالية نحو السماء , ويلتحق طيار بالجندية ليذهب الى الجبهة للدفاع عن الوطن الذي تحول فيما بعد الى وطن البؤساء والمساكين والمعذبين وماتت الروح وتحول الناس الى اموات وهم احياء
عندها طيار يسمو براياته الجريئة
صوب سماءٍ وصحبة النجوم الكثيرة
ليحمل في يديه المرهقتان
لهفة عمياء ولسان صدق برئ
وخصال ملائكية
تمثلت في روحٍ نقية
جاعلا من إصابعه رصاصات نارية
من ضحكاته مدافع فولاذية
من ابتسامته نيران لاهبة
ليحمي وطن البؤساء
ليحفظ كرامة الموتى الاحياء

يقول طيار : في مدينة المحمرة التي بقيت بايدي الجيش العراقي ما يقارب السنتين 1980 – 1982 , كنا نتوقع هجوم الايرانيين علينا , لكن لم يكن بايدينا اي حيلة لتغيير مصيرنا , لذا وخلال معركة ملحمية تمكن الجيش الايراني من التسلل خلف خطوطنا والتغلغل بين صفوفنا وحدثت الفوضى وتفرقت ارتالنا وانكسرت جبهاتنا وهرب الجميع يلوذون دون وجهة حتى وجدنا انفسنا ونحن ( 19000 تسعة عشر الف ) اسرى بين ايديهم ونحن عراة بدون اكل ودون ماء .

ها قد سقط طيار بجسده التعب
في سوح الوغى اسيرا مكبلا مقتادا
في معاركٍ الأصوات العارية

وتم نقل هؤلاء الاسرى بين سجن وآخر حتى استقر المقام بطيار مع 1700 اسير  في مقاطعة مشهد في قضاء قوجان على الحدود مع افغانستان لتبدأ رحلة العذاب التي يمر بها طيار وزملاؤه الاسرى , وكلما زادت قداسة المكان زاد تعذيب الايرانيين للاسرى العراقيين وتعرف مشهد بانها من الاماكن المقدسة لدى الايرانيين حيث فيها ضريح الامام الرضا

وتمضي السنون وطيار في سباته
في غياهب سجنه المظلم حالما..

يضيف طيار : كان الايرانيون يخرجوننا في الشتاء القارس الى الترعات القريبة ويكسرون طبقة الجليد التي تغطي سطح المياه ليغمروا رؤوسنا داخل تلك المياه حتى نقترب من قطع انفاسنا , فيعيدوننا ونحن دون ملابس الى السجن الجماعي , وكنا احيانا كثيرة نتمنى الموت حتى نتخلص من تلك العذابات المستمرة بشكل يومي . وكان حراسنا يتفاخرون بمناظر تعذيبنا عند زيارة ضباطهم لعنابرنا حيث يطلبون منا الوقوف عراة ليتفقد هؤلاء الضباط آثار السياط والعصي على اجسادنا , والويل لمن لا يحمل هذه الاثار .

( رأيتهم يقتلون علي كوجو , ومشكو امام عيني , ) , يسرد طيار حكايته والدمع يملأ عينيه فيقول , كنت نائما احلم .
يحلم بعالمٍ
يخلو من الحرب والنيران
يملؤه الحب والسلام والامان
وطن يلملم جراحا لازالت طرية
وطنٍ يحيا فيه الناس عيشة هنية
لوطنٍ وعشق عصور ذهبية

واذا بزميل قريب مني يهزني لاستيقظ من احلامي لنرى الجميع وهم يهتفون للوطن وللعراق دون خوف ودون رهبة , فلم يعد للخوف من الموت مكان بيننا , ويتدخل الباسداران ويطلقون الرصاص ويقتلون 45 اسيرا , ولكن تضحيات هؤلاء لم تذهب سدى فقد وصل صوتنا الى المنظمات الدولية التي بدأت تزورنا لتمنع الايرانيين من حشر احذيتهم في افواهنا بمجرد خطأ بسيط يصدر من احدنا .
ويأتي اليوم الموعود المنتظر
فيخرج طيار من سجن الهموم!
الان عواصف هوجاء..
مطر مجنون وسماء حبلى بالغيوم

وعاد طيار القهوجي الى وطنه واراد ان يعيش بهدوء وراحة بال في مقهاه في الفيصلية ولكنه لم يتحمل ان يعيد تلك الايام الحبلى بالعذاب عند انتشار ما كان يعرف بالدولة الاسلامية في احياء الموصل , فحمل امتعته وعاد الى دهوك عام 2012
طيار وحكاياته وركن مقهاه الحنون
سواق ومتقاعدون وأدباء فيها يجلسون
يتسامرون فيها في وضح النهار يتنهدون
يرتشفوف شايه بلذة لذة الشاربين
بقهوته الممزوجة بأكسير الحياة
يقصون الاساطير والحكايات الاولية
عن ماض ينتحب وينزف دما
يتحادثون عن حاضر معاق
ومستقبل مجهول منكسر

وفي مقهاه الجديدة في مدينة دهوك التي سماها ( نسرى ) يحدثك طيار القهوجي بالم عما عاناه على ايدي السجان الايراني , ولكنه  يستعيد جزءا من سعادته عند الحديث مع زبائنه من الادباء الذين يزورونه ويواسونه ويحاولون اعادة البسمة التي تتستر خلف احزانه .
“نوزت دهوكي” حاضر 
يرهف سمعه لحكايات القهوجي
و”نزار البزاز وابراهيم ديرگژنیکی”
بدهشة كدهشة الطير يسمعون
بصحبة “مهدي گلى” بصوره يفرحون،

يشعر بالفرح وهو يشير الى صورة الشاعر بدل رفو بصحبة اطفال الهند المعلقة على حائط المقهى وهو يتباهى ويقول    ((   انه صديقي   )) .

برفقة صورة اطفال الهند ورفو 
يمضي زمنهم!

قسمات طيار القهوجي التي سطرتها سنون اسره  لم تكن تخط وجهه فقط . بل بدأت هذه القسمات وهذه الوجوه المتعبة تنتشر رويدا رويدا بين المارة حيث الازمات تعيد جولاتها وصولاتها لتذكرنا بايام الحصار .
والکل ينظر لوجوه المارة العابرة..
لوجوه ارهقتها الحروب والازمات
وجوه ادماها الفساد وبلاد مهجورة
وجوه أنهكتها لقمة عيش وارغفة مفقودة! 

 

الاسماء الواردة في القصيدة هم لادباء وشعراء يترددون على مقهى طيار في مدينة دهوك

 حاتم خاني

دهوك

 

شارك هذه المقالة على المنصات التالية

Exit mobile version