سربست نبي
كيف يكون المجتمع ديمقراطياً دون أن يكون هناك نظام سياسي ديمقراطي ؟ وفي الأصل علينا أن نتساءل هل هناك مجتمع ديمقراطي ومجتمع غير ديمقراطي ؟ وهل مفهوم( المجتمع الديمقراطي) كما يتم تداوله في أدبيات حزب العمال الكردستاني كنموذج أمثلي ( برادايم أيديولوجي) جديد وبديل عن مبدأ الحق في تقرير المصير للشعب الكردي هو صحيح من الناحية العلمية والمعجمية ؟
الحقيقة لم يتم استخدام مفهوم الديمقراطية منذ اختراعه على يد الإغريق (الديمقراطية في أثينا القديمة، القرن الخامس قبل الميلاد، حوالي 508-507 ق.م) وحتى يومنا هذا إلا للدلالة على العلاقة السياسية بين المواطنين الأحرار والسلطة وشكل تنظيم هذه العلاقة بهدف تحقيق أقصى حد من المساواة السياسية والمشاركة في إدارة الحكم، وهذا يعني أن هذا المفهوم ينتمي إلى فضاء الدولة والمجتمع السياسي لا المدني ويشترط وجود الدولة والمجتمع السياسي قبل أي اعتبار، ويعتبر الحاق هذا المفهوم كصفة بالمجتمع هو اقحام غير منطقي وينطوي على مغالطة فجة…
معلوم أن مفهوم ومصطلح “ديمقراطية” مشاق من الكلمتين اليونانيتين: ديموس (Demos) الشعب، و كراتوس (Kratos)، الحكم أو السلطة ويشير إلى“حكم الشعب” حين يكون هذا الشعب سيّداً ولديه سلطة قومية، وفي ظلّ غياب سلطة قومية يعبر عن هوية شعب ما يتعذر الحديث عن أية ديمقراطية .
واقع الحال كان مفهوم الشعب في أثينا يقصد به مجموع المواطنين الأحرار الذكور، الذين يشاركون مباشرة في اتخاذ القرارات السياسية من خلال التصويت في جمعية الشعب (Ekklesia)، ولم يكن العبيد أو النساء من الشعب أو من مجتمع المواطنين، لأنهم لم يكونوا أحراراً
لقد كانت ديمقراطية أثينا ديمقراطية مباشرة ومحدودة، وليست تمثيلية كما في النماذج الحديثة. لم يكن للنساء أو العبيد أو الأجانب الحق في المشاركة، ويمكن وصفها بأنها كانت ديمقراطية مقيدة ومقتصرة على بضعة آلاف فقط من المواطنين الذكور الأحرار مقابل عشرات الآلاف من العبيد.
لم تشهد العصور الوسطى أي تطور ملموس يستحق الذكر لمفهوم الديمقراطية، على صعيد النظرية والممارسة معاً، بسبب تراجع مفهوم الشعب والمواطنة بإزاء مفهوم الرعية المؤمنة، وصعود مفهوم الحكم المطلق للعاهل وتراجع مفهوم الحكم الشعبي.
مع بدايات عصر النهضة الأوروبية بدأنا نشهد أول الممارسات الديمقراطية في بعض المدن الإيطالية، مثل فلورنسا والبندقية بولادة أول المؤسسات الأولية لممارسة الديمقراطية كمجالس الحكم المحلية، بيد أنها لم تشكّل نظماً ديمقراطية بالمعنى الحديث، ورغم ذلك ظل المفهوم متعلقاً بإدارة شؤون الحكم والمصالح السياسية والعملية للمواطنين، لا الأفراد أو المجتمع.
تطورت الديمقراطية التمثيلية
في العصر الحديث وخلال القرنين الـ17–18، وتبلورت أفكار الحكم التمثيلي مع فلاسفة التنوير (مثل جون لوك، وروسو، ومونتسكيو)، وشهدت الديمقراطية تجسيداً لها في سياق الثورات الكبرى كالثورة الأمريكية (1776م) والثورة الفرنسية (1789م)، واكتسبت دلالاتها عبر حزمة مفاهيم سياسية مثل، سيادة القانون، نظرية فصل السلطات، ضمان الحقوق السياسية والمواطنة المتساوية، الحق في المشاركة السياسية والتمثيل النيابي عبر الانتخابات. ويلاحظ هنا إن تحقيق جميع تلك المعايير أو بعضها تتعلق بوجود الدولة والسلطة السياسية، لا المجتمع، الذي يمكن أن يوجد من دون دولة أو سلطة سياسية، كالمجتمعات البدائية أو القبلية …الخ وهذا يناقض علمياً النموذج( المفترض) عن المجتمع الديمقراطي الذي يطرحه العمال الكردستاني اليوم كبديل عن الحكم الفيدرالي أو الذاتي وكل أشكال الحق في تقرير المصير، فهذا المفهوم( المفترض) والمتصوَّر أيديولوجيا ً يتعارض مع بديهات الفكر والفلسفة السياسيين.
تتجه الديمقراطية المعاصرة إلى تجاوز معيارها الكلاسيكي الرئيس، الذي عرّف الديمقراطية بأنها برصفها حكم الأكثرية، إنها تكرّس اليوم معياراً جديداً يتمثل في ضمان حقوق الأقليات وحمايتها، وتأمين حقوق المهمشين والمجتمعات الهشّة، كشرط رئيس لديمقراطية أية دولة. فهل دولة أتاتورك/ أردوغان مؤهلة بهذا الاعتبار كي يراهن عليها وتشكّل عتبة لنشوء ( مجتمع ديمقراطي) مفترض، يضمن فيها التعددية وحقوق القوميات والمهمشين على نحو متساو؟ إن أية دولة تتخذ من هوية الأغلبية العرقية أو الدينية عقيدة لها، كالدولة التركية،تشكّل، لا محالة، منصة لسياسات الإنكار والإقصاء، ورافعة راسخة للاستبداد ولفاشية مكرّسة بطغيان أغلبية قومية أو دينية.
علاوة على ما سبق تعني الديمقراطية المعاصرة، ضمان حرية التعبير وحرية التجمع، والصحافة الحرة، وجود ضمانات حقيقية لعدم انتهاك حقوق الإنسان، وأخيراً الالتزام بقيم التعددية السياسية، وهذه الأقانيم كلها تشكّل كابوساً بالنسبة لعقيدة الدولة التركية.
خلاصة القول، لقد نشأت الديمقراطية في أثينا القديمة كـ”حكم الشعب”، لكنها انفصلت واستقلت جزئيا ً عن جذرها التاريخي وتطورت خلال سياقات تاريخية معقدة لتتخذ شكلها التمثيلي الحديث، القائم على المؤسسات والحقوق، وفي جميع الأحوال رافقت تطور مؤسسات السلطة السياسية والدولة، لا خارجها. وهذا يعني إن مفهوم الديمقراطية، بمختلف دلالاته، نشأ وتطور في سياق علائقي من نشوء مفهومي السلطة السياسية والدولة، لا المجتمع، كما يروّج له وينطوي عليه مفهوم المجتمع الديمقراطي المغالط.
أما الإنشاء اللغوي الجميل والفضفاض عن( المجتمع الديمقراطي ) والاستيهام به كموديل سياسي جديد، فلا يعدو أن يكون سوى تحريف منهجي وعلمي لمفهوم الديمقراطية. وفي نهاية المطاف لايفضي هذا المسعى إلى ولادة وعي سياسي علمي صحيح بالحقوق القومية والديمقراطية والمساواة، إنما على العكس من ذلك يتسبب في ولادة هالة ضبابية جديدة من الأوهام الأيديولوجية وتقدم حلولاً من السراب للقضية الكردية.
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=69138