د. ولات محمد
“… فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثرُ منك مالاً وأعزُّ نَفَرا” الكهف/ 34.
“الأكثرية” أو الأغلبية عامل حاسم ابتكرتْه أدبيات الديمقراطية بغية فض الاشتباك العشوائي والصراع الهمجي على السلطة. أما الأكثرية التي تمنح مجموعة ما حق الإدارة والحكم والقرار فهي تلك التي تتحقق عن طريق التصويت أو الانتخاب. وهذا ينطبق في الأنظمة الديمقراطية على إدارة مؤسسة صغيرة (شركة مثلاً) كما ينطبق على إدارة دولة.
أما في مجتمعاتنا الشرقية (حيث اعتاد الناس على عدم الاعتراف بالديمقراطية إلا إذا كانت في مصلحتهم، وكذلك على تفسير القوانين والشرائع والمفاهيم والقيم حسب مقتضى مصالحهم وتوجهاتهم لا كما تعني في جوهرها) فإن الناس يستخدمون مصطلح “الأكثرية” للدلالة على أكثرية سكانية (عرقية أو دينية أو مذهبية)، لا أكثرية انتخابية، وذلك للاستقواء بها على الشركاء في الوطن وإسكات وتهميش الفئات التي تكون أقل عدداً بغية الاستفراد بالسلطة وفرض لون مجتمعي واحد. لذلك مَن يردد كلمة “أكثرية” هم فقط المنتمون إلى إحدى تلك الأكثريات، أفراداً وجماعات، بينما تغيب الكلمة ذاتها عن أدبيات المكونات المجتمعية الأقل عدداً، وتردد (بدلاً منها) المفردات الدالة على الشراكة وحقوق الأقليات وغير ذلك.
بعد استقلال كل من سوريا والعراق شاءت الظروف والأحداث (وربما رغبة الغرب) أن يؤول الحكم في الدولتين إلى أقليةٌ مذهبية (مختلفة عن الأخرى) أشركتْ معها في السلطة (شكلياً) فئة من الأكثرية المذهبية، حتى لا يبدو حكمها طائفياً من جهة، وكي يسهل عليها قمع معارضيها من الأكثرية المحكومة من جهة ثانية.
وعلى الرغم من أن الأقليات في المنطقة هي التي تتبنى عادة قيم الحرية والديمقراطية والمساواة وحقوق الإنسان، فإن أبناء الأقلية المذهبية الحاكمة كانوا “راضين” بالحكم الديكتاتوري القائم في كلا البلدين، ووقفوا إلى جانبه إلا قليلاً منهم، بينما راح أبناء الأكثرية المذهبية المحكومة ينادون بالحرية والمساواة (وهذه مفارقة) فعوقبوا بالسجن والتعذيب والفصل من الوظائف وغير ذلك.
عقب سقوط النظام (بمساعدة خارجية) في كلا البلدين (العراق في نيسان 2003 وسوريا في كانون الأول 2024) استلمت الأكثرية المذهبية السلطة وتبادلت مع نظيرتها الأقلية المواقعَ والأولويات وآلية التفكير، إذ صارت الأكثرية الحاكمة ضد مفردات الحرية والديمقراطية والمساواة وحقوق الإنسان والمشاركة العادلة في السلطة وغير ذلك مما كانت تطالب به سابقاً، وصارت الأقلية هي التي تطالب الأكثرية الحاكمة بحقها في المشاركة في السلطة وبضرورة احترام حقوق الأقليات في الحكم.
المفارقة هنا أن الأكثرية المذهبية التي كانت محكومة وتطالب بحقها في الحكم في كلا البلدين كانت تدعم الأقلية المذهبية (المشابهة لها) الحاكمة في البلد الآخر. وهذا يشير بوضوح إلى أن المسألة لم تكن قناعة لدى هؤلاء بضرورة حكم الأكثرية بسبب كونها أكثرية، بل السعي للاستئثار بالسلطة وتهميش الآخر المختلف مذهبياً، كما أن مناداة المحكوم في البلدين (سواء أكان أقلية أم أكثرية) بقيم الحرية والعدالة والمساواة والديمقراطية لم تكن عن قناعة، بل لأنه كان مهمشاً. وهذا ما أدى (في الحالتين) إلى تأسيس حكم مركزي إقصائي، سواء أكان الحاكم من فئة الأكثرية المذهبية أم من فئة الأقلية.
هكذا تم خطف مصطلح ديمقراطي دال على الأكثرية (الحزبية السياسية الاجتماعية… إلخ) المنتخبة، لتركيبه على “أكثرية” سكانية مذهبية أو دينية أو إثنية، بغية الحصول على المزايا التي تتمتع بها الأكثرية المنتخبة وحقوقها في الحكم والإدارة، وليصبح من يعترض على “أكثريتهم” متخلفاً وعدواً للديمقراطية ومخالفاً لنواميس الحياة العصرية الحديثة، ومتطفلاً يطالب بأشياء ليست من حقه لأنه من “الأقلية”.
إذن، بدلاً من ترسيخ فكرة المواطنة المتساوية في أذهان الناس وأن الحكم للأكثرية النيابية المنتخبة، (بدلاً من ذلك) زرعوا في عقول العامة فكرة مفادها أن “الأكثرية” التي من حقها أن تحكم هي الأكثرية العرقية أو الدينية أو المذهبية، حتى جعلوا الناس يصطفون عرقياً أو دينياً أو مذهبياً بدلاً من أن يصطفوا فكرياً وسياسياً وبرامجياً.
بهذا المفهوم يتعاطى الناس عندنا مع ثنائية “الأكثرية والأقلية”، وهو مفهوم سكاني إحصائي لا علاقة له بأصل الموضوع. قد يعترض قارئ لهذا المقال على هذه الرؤية ويقول: “هذه أكثرية وتلك أكثرية، فما الفرق بينهما من حيث حق كل منهما في الحكم والإدارة والقرار؟”. والجواب على مثل هذا السؤال غاية في البساطة:
أولاً: الأكثرية المنتخبة تعبر عن آراء ورغبات أغلبية الناس الذين شاركوا في التصويت، وهذا يمنحهم الحق في الحكم حسب قناعاتهم وبرامجهم. أما الأغلبية المذهبية فهي أغلبية سكانية تعبر عن واقع حال، وليست ناتجة عن انتخابات حتى يكون لها الحق في مصادرة حقوق الآخرين في القرار والحكم ورسم السياسات.
ثانياً: الأكثرية المنتخبة أكثرية متغيرة؛ فالطرف الذي يكون أكثرية اليوم قد يكون أقلية غداً، ومن يحكم اليوم ويسن القوانين ويشكل الحكومة ويقود المجتمع والدولة قد لا يكون له أي حضور في الدورة الانتخابية القادمة. أما الأكثرية (الإثنية والدينية والطائفية) التي يتحدثون عنها فهي أكثرية ثابتة، وأبناء الإثنية أو الدين أو المذهب الذين يشكلون الأكثرية اليوم لن يصبحوا أقلية بعد أربع سنوات. وهذا يعني أن الأكثرية ستبقى أكثرية حاكمة والأقلية ستبقى أقلية محكومة مدى الحياة.
ثالثاً: الأكثرية النيابية المنتخبة تمثل أفكار وقناعات منسجمة لكتلة بشرية واحدة أو كتل متقاربة في البرامج والأفكار، أما الأكثرية السكانية (الإثنية أو الدينية أو المذهبية) فلا انسجام بينها فكرياً وسياسياً واجتماعياً، بل تنتمي إلى أفكار وقناعات مختلفة (فهناك مثلاً السني السلفي، والإخواني، والعلماني، والليبرالي، والشيوعي، والماركسي، والقومي، والملحد.. إلخ. وهذا ينطبق كذلك على المكون الشيعي والعلوي والدرزي والعربي والكوردي)، وقد يلتقي بعض أبناء هذه “الأكثرية” سياسياً وفكرياً مع تيارات من مكونات أخرى، بينما قد يختلفون جذرياً مع أبناء أكثريتهم حتى في شكل الحكم وبرامج الحكومة. فكيف يمكن الحديث (سياسياً وفكرياً) عن كل هذا التشكيل المتناقض وكأنه كتلة واحدة تشكل أكثرية؟ وهل لهذه “الأكثرية” المتناقضة فيما بينها أن تدير دولة ببرنامج منسجم ومتماسك لمجرد أنها من طائفة واحدة؟!
التناقض هنا أن أي متحدث باسم “الأكثرية” المذهبية ينصّب نفسه متحدثاً باسم كل هؤلاء المختلفين والمتناقضين؛ فالسلفي مثلاً يتحدث باسم الشيوعي والماركسي والليبرالي.. إلخ لمجرد أنهم أبناء سنة، والآخرون أيضاً يفعلون ذلك، علماً أن بين أفكار هؤلاء ورغباتهم وتصوراتهم في الحكم تناقضاً يصل إلى حد العداء والإقصاء؛ فالدستور الذي يكتبه السني الليبرالي أو العلماني أو الشيوعي مثلاً يختلف تماماً عن ذاك الذي يكتبه السني السلفي أو الجهادي أو الإخواني…إلخ. لذلك لا يمكن أن تكون “الأكثرية” المذهبية أو الدينية أو العرقية عنصراً حاسماً عندما يتعلق الأمر بمن يحق له أن يحكم ويدير ويسن القوانين ويكتب الدساتير.
الأكثرية العربية؟ الأكثرية المسلمة؟ الأكثرية السنية؟ حسناً. إذا أخذنا كل واحدة منها بمفردها فإنها (من جهة) تضعف الأخريين، وفيها (من جهة ثانية) تناقضات كثيرة لا تسمح لها بتشكيل أكثرية منسجمة كما سبقت الإشارة؛ فمثلاً الأكثرية العربية (العرقية) هي أكثرية سكانية مقارنة بالكورد والسريان والآشوريين والأرمن الأقل عدداً، ولكن داخل هذه الأكثرية مذاهب مختلفة (السني، العلوي، الشيعي، الدرزي والإسماعيلي) وأديان (المسلم، المسيحي) وتيارات فكرية متباينة ومتناقضة (السلفي، الإخواني، الشيوعي، الماركسي، الليبرالي، القومي…)، وتوجد داخل كل مكون فرعي تياراته الخاصة أيضاً، ومن الصعب أن يتفق أبناء بعض هذه الانتماءات في مسائل الحكم والإدارة لما بين أغلبها من تناقضات. إذن هي ليست أكثرية منسجمة، وهذا ينطبق كذلك على كل من الأكثريتين المسلمة والسنية.
دعونا، إذن، ندمج بين كل تلك الأكثريات لتكون لدينا الأكثرية العربية المسلمة السنية كحالة قصوى. هذه الأكثرية أولاً تستبعد كلاً من الكوردي، السرياني، الآشوري، التركماني، الأرمني، المسيحي، العلوي، الشيعي، الدرزي، الإسماعيلي وغيرهم كشركاء في السلطة والقرار. وثانياً سوف تعاني كذلك (مثل الأغلبية العرقية) من تناقضات داخلية جمة بين العربي المسلم السني المتدين ونظيره الماركسي والعلماني والليبرالي، وتفصل كذلك بين العربي داخل هذه الأكثرية ونظيره المنتمي إلى إحدى الأقليات العرقية المذكورة آنفاً.
لا شك في أن الأغلبية السكانية العرقية أو الدينية أو المذهبية في بلد ما حقيقة وواقع لا يمكن لأحد التنكر له، ولكن هذا النوع من الأكثرية لا يمنح أصحابها الحق الدائم والكلي والمطلق في السلطة والدولة وتحديد مصائر الناس من جهة، وحرمان (من جهة ثانية) أبناء المكونات المجتمعية الأخرى من حقوقهم الفردية والجماعية المشروعة، فقط لأنهم أقل عدداً من أبناء تلك الأكثرية، لأن مفهوم الأكثرية والأقلية بهذا المعنى مجرد مفهوم دال على العدد السكاني على الأرض. هذا ناهيك عن أنه لا توجد أساساً إحصائية (حقيقة وحديثة) تثبت أقلية أو أكثرية هذا المكون المجتمعي أو ذاك.
لكل ما سلف ليس من التفكير السوي والإجراء السليم جعل الأكثرية السكانية (الحقيقية أو المفترضة) قيمة فوق دستورية وفوق انتخابية تمنح الأفضلية المطلقة والدائمة لأبنائها على الآخرين، لمجرد أنهم ينتمون إلى تلك الفئة الأكثر عدداً، وكأنه حق سماوي لا جدال فيه؛ فالأكثرية الوحيدة التي من حقها أن تحكم وتسن القوانين والدساتير هي تلك التي تفرزها نتائج الانتخابات، مع مراعاة ضرورة مشاركة المكونات العرقية والدينية والمذهبية الأقل عدداً وضمان حقوقها في تلك البنود عندما يكون المجتمع متعدد الأعراق والأديان والمذاهب.
يتبع…
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=69001