لمحة عن التاريخ الحديث لمدينة سري كانيه عروس الجزيرة -1-
عبد العزيز محمد أيو
تُعدُّ مدينة سري كانيه السورية واحدة من أقدم المدن التي شهدت تعاقب الحضارات المختلفة، حيث تمتد جذورها التاريخية لآلاف السنين. يشهد على ذلك تل الفخيرية الذي يحتضن بقايا مملكة “ميتاني” وعاصمتها “واشوكاني”. ومن هذه المملكة خرجت شخصيات تاريخية بارزة مثل الملكة “نفرتيتي” ابنة الملك توشراتا، والتي ساهمت في نقل معتقدات التوحيد إلى مصر عبر زواجها من الفرعون أخناتون.
وكذلك تل حلف الذي كان مقراً لمملكة “بيت بخياني” وعاصمتها “جوزانا” التي حكمها الملك كابارا بن قاديونو. عبر القرون، شهدت سري كانيه تفاعلاً دينياً وثقافياً كبيراً، فكانت موطناً للعالم الطبيب الشهير “سيرجيوس راسعيني”، الذي عاش بين القرنين الخامس والسادس الميلادي، وهو أول من ساهم في نقل الثقافة من اليونانية إلى السريانية (نقلاً عن الباحث صلوح يوسف) ولقد برع في الترجمة والأمانة العلمية.
كما كانت موطناً للقديس “مار أَحو” الذي نشر رسالة المحبة والسلام وبنى الكنائس والمعابد. بالإضافة إلى كل ذلك، لا تزال هناك الكثير من المعالم التاريخية غير المكتشفة في المنطقة، التي تنتظر جهوداً لاكتشافها وإحياء قيمتها التاريخية.
في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، فُتحت المدينة على يد الصحابي عيّاض بن غنم، ورافقه الصحابي خالد بن الوليد في هذه الفتوحات، والذي يقال إنه أُسر فيها في بعض الروايات، وفي روايات أخرى يقال إنه دخلها للتفاوض.
ودخلت المدينة تحت الحكم الإسلامي وتعرّضت لغزو الصليبيين، وضمّها الأيوبيّون لدولتهم، واستخدمها صلاح الدين الأيوبي قاعدة لقواته. كما لم تسلم المدينة من غزوات تيمورلنك الذي دمّرها عام 1403.
في العصر العثماني، كانت سري كانيه جزءاً من مراعي القبائل المللية، ويعود تاريخ اتحاد قبائل وعشائر المللي في المنطقة في أقل تقدير إلى ما قبل عهد السلطان العثماني سليم الأول 1512 (أحمد عثمان بكر، أكراد المللي وإبراهيم باشا المللي) حيث كانت تنتشر قبائل التحالف المللي في المنطقة.
دخل الفرنسيّون إليها في أيار عام 1922 وأنشؤوا ثكنة عسكرية (قشلة) فيها، ضمت فيما بعد مقرات لمؤسسات مدنية وخدمية.
وبعد انفصال الحسكة عن متصرفية دير الزور، تم تعيين “نسيب صادق الأيوبي” متصرفاً للحسكة، ليتم لاحقاً تحويلها إلى ناحية تحت إدارة محمد العلي. وفي عام 1964 أصبحت سري كانيه منطقة إدارية تتبعها ناحية الدرباسية وناحية أبو راسين “زركان”، وهي متاخمة للحدود المصطنعة مع تركيا، وتمتد حدودها لأكثر من 100 كم، وبلغ عدد سكان المنطقة وفق إحصاء 2004 177,000 نسمة، وعدد سكان المدينة نحو 80,000 نسمة.
تم بناء أول مدرسة ابتدائية في المدينة في نهاية العشرينات من القرن المنصرم، ودشنت في عهد الرئيس تاج الدين الحسيني. وكانت الدراسة في المدينة مختلطة حتى الثمانينات من القرن المنصرم. وتوجد في سري كانيه ثلاث مدارس ابتدائية خاصة إضافة إلى المدارس الحكومية، وكانت توجد أيضاً إعدادية قطف الزهور التي أُغلقت بقرار من حكومة الوحدة السورية ـ المصرية.
الحياة الاجتماعية
تميّزت المنطقة بالتعايش المشترك بين شعوبها المختلفة من مسلمين ومسيحيين وإيزيديين وكرد وسريان وعرب وشيشان وأرمن.
وصل الشيشان إلى المنطقة في عام 1858، وكان عددهم كبيراً. قام السلطان العثماني بتوطينهم على ضفاف نهر الخابور. إلا أن الكثير منهم ماتوا نتيجة تغيّر الظروف المناخية وتفشّي مرض الملاريا بينهم.
توافد الأرمن والسريان إليها أثناء الحرب العالمية الأولى، بسبب المجازر التي لحقت بهم، وعلى إثر مذابح الأرمن والتهجير القسري لهم، ومجازر السيفو عام 1915. وصل عدد العوائل الأرمنية في سري كانيه إلى 471 خانة، إلا أن الكثير منهم هاجروا بعد الستينات إلى مدينة حلب وإلى لبنان وإلى جمهورية أرمينيا وإلى مناطق أخرى، وبقيت عوائل قليلة جداً. وهناك المردلية (نسبة لمدينة ماردين) وهم الذين هاجروا من ماردين وريفها ومنهم مسيحيّون وقسم منهم مسلمون ويوجد بينهم عرب وكرد.
توجد قبائل عربية مثل العدوان والجيس والشرابيين وحرب، والغراجنة. كما توجد عائلات عربية من عشائر طي والبكارة وجبور والعبيد والعفادلة. ويوجد في سري كانيه بعض العائلات من الأصول التركمانية.
وخلال خمسينات القرن الماضي، شهدت المدينة تدفقاً لعدد من العائلات من منطقة حوران في سوريا. جاء هؤلاء بحثًا عن فرص عمل وظروف معيشية أفضل، واستقروا في الجزء الجنوبي من المدينة. انخرط معظمهم في أعمال تتناسب مع احتياجات المدينة آنذاك، مثل السقاية، والعتالة (نقل البضائع) والزراعة. وعاد القسم الكبير منهم إلى حوران.
وعاش الجميع في وئام وسلام. وكانت المدينة تحتوي سابقاً على ثلاث كنائس ومسجدين فقط، مما يعكس التنوع الديني.
الزراعة
كانت سري كانيه تُعرف بمنطقة زراعية غنيّة، بفضل وفرة مياهها ومرور نهر الخابور فيها، وروافده كالجرجب وزركان في شرقها، إضافة إلى ينابيعها الغزيرة والينابيع الكبريتية (المعدنية).
الثورة الزراعية الحقيقية في المنطقة بدأت عندما أبرمت شركة “أصفر ونجار” اتفاقاً مع عائلة إبراهيم باشا المللي لاستثمار جزء من أراضيهم الزراعية. اعتمدت الشركة على تقنيات زراعية حديثة تشمل استخدام الجرّارات، البذور المُحسّنة، أدوات الحصاد المتطورة، ونظم الري المتقدمة. ساهمت هذه الأساليب في تحسين الإنتاجية وتطوير عملية التسويق، مما أحدث نقلة نوعية في الزراعة بالمنطقة. ولولا قرارات الإصلاح الزراعي وقرارات لجان الاعتماد التي بموجبها تم الاستيلاء على تلك المشاريع والأراضي لتغيّر وجه سري كانيه والمنطقة نتيجة لتلك المشاريع.
وكان هناك مزارعون كبار في سري كانيه أمثال السادة أراكيل كشيشيان وحبيب مريمو وآل العاصي وجورج شماس وآل الرزة وجان أسمريان وغيرهم من المزارعين. لكن؛ للأسف جفَّ نهر الخابور وتلك الينابيع نتيجة عوامل بيئية وتدخلات بشرية، وعدم إيجاد حلول علمية وعملية من الدولة، وحفر الآبار الارتوازية بطريقة عشوائية.
بلغت مساحة الأراضي الزراعية الصالحة للزراعة في المنطقة 240,119 هكتاراً، منها 161,640 هكتاراً تزرع بشكل بعلي، و75,445 هكتاراً تروى بمياه الآبار المرخصة التي يبلغ عددها 8,355 بئراً، إضافة إلى 368 بئراً غير مرخصة. كان المصرف الزراعي حينها يصرف سنوياً نحو 25 مليار ليرة سورية لشراء الحبوب والأقطان والأسمدة والبذور، ناهيك عن القيمة المرتفعة للمحاصيل الزراعية الموسمية.
الينابيع والبساتين
كانت مدينة سري كانيه تُعرف منذ زمن بعيد بوفرة ينابيعها العذبة التي كانت ترفد نهر الخابور، حتى أصبحت هذه الينابيع سمةً مميزة لها، ولقّبت بسببها بـ سري كانيه بسبب تواجد الينابيع جنوب المدينة، وكان يُقال: إن عددها بلغ 360 نبعاً، تتدفق مياهها لتروي عطش الأرض وتغني المدينة بحكاياتها المنسابة عبر الزمن.
من بين تلك الينابيع، نبع “حبيب” الذي استمد اسمه من موقعه قرب بناء السيد حبيب مريمو، ليصبح مصدر حياة لأهالي المدينة الذين كانت جرارهم تملأ منه. إلى جواره، كانت تنبض ينابيع أخرى بأسماء تضفي طابعاً من الأصالة على المكان، مثل نبع “أروخوم”، “السيارات”، “قدس”، “الفوارة”، “السالوبا”، و”عين البنات” في بستان أبو سليمان، و”عين الجبارة”، “بانوس”، “جاموس”. كلّ منها يحمل ذكرى ترتبط بوجود سكانها وذاكرتهم. كانت تلك العيون والينابيع مياهاً زرقاء رقراقة، تمدّ يديك وتغرف منها لتشرب.
لم تقتصر جاذبية سري كانيه على ينابيعها فقط، بل امتدت إلى بساتينها الغنّاء، تلك المساحات الخضراء التي كانت واحات سحرية بين أرجاء المدينة. لكلّ بستان منها قصةٌ ورائحةُ ترابٍ مميزة؛ بستان “أبو هاكوب”، “بستان سلمى”، “بستان الخالة سيرانة”، و”منتزه ومقصف سيروب”، و”منتزه ومقصف الرياض”. كانت هذه البساتين ملاذاً للجميع، تضجّ بالحياة كما كانت تضج بالأحاديث والأماني المخبّأة تحت ظلال أشجارها الوارفة. أما المنتزهات، فكانت نبضاً آخر من نبضات المدينة، يجتمع فيها أهلها بحثاً عن الراحة والمتعة. كان منتزه بستان سلمى الذي أنشأ عليه عبد الرزاق حسو منتزه مشوار و”حديقة قصر” و”أصفر ونجار” أكثرها شهرة، يجسّدون روعة الطبيعة وكرم أهل المكان في استقبال زائريهم.
وعلى مقربة من “عين حصان”، كانت تُقام احتفالات عيد النوروز، حيث تنساب الأنغام وترتفع الأهازيج، لترسم في الأذهان ذكرياتٍ لا تُنسى، يستعيدها أبناء المدينة كلّما مرّوا بتلك الأماكن أو جال في خواطرهم عبقُ الماضي.
لقد كانت سري كانيه ، بعيونها المتدفّقة وبساتينها الحالمة، لوحةً منسوجةً من الجمال والذكريات، كلّ زاوية فيها تحمل بين طياتها حكاية، وكل نبع ينبض بروح المكان وعراقة تاريخه.
المصدر| صحيفة روناهي
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=60122