الشرع يشرع في شرعنة ما لا يُشرَّع

ماهر حسن

قرّر السيد أحمد الشرع، الرئيس المؤقت للجمهورية السورية، أن يشرّع فعلاً بلا شرعية، وأن يمنح ما لا يملك لمن لا يحق له التملّك. فالآثار في القانون ليست ترفًا زخرفيًا ضمن ممتلكات الدولة، بل هي كيان قانوني ثقافي قائم بذاته، يخضع لحماية مزدوجة من القانون الوطني والدولي. واتفاقية اليونسكو لعام 1970 واضحة لا تحتمل الاجتهاد في العبث: كل أثر ولد من تراب الوطن هو ملك للشعب بأسره، لا يباع ولا يهدى ولا يستعار إلا وفق ضوابط محددة كأنها أقفال التاريخ نفسه. ومع ذلك، أصرّ الشرع أن “يشرّع” حيث لا شرعية، وأن يمدّ يده إلى ما لا تبلغه سلطته الزمنية، ليقدّم مثالاً بديعًا على كيف يمكن للفعل السياسي أن يتحوّل إلى نكتة قانونية مطولة

وبذلك، فإن تصرف الشرع لا يدخل في باب “الهدية الرسمية” التي تندرج ضمن الأعراف الدبلوماسية، بل يقع في نطاق ما يمكن تسميته بـ “التعدي الرمزي على الإرث الجماعي”، أي استخدام رموز الأمة وموروثها المادي كأدواتٍ في لعبة العلاقات العامة. الواقعة تستحق أن تسجَّل في كتب فقه القانون العام تحت عنوان “الملكية العامة بين الجهل السياسي والعبث الرمزي”، إذ قرّر السيد أحمد الشرع، الرئيس المؤقت للجمهورية السورية، أن يتبرع بقطعة أثرية سورية إلى رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، وكأنه يوقّع عقد تنازل باسم التاريخ ذاته. هذا التصرف، الذي قد يبدو في ظاهره بادرة دبلوماسية لطيفة، ينطوي في جوهره على إشكالية قانونية وأخلاقية عميقة تتجاوز حدود الإتيكيت السياسي لتلامس جوهر مفهوم السيادة والملكية العامة.

المفارقة المضحكة – والمبكية في آنٍ واحد – أن الرئيس المؤقت، الذي يحمل صفته محصورة في زمنٍ عابر، قرّر أن يتصرّف في ما هو أقدم من الزمن ذاته: حضارة تمتد آلاف السنين إلى ما قبل فكرة الدولة نفسها. إن هذا السلوك، مهما جمّل بلغة الدبلوماسية، يظهر التناقض الفادح بين رمزية السلطة وحدودها القانونية؛ فالرئيس ليس مالكًا، بل مؤتمنًا على ما لا يُملك. ومن هنا، فإن الفعل ذاته يعبّر عن جهلٍ مؤسسي بالفرق بين “السلطة السياسية” و”الولاية القانونية”، إذ إن الأولى مؤقتة ومقيّدة، بينما الثانية أبدية ومقدسة لأنها متصلة بروح الأمة وتاريخها.

إن أخطر ما في هذه الواقعة ليس الفعل ذاته، بل ما يكشفه من بنية ذهنية ترى الدولة بوصفها امتدادًا للشخص لا بوصفها كيانًا عامًا. فحين يتصرّف الرئيس في الأثر الوطني كما لو كان تذكارًا شخصيًا، فإننا أمام انهيارٍ لمبدأ جوهري في القانون العام: مبدأ الفصل بين “الملكية العامة” و“السلطة الإدارية”. هذا المبدأ الذي يحكمه منطق الوكالة لا التملك، والمسؤولية لا التصرّف. إن الشرع، من حيث لا يدري، قد قدّم نموذجًا مصغّرًا للفكر السلطوي العربي، حيث تختلط أدوات الدولة بملذّات الحاكم، وتتحول الرموز الوطنية إلى ديكور سياسي يُستعمل لتزيين العلاقات الدولية لا لصون الكرامة الثقافية.

ولعل ما يزيد المشهد سخرية أن هذا الإهداء المزعوم، لو نظرنا إليه من زاوية الفقه الدستوري، يعدّ انتهاكًا لمبدأ عدم التصرف في المال العام إلا بموجب قانون، فكيف إذا كان المال العام هنا أثرًا يحمل هوية الأمة وماضيها؟ القانون السوري نفسه – شأنه شأن كل التشريعات المتقدمة – يحظر أي نقل أو تصرف في الآثار دون إذنٍ تشريعي واضح ومسوّغ ثقافي علمي محدد. وبذلك يكون الفعل – حتى لو صيغ في قالب دبلوماسي – خارجًا عن إطار المشروعية القانونية، أي أنه “عملٌ باطل منعدم الأثر”، كما يقول الفقه الإداري.

لكن السخرية لا تقف عند حد القانون، بل تتجاوزه إلى حدود الفلسفة السياسية نفسها. فالإهداء هنا ليس مجرد تصرف مادي، بل إعلان رمزي عن طريقة فهم السلطة لذاتها: سلطة ترى في التاريخ ملكية، وفي التراث سلعة، وفي الشعب متفرجًا على العرض لا مالكًا له. وهنا يكمن جوهر الأزمة: حين يتحوّل التراث من ذاكرةٍ تحفظ إلى زينةٍ تهدى، تضيع الحدود بين الذاكرة والترف، وبين الحاكم والمتحف.

إن القانون الدولي الثقافي لا يحمي الآثار فحسب، فالتصرف في الأثر، خارج الإطار القانوني، ليس فعلاً سياسيًا بل عدوان رمزي على الوعي الجمعي، لأن الشعوب تقاس بقيمة ما تحفظه لا بما تهديه من تاريخها. والأنظمة التي تهدي آثارها تذكّرنا بممالك الطين القديمة التي كانت تبيع تماثيلها مقابل صفقات مؤقتة، ثم تندثر هي، وتبقى التماثيل في متاحف الآخرين.

إن واقعة “هدية الشرع” – سواء أكانت حقيقية أم مجازًا سياسيًا – تصلح أن تكون حالة دراسية في العلاقة بين القانون والذاكرة والسيادة، وكيف يمكن لقرار صغير أن يفتح بابًا واسعًا للنقاش حول مفهوم “الملكية الرمزية” للدولة. فالحاكم، مهما بلغت سلطته، يظل موظفًا لدى التاريخ، لا سيدًا عليه. ولعل المفارقة الأخيرة أن الهدية، التي قدّمت باسم المجاملة السياسية، ستبقى في ذاكرة الفقه مثالًا على “الإهداء غير المشروع”، ودرسا للأجيال القادمة في أن القانون لا يحاكم النوايا، بل يحمي الرموز من النسيان والتبديد.

 

Scroll to Top