* جوان ديبو
تبعية الكُرد في سوريا الروحية والسياسية لأشقائهم الكبار المفترضين في أربيل وقنديل كلفت القضية الكردية في سوريا أثمانا باهظة كونها تحولت في مراحل عديدة إلى مادة دسمة للمساومة بين نظام الأسد، وخاصة الأب، والقوى الكردستانية المهيمنة في أربيل وقنديل والسليمانية، وإن بدرجات متفاوتة؛ الأمر الذي أثر سلبا على هذه القضية وأضاف إليها المزيد من التعقيدات والتحديات كونها أصبحت قضية مركبة وثنائية التمظهرات والأبعاد.
الأولى قضية مع نظام الأسد وهي الاعتراف بالكُرد في سوريا دستوريا وما يستتبع ذلك من حقوق قومية، والثانية قضية استقلالية القرار السياسي الذي أصبح مرتهنا منذ عقود لأربيل وقنديل، المركزيْن اللذين يجيران هذه القضية لمصالحهما وأجنداتهما دون أي اكتراث لحاضر ومستقبل الكُرد في سوريا الذي بات يلفه ويكتنفه الغموض واللايقين أكثر من أي وقت مضى.
من يمعن النظر في تهافت الكُرد في كردستان الغربية (كردستان سوريا) على أشقائهم المفترضين الكبار في كردستان الجنوبية (كردستان العراق) وكردستان الشمالية (كردستان تركيا) روحيا وسياسيا ومعنويا من خلال التبعية الطوعية غير المشروطة والولاء المفرط المجاني وصولا إلى الدونية الطوعية – القسرية، سيستنتج بأن الكُرد في سوريا لا يملكون تاريخا سياسيا خاصا بهم ولا رصيدا أو إرثا نضاليا من شأنه تحريكهم ومدهم بالطاقة والفخر والاعتزاز، وأنه لولا رعاية أشقائهم الافتراضيين الكبار في جنوب وشمال كردستان في الماضي، لما استفاقوا ونهضوا وناضلوا، وأنه لولا مؤازرتهم الراهنة لما قامت لهم قائمة.علما أن الحقيقة تشي بعكس ذلك حيث أن للكُرد في سوريا تاريخا سياسيا حافلا وزاخرا بالأحداث ولهم من القادة والمناضلين والرموز والكتاب والأدباء والشعراء ما يمكن الإشادة والتباهي بهم ولتمكينهم من تأسيس حالة نضالية مستقلة وتبني نموذج سياسي مستقل وبمعزل عن تأثير جوهري من قبل الإخوة – الأعداء في أربيل وقنديل.
يحتفل الكُرد في سوريا سنويا بالعشرات من المناسبات الخاصة ببقية الكُرد في أجزاء كردستان الأخرى ولاسيما كردستان العراق وكردستان تركيا. لا بل يمكن القول بأن عدد المناسبات السنوية التي يستذكرها الكُرد في سوريا بانتظام وإتقان وتفان والعائدة إلى بقية الكُرد في جنوب وشمال كردستان يضاهي ويفوق عدد المناسبات الخاصة بهم في كردستان سوريا. علما أنه تاريخيا وحاضرا لا أحد في جنوب وشمال كردستان على المستويين الرسمي والشعبي يستذكر أو يشير من قريب أو بعيد إلى المآسي والويلات التي تعرض ويتعرض لها الكُرد في سوريا، ولطالما نُظر إليهم على المستويين الرسمي والشعبي نظرة استصغار ودونية ولاسيما بعد طوفان 2011.
وتسري هذه الملاحظة على مختلف القوى السياسية الكردية السائدة في سوريا، سواء تلك التي تدور في فلك حزب العمال الكردستاني – تركيا، أي حزب الاتحاد الديمقراطي وإدارته الذاتية، أو تلك التي تسبح في فلك الحزب الديمقراطي الكردستاني – العراق والمتمثلة في المجلس الوطني الكردي في سوريا الذي يهيمن عليه الحزب الديمقراطي الكردستاني – فرع سوريا.
فكلا الطرفين المتعاديين يتسابقان ويتنافسان بحدية في إظهار الولاء والتبعية غير المشروطة وصولا إلى الدونية للمركزين قنديل وأربيل. فنراهم يحتفلون ويبتهجون ويحزنون بأيام ميلاد وممات القادة في جنوب وشمال كردستان. ويعلقون صور أولئك القادة الأموات منهم والأحياء في مكاتبهم الحزبية ويلصقونها في بروفايلاتهم الفيسبوكية. وينظمون المهرجانات والمسيرات ويلقون الخطابات الرنانة ويقيمون الندوات والمحاضرات حول ذكراهم وتاريخهم مفبركين ومزورين ومختلقين ومزايدين. ويزورون قبور ومزارات الأموات منهم ويلتقطون العشرات من الصور وينشرونها على العام والخاص مبتهجين وفخورين ومتباهين.
ويجادلون بعضهم بعضا بعنف وغضب واهتياج ويتزاعلون ويتخاصمون ويتصارعون ويخونون بعضهم البعض وكل هذا من أجل إرضاء أسيادهم في أربيل وقنديل. ووصل الأمر ببعض العاملين في الحقل السياسي من الكُرد في سوريا، الذين لطالما تاجروا بالقضية الكردية في سوريا ووظفوا السياسة في خدمة رغائبهم ومصالحهم الشخصية كجمع المال والاستمتاع بملذات الحياة على حساب تغييب وتهميش المصالح الجماعية، إلى ابتداع مصطلحات وهمية لا يقبلها العلم والعقل والمنطق كالبارزانيزم نسبة إلى الزعيم الكردي الراحل مصطفى بارزاني وأوجلانيزم نسبة إلى زعيم حزب العمال الكردستاني المعتقل في تركيا منذ سنة 1999 عبدالله أوجلان أو الفيلسوف القائد كما يحلو ويطيب لأنصاره ومريديه ترديد ذلك. علما أن هؤلاء المتحذلقين كانوا يوصمون حتى الماضي القريب قيادة الثورة الكردية في العراق بالجيب الرجعي والعميل وبالقيادة الرجعية العشائرية. وبين ليلة وضحاها حصلت تلك الاستدارة الحادة بفعل المال السياسي وبعض المغريات الأخرى، وحسب المثل الإنجليزي الشائع فإن المال يتحدث ويفعل فعلته ويحدث تأثيره. ومن ناحية أخرى فإن أتباع ومؤازري الزعيمين في عقر مراكزهم ومقراتهم لا يرددون مثل هذه الترهات وبالطريقة والوتيرة والرتابة التي يستخدمها المريدون والمتيمون الضحايا – الجناة من أكراد سوريا. باختصار تاريخيا كان الكُرد في سوريا على المستويين الرسمي والشعبي ينظرون إلى جنوب وشمال كردستان بمثابة الرئة التي يتنفسون بها والقلب النابض الذي يعيشون به، بينما لم تكن كردستان سوريا بالنسبة إلى أربيل وقنديل سوى مادة للمساومة في سوق مزاداتهم السياسية مع نظام الأسد ومقبرة لنفاياتهم السياسية السامة والمعدية.
يحيلنا هذا الداء المزمن الذي أصاب العقل السياسي الكردي في سوريا منذ عقود، والذي تحول بفضل التراكمات التدريجية والتجذير المنهجي والممنهج إلى ظاهرة مرضية مستعصية على الفهم والتشخيص والعلاج، إلى الاستعانة بعلم النفس الفردي والجماعي بغية فك طلاسم وشفرات هذه السلالة المتحورة من وباء الدونية والتبعية للأشقاء الكبار المفترضين واستصغار الأخيرين لأشقائهم الصغار المفترضين.
كان علم النفس منذ ظهوره في بدايات النصف الثاني من القرن التاسع عشر من قبل العالم الألماني فيلهلم فونت (1832 – 1920) يقتصر على دراسة الفرد أو الحالة الفردية أو النفسية الفردية وبحثها ضمن السياق الزمني المحدد لكل شخص ابتداء من مرحلة الطفولة ومرورا بالمراهقة من أجل تشخيص العقد النفسية ذات المنشأ الطفولي والسعي إلى إيجاد الترياق الناجع لها في حال كانت العقد المكتشفة قابلة للعلاج. ولذلك سمي بعلم النفس الفردي الذي أسسه الطبيب العقلي النمساوي ألفرد أدلر (1870 – 1937) وبعلم التحليل النفسي الذي أسسه طبيب الأعصاب النمساوي سيغموند فرويد (1856 – 1939) وبعلم النفس التحليلي الذي أسسه عالم النفس السويسري كارل غوستاف يونغ (1875 – 1961).
لكن الطبيب والمؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون (1841 – 1931) أحدث نقلة نوعية لا بل انقلابا جوهريا في علم النفس التقليدي أو الأصلي المختص بالفرد والنفسية الفردية عندما قام بتطبيقه على دراسة سلوك وعقلية الجماهير والمجموعات البشرية من خلال كتابه “سيكولوجية الجماهير” الذي أثار جدلا صاخبا في الأوساط الفكرية والسياسية وقت صدوره سنة 1895 وفي السنوات اللاحقة أيضا، وبذلك اعتبر لوبون بحق مؤسس علم النفس الاجتماعي. وهنا لا يمكن إغفال الإشادة بمساهمة فرويد القيمة من خلال مؤلفه “علم نفس الجماهير” الذي كتبه سنة 1921 والذي كان في جملته تعليقا ونقدا وتطويرا لما أسماه لوبون بـ”علم نفس الجماهير” كما يقول مترجم كتاب فرويد إلى العربية المفكر السوري جورج طرابيشي.
يوضح لوبون أن الأمراض ذات المنشأ النفسي المتجذرة في العقل اللاواعي والتي تصيب المجتمعات والجماهير والأعراض الناتجة عنها هي أكثر تعقيدا وإبهاما من تلك التي تصيب الأفراد. ويعزو لوبون زيادة درجة التعقيد والإبهام في الأمراض النفسية على الصعيد الجمعي إلى مسألة طغيان حالة اللاوعي على صعيد الجماهير. يقول المفكر السوري هاشم صالح في مقدمة ترجمته لكتاب لوبون “سيكولوجية الجماهير” ملخصا نظرية لوبون حول نفسية الجماهير “الفرد يتحرك بشكل واع ومقصود، أما الجمهور فيتحرك بشكل لا واع، ذلك أن الوعي فردي تحديدا، أما اللاوعي فهو جماعي”. ولذلك يعتقد لوبون أن نفسية الجمهور هي بالطبيعة لا شعورية كونها غير واعية وبالتالي لا يمكن التأثير في آراء الجمهور إلا من خلال الأوهام والخيالات لأن الجمهور هو غير عقلاني ومخدر ومن السهل إيهامه وخداعه واستقطابه وتجييشه وتوظيفه كأي شخص منوم مغناطيسيا.
وعلى الرغم من أوجه الاختلاف بين علم النفس الفردي وعلم النفس الاجتماعي إلا أن هناك قواسم مشتركة بينهما من خلال حيثية الدونية. يشير ألفرد أدلر في كتابه “الطبيعة البشرية” إلى الدونية التي يشعر بها الإنسان في طفولته وهي دونية قسرية طبيعية تفرضها المرحلة العمرية ومجموعة الإدراكات العقلية والقوة الفيزيائية المحدودة والناقصة. أما الدونية التي يمارسها ويستسيغها الكبار والناضجون بشكل جماعي وبالجملة فهي طوعية واختيارية كون الأفراد المؤسسين للجماعة قد قاموا بحرية بتذويب وعيهم الفردي في بوتقة الجماعة الضالة. وكنتيجة فإن الكبار الناضجين في هذه الحالة هم عمليا أطفال من حيث العقل والإدراك، لا بل هم أسوأ من مثال الطفل الطبيعي الذي يذكره أدلر في كتابه، لأن الناضجين في هذه الحالة يعتبرون أطفالا غير عاديين، بمعنى أنهم كبار في الجسم وصغار في العقل.
الشعور بالنقص والدونية الذي جسده أدلر في شخصية الطفل هو شعور قسري وغير اختياري مرتبط بمحدودية ملكة العقل والإدراك وبالقوة الفيزيائية المحدودة. أما الدونية التي استساغها الكُرد في سوريا تجاه أشقائهم الكبار فهي دونية طوعية وقسرية في آن واحد. فمن ناحية أولى، هذه الدونية كانت ومازالت بمحض إرادتهم، لكنها من ناحية ثانية بدت وتبدو إرغامية، بمعنى تبدى ويتبدى للكُرد في سوريا أنهم لا يستطيعون الحركة والتنفس والبقاء إلا من خلال الأشقاء الظالمين في أربيل وقنديل.
لكن الفرق الجوهري بين حالة الدونية الفردية عند الطفل التي يستعين بها أدلر في بحثه وبين حالة الدونية الجماعية لدى الكبار التي يكابدها الكُرد في سوريا هو أن الطفل يسعى جاهدا للانعتاق من الدونية الطبيعية التي يعاني منها وغالبا ما يظهر امتعاضه منها، ويترجم هذا الامتعاض بمحاولات دائبة تصل أحيانا إلى مصاف المغامرات، فقط ليبرهن على أنه غير راض عن مظاهر وانعكاسات الدونية الطبيعية التي يذوقها. أما الكُرد في سوريا فهم سعداء وفخورون بالدونية التي أدمنوا عليها واستساغوها بفعل الزمن والعاطفة واللاشعور والإغراءات إلى درجة أنهم لم يعودوا يشعرون بها أو يخجلون منها لأنها باتت جزءا لا يتجزأ من ثقافتهم وطباعهم وتقاليدهم السياسية بفعل التقادم والتحديث المواظب لعقيدة الدونية نظريا وعمليا عن طريق الأتباع والمريدين والدونيين. وكنتيجة فإن الدونية الروحية والسياسية التي ينتهجها الكُرد في سوريا نحو أشقائهم الجائرين عليهم هي مركبة وشديدة التعقيد لكونها غير معترف بها وغير محسوس بها ولا يتم اعتبارها كآفة يستوجب الإقرار بوجودها وتشخيصها والعثور على الدواء الأنسب لها، بل على العكس من ذلك هناك إصرار على مزاولتها لأنها تحولت إلى شكل من أشكال المسلمات التي لا تقبل المساس والجدل والشك والتأويل.
*كاتب سوري كردي
المصدر: العرب اللندنية
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=48135