د. محمود عباس
نشرت وكالة رويترز من دمشق، بتاريخ 5/12/2025م، تقريرًا مطوّلًا بعنوان:
(تقرير خاص – من منفاهما في روسيا… رئيس المخابرات السوري السابق وابن خال الأسد يخططان لانتفاضتين).
قدّم سردًا دراميًّا عن “مخططات علويّة لإشعال انتفاضتين في الساحل السوري”، مصوّرًا رجالًا فارّين من النظام المجرم البائد، يتنقّلون بين موسكو وبيروت، ويؤسسون جيوشًا سرية من آلاف المقاتلين، ويستعدّون لاستعادة نفوذهم عبر ممرّات تحت الأرض وميليشيات ممولة.
غير أنّ القراءة الدقيقة تكشف أنّ ما كُتب يتجاوز حدود التحقيق الصحفي؛ فالتقرير، بأسلوبه الموجّه وتقاطعاته المريبة، يبدو أقرب إلى هندسة سياسية محسوبة منه إلى عرضٍ محايدٍ للوقائع، إذ يخلط الحقائق بالاحتمالات، ويمنح التخمينات وزن المعلومات المؤكدة، ويفتح المجال لتأويلات تخدم جهات بعينها أكثر مما تخدم الحقيقة.
فالتحقيق يُفرط في تقديم تفاصيل لا يمكن التحقق منها، عشرات آلاف المقاتلين المفترضين، غرف قيادة ممتدة على 180 كيلومترًا، ملياردير متدين يقرأ النبوءات، وضابط مخابرات يخطط لـ“حرب متعددة الأوجه”. ورغم ذلك، يعترف التقرير نفسه بأن لا طرف يملك القدرة الفعلية على تجنيد أو تمويل أو تنظيم أي تمرد ذي معنى. هذه المفارقة تفتح الباب لسؤال بالغ الأهمية: إذا كان المتمردون عاجزين، فلماذا يُنسج هذا الخطر الوهمي بهذه الطريقة؟
الجواب يبدو واضحًا، الخطر ليس المقصود بذاته، بل الخوف منه.
فالتقرير، الذي يقف خلفه قوى إقليمية والحكومة السورية الانتقالية، يقدّم مادة جاهزة لترهيب المكوّن العلوي الذي يعيش اليوم حالة ضعف تاريخية بعد سقوط نظام بشار الأسد المجرم البائد. وإظهار “مؤامرة” يجري حبكها من الخارج يمنح الحكومة السورية الانتقالية فرصة لفرض وصاية قسرية على هذا المكوّن بحجة “الحماية”، ويُعيد صياغة علاقة السلطة بالطائفة بطريقة تُذكّر بأبشع سنوات حكم الأسد، حين كانت الطائفة درعًا يستغلّه النظام ويتركه مكشوفًا عند أول منعطف.
لكن الأخطر من ذلك هو الرسائل غير المباشرة التي يرسلها التقرير إلى القوى السورية الأخرى، وعلى رأسها الكورد وقوات سوريا الديمقراطية. ففي سياق ملتبس، ومن خلال تصريحات لشخصيات من الحكومة الانتقالية، يلمّح التحقيق إلى أن قسد جندت آلاف العلويين، وهو ادعاء لا يملك أي أساس واقعي، ويبدو أقرب إلى فخ سياسي يُراد منه ربط الحراك الكوردي ببقايا النظام الاستبدادي السابق، وتشويه دوره كقوة تحاول تجنيب سوريا الانهيار الشامل. ومن شأن هذا الربط المصطنع أن يخلق ذريعة مستقبلية لاستهداف قسد وتقييد الشعب الكوردي تحت شعارات وطنية فضفاضة تُخفي مشروعًا مركزيًا قمعيًا لا يختلف كثيرًا عما سبقه.
أما تركيز التقرير على التنظيمات العلوية “المحتملة”، فهدفه يتجاوز الجانب الأمني. إنه يهيّئ المناخ لظهور سلطة أكثر تشددًا، ذات خطاب طائفي سني متوتر، تقدم نفسها على أنها البديل الوحيد لدرء “خطر الانتقام العلوي”. هذه الرواية، التي تتقاطع مع خطاب الجماعات التكفيرية وبعض القوى الإقليمية، هي البوابة الأخطر لإعادة إنتاج استبداد جديد، لكن بوجه عقائدي هذه المرة، لا بوجه أمني كما كان في عهد الأسد.
إن تقديم العلويين ككتلة واحدة، والكورد كقوة غامضة، وقسد كفاعل مريب، والحكومة الانتقالية كمنقذ، هو ترتيب سياسي محسوب يمنح كل طرف موقعه في مسرح جديد تُكتب فصوله خارج سوريا أكثر من داخلها. وفي مناخ كهذا، تصبح التقارير الصحفية أدوات لإعادة تشكيل الوعي، لا لنقل الحقيقة.
ومن هنا، فإن خطورة تقرير رويترز لا تكمن فيما كشفه، بل فيما يريد أن يجعلنا نعتقد أنه حقيقة. إنه لا يصف واقعًا بقدر ما يرسم حدودًا للصراع المقبل، ويعيد ترتيب الخريطة الطائفية والسياسية بطريقة تخدم سيناريو واحدًا،
سوريا خاضعة لسلطة مركزية متشددة، تستند إلى رغبة في الانتقام، وتُشرعن وجودها عبر التخويف من “الآخر”، سواء كان هذا الآخر علويًا أو كورديًا.
إن مستقبل سوريا لا يُكتب عبر تقارير مفبركة أو سيناريوهات مرتعشة. ولا عبر هندسة خوف جديدة. بل عبر مصالحة وطنية حقيقية، وعدالة انتقالية واضحة، ونظام سياسي لا يقوم على الطائفة ولا على الوصاية المسلحة.
وسيبقى السؤال مفتوحًا أمام كل السوريين:
هل يُترك مستقبل بلدٍ مُدمّر ليُرسم في غرف التحرير الخارجية؟ أم يكتب السوريون روايتهم بأنفسهم، بعيدًا عن التهويل، والخوف، والوصاية، والاستبداد الجديد؟
ملاحظة:
نشر الردّ المفصّل على تقرير رويترز في صفحتي الفيس بوك
https://www.facebook.com/mahmoud.abbas.18062/
الولايات المتحدة الأمريكية
1/12/2025م
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=80989





