خُمس مواطني تركيا يعرفون أنفسهم كأكراد، ولكن اللغة الكردية غير معترف بها ولا تدرس في المدارس. أمر لم يسلم به جيل الشباب ويبذل ما في وسعه للحفاظ على اللغة والثقافة الكردية. جولة في ديار بكر ذات الغالبية الكردية.
عند التجول في شوارع مدينة ديار بكر ذات الغالبية الكردية، يلاحظ المرء اختلافاً بين ما يسمعه وما يراه. فاللغة التركية لا تطغى تماما على السمع، ولكنها تسيطر على المشهد.
في مدينة تعرّف الغالبية العظمى من سكانها عن نفسها على أنها كردية، بالكاد ترى كلمة أو لافتة بغير اللغة التركية. حتى الاسم الكردي للمدينة التي تحمل رمزية خاصة بالنسبة للأكراد داخل تركيا وخارجها “آمد” لا يظهر إلا بخجل هنا وهناك وغالباً في إطار سياسي وكنوع من التحدي للوضع الراهن.
وقبل أيام قليلة من انتخابات برلمانية ورئاسية حاسمة في تاريخ تركيا تعج شوارع دياربكر باللافتات الانتخابية، وهنا أيضاً قلما نجد حزباً من الأحزاب المتنافسة يخاطب سكان المنطقة بلغتهم الأم، باستثناء بعض الأحزاب مثل حزب اليسار الأخضر المؤيد للأكراد والذي يستخدم اللغتين التركية والكردية في لوحاته الانتخابية.
“أردوغان قام بأفضل خطوة وأسوأ خطوة تجاه اللغة الكردية”
من الملفت للنظر أن حزب العدالة والتنمية الذي دخل السباق الانتخابي في تحالف مع أحزاب قومية، كان من الأحزاب القليلة التي خاطبت الناخبين باللغة الكردية. بلافتة كبيرة يذكر الحزب الإسلامي المحافظ بمساعي السلام التي أبداها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في بداية عهده وتوجت بالدخول في مفاوضات مع حزب العمال الكردستاني توسط فيها حزب الشعوب الديمقراطي آنذاك واستمرت ما بين عامي 2013 و2015 عندما أعلن الرئيس التركي فشلها ليتبع ذلك تصاعد في أعمال العنف في المناطق ذات الغالبية الكردية في جنوب شرق تركيا.
الصحافي والكاتب الكردي مراد بيرم، قال في حوار مع DW عربية إن “أردوغان قام بالخطوة الأهم في تاريخ تركيا تجاه الأكراد عندما انفتح على تعليم اللغة الكردية في الجامعات وسمح بتأسيس محطة ناطقة بالكردية تابعة للتلفزيون التركي الرسمي TRT”. في ذلك الوقت شهدت الحركة الثقافية الكردية في تركيا انتعاشاَ وأصبح العديد من الصحف التركية يخصص صفحات للغة الكردية.
ويتابع بيرم “الشخص نفسه الذي قام بالخطوة الأفضل في تاريخ تركيا تجاه الأكراد قام بالخطوة الأسوأ عندما حظر النشاط الثقافي الكردي بعد انهيار مفاوضات السلام”.
والنتيجة هي أنه من أصل 2000 صحيفة مكتوبة باللغة التركية في عموم تركيا اليوم هناك صحيفة واحدة باللغة الكردية وهي صحيفة أسبوعية، ومن بين أكثر من 470 محطة تلفزيونية ناطقة بالتركية هناك فقط محطة واحدة ناطقة بالكردية هي TRTKurdÎ، ويضيف مراد بيرم “أي أننا عندما نشاهد الأخبار بالكردية تكون أخباراً من وجهة نظر الحكومة التركية”.
من اصل 2000 صحيفة مكتوبة في تركيا هناك واحدة فقط باللغة الكردية وهي أسبوعية!
ولمواجهة هذا الوضع قام مراد بيرم بتأسيس منظمة غير ربحية هي Botan International معنية بدعم الإعلام الناطق بالكردية. يقول “بدأ العمل بجهد شخصي وتبرعات من محيط الأصدقاء والمعارف وفي غرفة في بيت أمي”، واليوم أصبح للمنظمة مقر في ديار بكر فيه غرفة أخبار واستوديو مفتوحين مجاناً لأي صحفي يحتاج لهما لإنتاج محتوى، وتعقد المنظمة شراكات مع منظمات عالمية منها مراسلون بلا حدود، كما يقدم مراد بيرم من خلال المنظمة ورشات عمل لتدريب الصحافيين الأكراد الشباب على العمل الصحفي باللغة الكردية.
تغير في الخطاب الرسمي للحزب الشعب الجمهوري
المنافس الأبرز للرئيس التركي، مرشح المعارضة كمال كليجدارأوغلو، ورئيس حزب الشعب الجمهوري، الحزب الذي عرف تاريخياً بحزمه في التعامل مع الهويات العرقية والدينية، اتخذ نهجاً جديداً على حزبه ولهجة تصالحية، ففي زيارة له إلى ديار بكر اقترح تشكيل لجنة برلمانية من أجل المصالحة وحل “مشكلة الأكراد” بحسب قوله، وبعد انطلاق الحملة الانتخابية رسمياً نشر كليجدارأوغلو فيديو على تويتر تحدث فيه عن المكونات الدينية والعرقية لتركيا وضرورة احترامها، واعتُبر الفيديو سابقة في تاريخ حزبه. يقول مراد بيرم: “أصبحنا اليوم نسمع ونقرأ كلمة (كردي) على لسان السياسيين، وهي خطوة جيدة. فعندما يعترف الآخر بأننا موجودون، قد يقتنع يوماً ما بأن لدينا تاريخنا وثقافتنا ولغتنا”.
وفي بلد يشكل فيه الأكراد حوالي 20 بالمائة من مجمل تعداد السكان، تبقى المطالبات بجعل اللغة الكردية لغة رسمية في البلاد مجرد شعارات تصدر من أحزاب كردية بحتة لا تلعب دوراً هاماً في اللعبة السياسية على مستوى البلاد.
مقاومة موت اللغة من خلال الأدب
إذا كانت اللغة هي الحامل الأهم للهوية ووسيلة تواصل الشعوب مع تاريخها وإرثها الثقافي، فهناك واحد من بين كل 5 مواطنين في تركيا غير قادر على التواصل مع إرثه الثقافي، لأن اللغة الكردية لا تدرس في المدراس، فالدستور التركي ينص في المادة رقم 42 على أنه “لا يجوز تدريس أي لغة سوى اللغة التركية كلغة أم للمواطنين الأتراك في أي نوع من المؤسسات التعليمية”.
في مقهى بالقرب من المدينة القديمة لديار بكر جلس الكاتب والصحافي عمر فاروق برهان وتحدث لنا عن تجربته مع الحياة بين لغتين. يقول “قضية اللغة الكردية بالنسبة لي ليست قضية قومية بل قضية إنسانية”، ويشير إلى أيامه الأولى في المدرسة الابتدائية عندما اضطر للاحتكاك للمرة الأولى مع لغة لا يتكلمها، وهي اللغة التركية ويقول “لقد كان ذلك من أوائل الكوابيس التي عشتها في حياتي لأني لم أكن قادراً على فهم شيء، والنظام التعليمي التركي لا يعلم التركية كلغة أجنبية في المدراس، بل يتوقع من جميع التلاميذ إتقانها كلغة أم”.
ويشير برهان إلى تأثير ذلك على الأداء المدرسي للتلاميذ ذوي الأصول الكردية بسبب الحاجز الذي تضعه اللغة أمامهم لفهم المواد التي يتعلمونها في المدرسة.
اليوم لدى الصحافي عمر فاروق برهان بودكاست أسبوعي باللغة الكردية موضوعه “كوابيس طفل في المدرسة لا يتكلم التركية” يستعرض فيه ذكرياته ومواقف عايشها في طفولته في المدرسة، ويعمل على التأليف الأدبي باللغة الكردية، ويقول لـ DW عربية “أنا أنتمي إلى جيل تعلم الكتابة والقراءة بلغته الأم من خلال التعليم الذاتي وتبادل المعرفة مع الأقران”، ويضيف أن جيله يقاوم موت اللغة الكردية من خلال التأليف والكتابة، ويحلم بجعل دياربكر عاصمة العالم الثقافي الكردي. ويقول: “مشكلتي ليست سياسية، وليست مع اللغة التركية، وإنما مع فرض نظام لغوي شمولي على الجميع”. ولكن يعتقد الأكراد في تركيا أنه حتى هذه المقاربة تعتبر رأياً سياسياً.
أما مراد بيرم ومع أنه يرى أن المسؤولية الأولى عن الوضع الحالي للغة الكردية تقع على عاتق الحكومة التركية، ويقول: “هناك مسؤولية أيضاً على الأكراد أنفسهم لأننا نعيش اليوم فرصة ذهبية تكمن فيما يقدمه الأنترنت من إمكانيات نشر وتواصل، ولكن حتى الآن لا يبذل الأكراد كل ما في وسعهم لاقتناص هذه الفرصة” حسب بيرم.
ميسون ملحم – ديار بكر
المصدر: DW
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=23339