دجوار أحمد آغا

هناك الكثير من الفنانين الكرد المخضرمين الذين بقوا مجهولين بعيون وفكر شعبهم، ولم يتم ذكرهم ولا تاريخهم المليء بالعطاء. معظم هؤلاء الفنانين حافظوا على تراث الآباء والأجداد الكرد بأصواتهم، التي كانت تصدح في الليالي الصيفية المقمرة، خلال السهرات، التي كانت تتم في معظم القرى الكردية، أو في ليالي الشتاء الطويلة، والتي كان يجتمع فيها الكرد في الغرف الكبيرة المخصصة للسهر، حيث كان يأتي الفنان أو المطرب الشعبي ويقوم بتقديم قصة فلكلورية عن طريق الغناء بأسلوب شيّق وبأداء رائع، ينسجم معه الساهرون ويشاركونه القصة من خلال التمجيد والتهليل للبطل.
من أشهر هؤلاء الفنانين في ربوع روج آفا كردستان، الفنان القدير “رفعت داري” وسوف نتحدث في هذه المقالة عن سيرة حياته، وما تركه لنا من أغانٍ خلّدها بصوته الرائع.
الولادة والنشأة 
قرية “داري” العريقة والمتوغلة في التاريخ، هذه القرية، التي تقع الآن في باكور كردستان، أو كما كان يُقال لها “سرخت” شهدت في العام 1934 ولادة طفل سيصبح ذا شأن في عالم الغناء والطرب الكردي الأصيل، إنه رفعت داري. الذي لم يطل به المقام في داري، حتى بلغ العاشرة من العمر، فانتقلت عائلته من “سرخت” الى “بنخت” أي إلى روج آفا كردستان وسكنت قرية “خربي كورما” في ريف مدينة عامودا، ومن هناك توجه مع عائلته إلى قرية “حاصدة” والتي استقروا بها.
العمل والتوجه للغناء 
مثل الكثير من أقرانه، توجه الشاب اليافع رفعت داري إلى العمل في مجال الآلات الزراعية وقيادتها سواء الجرارات، أو الحصادات. كما أنه عمل في رعاية الأغنام. لكنه في قرارة نفسه، كان يشعر بقوة في داخله يستمدها من أمّه، التي كانت تُسمعه أرق وأعذب الألحان، وهو ما يزال في رحمها مستمتعاً بصوتها الدافئ الحنون.
بدء الغناء رويداً رويداً وبثقة كبيرة بصوته وأدائه المتميز شارك في الكثير من الحفلات الغنائية والسهرات، ومجالس الطرب والغناء.
أثر في مسيرته الفنية بعض الفنانين ممن عايشهم، ومنهم الفنان الشعبي المرحوم (علو داري). كان يجتمع بكبار السن المهتمين بالغناء والفن، ويستمع إلى أحاديثهم بعشق ويحولها قصصاً وملاحم، ويقوم بغنائها. أحياناً كان هذا الأمر يكلفه مسيرة كيلو مترات سيراً على الأقدام من قريته حاصدة إلى قرية دودا ليجتمع بمحبيه وكبار السن هناك.
صوت قويّ وغناء ملحمي
صوته كان قوياً لدرجة أنه كان يبدأ غناءه من العلامة الموسيقية “فا” وأحياناً “مي” حسب ما يذكره عازف الأورغ “علي داري” موضّحاً أنه كان يتدرّج بقوة حتى يصل إلى العلامة “صول” وأحياناً “لا”.
معظم ألحانه، التي ألفها وغناها، كانت من مقامات (البيات، عجم، الحجاز، ونهاوند). وقد رافقه في العزف كبار الفنانين أمثال أمير البزق “سعيد يوسف” والبلبل الحزين “محمد شيخو” والعازف المتميز “عبد القادر سليمان” وعلى آلة العود الفنان الكبير “محمود عزيز شاكر”. أما العازف الأبرز الذي رافقه على آلة “الكمنجة” فهو صاحب النغمة الجميلة، والمتميزة “موسى كنيه”.
لم يكتفِ بنوع واحد من الغناء، بل غنى مختلف أنواع الغناء الكردي، غنى للطبيعة وللعشق والجمال، غنى للوطن بشكل مبدع ومتألق. غنى للفئات كافة منطلقاً من نفسه العاشقة للحياة، والحرية، والطبيعة الخلابة والجمال الإلهي.

سفره إلى لبنان 
خلال العام 1971 قام أبناء الجالية الكردية في لبنان بدعوة مجموعة من الفنانين الكرد إلى بيروت لإحياء عدّة حفلات غنائية، وكان من بين الفنانين المدعوين الفنان الكبير رفعت داري إلى جانب عمالقة الفن محمد شيخو، ومحمود عزيز شاكر، وسعيد يوسف، ورمضان نجم أومري. وقد شارك في حفلة عيد النوروز، العيد القومي للشعب الكردي، وأطرب الحضور بغنائه الأصيل. خلال فترة بقائه في لبنان، تم دعوته من جانب التلفزيون اللبناني الرسمي حيث أجرى معه الحوار المذيع اللبناني المتألق رياض شرارة، غنى خلال اللقاء ساعة كاملة على الهواء مباشرة عبر القناة الرسمية اللبنانية أجمل أغانيه، التي تعبّر عن الفن الكردي العريق. من أشهر ما غنى وقتها أغنيته الشهيرةHemê birin eskeriyê) ) والتي تعني أخذو محمد إلى العسكرية.

الوفاة وعدم الوفاء 
رغم أن الفنان القدير رفعت داري بقي مخلصاً لفنّه، الذي عشقه وأحبّه بعمق، إلا أنه لم يحظ بالوفاء، الذي يستحقه من جانب الهيئات والمؤسسات الثقافية المعنية. توقف قلب فناننا القدير “رفعت داري” عن الخفقان في 27 آب 1990 وتم دفنه في مقبرة الهلالية بجانب الفنان الخالد محمد شيخو. ورغم إنه كل عام يُحتفل بذكرى وفاة الفنان الكبير محمد شيخو في التاسع من آذار 1989 وهذا محط تقدير واحترام، إلا إن الفنان الشعبي القدير رفعت داري مدفون بجانبه، ولم يلق أي احتفاء واستذكار لرحيله حتى الآن إلا ما ندر، تُرى أليس من الممكن والأولى بالمؤسسات الثقافية والفنية، التي تُقيم مهرجانات وحفلات تكريم، أن تحتفل بذكرى وفاة هذا الفنان العملاق وتسليط الضوء على سيرة حياته وفنه، اللذين لم ينضبا.
أغانيه ومواقفه
اشتهر الفنان رفعت داري بأسلوب القصة الغنائية حيث كان يغنّي ملاحم وقصص حب وعشق بالإضافة إلى قصص الظلم والمقاومة وغيرها من الملاحم الكردية العريقة. ومن أشهر ما غنى وتحدى من يستطيع أن يغني تلك القصص بروعة غنائه لها: (حمدين وشمدين، وفاطمة صالح آغا، وظالم بك وناصر بك، وكوجرا دشتى هومانه، وسيامند وخجي، وكريفي).

ومن الجدير بالذكر، أن “لازكين داري” الابن البكر للفنان الراحل، قد ذكر عدة أمور حول حياة والده لموقع بوير Buyer منها:
أن والده واجه صعوبات كثيرة في بداية توجهه للغناء لأن عائلته كانت ترفض فكرة الغناء في الحفلات. كما ذكر أنه في العام 1983 قام الروائي الكردي الكبير “محمد أوزون” بزيارة والده في منزله بمدينة قامشلو من أجل إعداد كتاب خاص عنه، وأن والده سجّل ملحمة “خجي وسيامند” بصوته لمدة ساعة كاملة على كاسيت مسجلة. وأن الروائي أوزون أراد إعطاء والده هدية بقيمة ألف ليرة، لكن والده رفض ذلك. كما ذكر لازكين أن الأغنية الأشهر لوالده (فاطمة صالح آغا) قد سجلها في منزل الفنان القدير زيدان بافي فريد آطال الله بعمره، وعزف معه الفنان الخالد الراحل الكبير محمد شيخو.

المصدر: صحيفة روناهي

شارك هذه المقالة على المنصات التالية