التصنيفات
القسم الثقافي

صدور الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر أنسي الحاج

صدور الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر أنسي الحاج

أحمد ديبو_
صدرت في بيروت الأعمال الشعرية الكاملة لشاعر الحداثة، أنسي الحاج، عن “دار المتوسط للنشر”. هذا حدث ثقافي هام، ومنتظر بلا شك؛ لأن أنسي الحاج قامة شعرية لا تدانيها قامة أخرى، فهو رائد الحداثة وأحد أعضاء مجلة “شعر” الشهيرة.
لا أدري إذا كان أنسي الحاج قد انتمى إلى مدرسة سياسية، لكن الحريّة كانت هاجسه الأكبر، حبّه الأوّل والأخير، دافع عنها بما في قلمه من حبر، وبما في جسده من دم، فالحرية فيما تتعلق به، هي العائلة، والمجتمع، والوطن. كان أنسي الحاج عمود بيت النهار، نشأ جيل على قراءته في الصفحة الأخيرة من “ملحق النهار” كلماته بروقٌ، تضيء لنا الدرب؛ حينما تنحدر بنا الحياة إلى الحضيض، لم يكن كلاسيكياً، بل كان مجدّداً وساحراً، اللغة بين يديه تغدو كالدمية بيد ساحرٍ هندي، يُخرجها عن طورها، ويُخرج منها ما لا نتوقع أن يخرج، يدميها كي يطوّعها، يعرّيها كي يُلبسها سديم روحه، حتى أصبح المبتدأ في اللغة، والخبر في الجريدة، والكاف في المخاطب، والمضمر في النداء، والمستتر في الغائب، والمومأ إليه في الكتابة، وحبر اللغة الواجف لو أبرقت، والصاعقة في الخطف والافتراس، والعريس في الاحتفال، فكيف لنا أن نجمع كل هذا في قبرك ونقول، هذا أنت؟
أعظم لذة لدى شاعر يعيش في وطن صغير، هو تزويده بالشعر الكبير.
الشعر الفاخر، الشعر، الذي يبسط سلطته على أوطان، وشعوب كبيرة.
هذه ميزة لك يا أنسي، وأنت ابن الوطن الصغير لبنان اليانع بالخضرة.
هنالك أيضاً ميزة اللذة في الحب، في منح النفس كاملة، ومقشّرة للشعر.
وهذه اللذة هي لذة زهو، لذة تخضيع اللغة، التي لا تدانيها لذة؛ لأنها الخلق.
باكراً أزهرتك الموهبة، وأنت ابن البيت العريق، ابن أبيك، وباكراً أثمرتك شاعراً لا تدانيه قامة، وأثمرتك صحافياً، وناثراً، ومسرحياً، ففرشت الأرض، والفضاء طرقاً لغوية، وكلمات تملأ الليل صباحاً.
ومع ذلك، كنت في عزلة ريّانة دافعت عن نوعيتها؛ لأنك كنت تجد فيها اتصالاً عمودياً، وعميقاً، لا أفقياً مع الآخر. وكانت رفيقتك إلهية، فدافعت عنها، واعتززت بها، حتى اكتويتما معاً بالنار المقدسة. قبلك ومعك ويجيء بعدك الشعراء، الذين همّهم في الكتابة، هو سعيهم الى توسّل ادهاش الجمهور، وكان همّك أن تجعلنا نحلم.
الفضيحة كانت أن أغلب القرّاء يساراً ويميناً كانوا بالغي العجز عن الوصول إلى قوة الأحلام، التي أوقدها شعرك.
هذا دليل النفوس الصغيرة، التي رغبت أن تُدهَش بوسائط خارجية، بخدع شائنة؛ لأنّها عاجزة عن الانتشاء أمام الشعر المشغول بأخلاقية اللعبة الشعرية، وعبقريتها، التي كنت ربّها، وستبقى.
في باكورتك الشعرية “لن” وفي “الرأس المقطوع” أيام مجلة “شعر”، وكنت أصغرهم، وأكثرهم نزقاً وقولاً، عجنت وحلاً، وصنعت ذهباً.
أمّا في “ماضي الأيام الآتية”، و”ماذا صنعت بالذهب، ماذا فعلت بالوردة”، فكنت تضع فيها قوة قلبك، وبهجة شبابك، وتلك اللمسة الشفوية الأسهل استخداماً، والأكثر نعومة ورقة.
إننا هنا لم نعد نعثر على ضوضاء “لن”، بل على كلمات تحرّر نفسها بكلمات غيرها.
أمّا في “الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع” كنت حرّاً كإله.
في هذه القصيدة الديوان نجحت في أن تثبّت في أذهاننا طعماً لاذعاً عن الحب، ووسناً نحبّه في النساء، من خلال صور مموسقة، ومتروكة في هجير الحب؛ كي تمتلئ وهجاً وعذوبة، فصدمتنا وعلًمتنا الحب.
قصيدة جعلت النساء، والفتيات يعرفن كيف يغرمن بأجسادهن، وجعلتهنّ يقفن أمام مراياهن؛ كي يتأملن قاماتهن الناضجة، وجعلتهن يؤمنّ أنه لم يزل هناك في الشوارع والأسواق، في الحدائق العامة، كما في الجامعات، شبان ورجال، يعشقون بحقّ، ويستعدون لامتطاء جسارة الحب، والانسحاق شوقاً تحت قدميه.
وجعلت من الشعراء الردّاحين الطنّانين يتوارون أمام عذوبة هذه الموسيقى الداخلية، التي تفور كالبركان من بين ثنايا قصيدة النثر، وكنت تتحداهم؛ فعادوا يغطّون حيرتهم بالماء.
أمّا “الوليمة” ففيها جمال الفلز الكريم، ومهارة الطرق، والنار الذكية، كنت فيها مفتوح العينين؛ كي لا تدعنا نستيقظ ونقرأ، فعشنا أحلاماً في سطع النهار، حتى محوت أنانيتنا عنّا، ليكون شعرك أنانيتنا.
وكم مشينا إليك بالأحلام؛ حتى بللنا مطر القلب، لأن الصور، التي يبثها شعرك كانت مخلّصة من كل مظهر، فمن شأن ألقها أن يفضح زيف الأقنعة والدروع، هي كل ما تناولته يد القلب بأنف، حتى يُدرك حملها عارياً حاسراً عن الشوائب، والبدع، والتزايين.
أمّا في “خواتم”1، و “خواتم” 2، فلا شيء سوى البرق والسنا، برقٌ وسنا، ثم برقٌ وسنا، وأنت القابض أبداً على جمرتهما.
أيها الشاعر، الذي لن ترحل عنّا، ومنّا أبداً، فكلّماتك هي جسدك الباقي بيننا الى الأبد.
كيف لرجل هو نفسه كاملاً، بلا نقصان، بوهجه، وهدوئه، وغناه الداخلي، وقوة حضوره، وعمق نظرته، وسرعة ملاحظته ودقّتها، ووسع أفقه، وكثرة اهتماماته الوجودية والثقافية، وبإصغائه الأمثل، ونزقه، وظرفه، ومرحه، ومودته، وشغفه؟ أ أمرٌ يكاد لا يصدّق!!.
هذا هو تماماً بعض مزايا الانتصار البشري على الحيوان، وانتصار الروح على الجسد، وانتصار الوعي الرائي على عمى العناصر.
هو نوع من أنواع الاستعلاء الأرستوقراطي الرفيع، النبيل، المطلق للروح، وتغلغلها في ثنايا الوعي والكون.
كأن أنسي الحاج لم يكن بحاجة الى صرخة بولس الرسول: “من يحررّني من هذا الجسد الترابي؟.. لقد كان محرّراً في صورة تلقائية منه.
لم يكن بحاجة إلى صورة “القصبة التي تفكّر” التي يجمع فيها باسكال هشاشة الإنسان، وعظمته الرهيبتين.
تصدر أعمالك الكاملة أيها الشاعر الكبير في غيابك، ونحن الذين عرفناك بالرقة، التي تفيض كالدموع عن حاجة الحب، وبالضحكة التي توقع ناسكاً عن الكرسي، بالشغف الذي يخلخل اليقين من جذوره.
كأنّك خليط غير مسبوق من زوربا والمسيح، من نيشه، ونوفاليس، ومن ريلكة وجبران.

​الثقافة – صحيفة روناهي  

شارك هذه المقالة على المنصات التالية

Exit mobile version