التصنيفات
القسم الثقافي

محمد تقي جون: أبو فلس البغدادي

الاستاذ الدكتور محمد تقي جون

الجبال الشاهقة جدا المنقطعة عن العالم، والمتعالية على العالم، تخفي أسرارا غريبة وعجيبة قد تفوق عالم الخيال. ففي الجبال التي تسمى ارارات يحكون ان احد الجبال فيه عينان متجاورتان احداهما تسكب ماء حلوا والاخرى تسكب ماء مالحا. ويوجد جبل نتأ فيه حجران متباعدان نسبيا، اذا دفعت الاول الى الداخل اندفع الثاني الى الخارج. ومرة ذهب فريق الى أحد مجاهيلها فجلبوا شيخا حيا طاعنا في السن كأنه هيكل عظمي، كانت اقدامه طويلة وحجمه اكبر من حجم الانسان الاعتيادي. وذكر غير واحد انه شاهد طيورا ضخمة لها ريشات ذات الوان زاهية، تصدر وهي تطير صوتا قويا مخيفا كالرعد المتقطع؛ هي في الاصل حيات نادرة اذا كبرت تطلع لها أجنحة فتطير كالنسور وتبتني اعشاشها في قلل الجبال، واذا وقع سمها على جسم انسان يذيبه فورا. واحاديث وقصص كثيرة يتكلمها الناس القريبون والمحيطون عن  (جوانزما) أو الطنطل الذي عيناه بالطول وليس بالعرض، هي اقرب الى الاساطير والخرافات، الا انهم يؤكدون رؤيتهم له وكل من يحدثك بلا استثناء لا يقول سمعت بل يقول: رأيت بنفسي.

في مقهى الزهاوي في خمسينات القرن الماضي كان يتردد على المقهى رجل تخطى مرحلة الشباب يعمل حمالا في الشورجة، ويجلس في المقهى في (العصريات) كان في خديه حفرتان بمقدار الفلس، فكانوا ينادونه على ذلك (أبو فلس) دون أن يعرفوا المسبب لهما. ومع الوقت تعرف الى مجموعة من البغاددة وصارت بينهما ألفة. عرفوا ان اسمه (محميد) وانه عاش طفولته وشطرا من شبابه في منطقة الجبل.

لقد عرفوا بأنه لا يريد التحدث كثيرا عن شيء هم (يحومون حوله). ولعله تجنيا له كان يختصر ويحور ويدور ليغير الحديث من الماضي (المؤلم) الى الحاضر الواقعي. ولكن احدهم (رشيد أبو شوارب) كان مولعا بقصص السحر والاعاجيب لم يقطع الامل او (الظنة) به. حتى سأله:

  • محميد
  • نعم خويه
  • شنو هاي اللي بخدك بگد الفلس

بدا الخجل على محميد أو الحزن؛ فقد احمرت خدوده ورسم الدمع حدودا مائية في عينيه، ولكنه شد نفسه وملكها فغارت المياه قبل ان تسيل جارفة حارقة. عرف (رشيد أبو شوارب) انه امر كبير فليس سهلا ان يبوح به. لعله لا يطيق الحديث عنه لانه يسبب له الما فوق طاقته. فاستطرد رشيد أبو شوارب:

  • هاي شبيك اتشاقه وياك.. يالله اليوم الچايات علي.

وانصرف الجميع الى بيوتهم.

في الليل والى وقت متأخر ظل رشيد أبو شوارب سهران يفكر في أمر محميد، وكيف انه اصيب بالذهول واعتصره الحزن حين سأله عن الحفرتين في خده. قال (هاي السالفة وراها سر كلش چبير) ولم ينتبه الا على صوت الحجية (نظيرة أم فلاح) (تنده عليه: عوافي حجي) فقال لها (ماكو شي) ثم عاد الى فراشه ونام نوما عميقا ظل يشخر الى الصباح. فقالت الحجية: (داده هاي اول مرة رشيد هيچ يشوخر لازم عنده حسبه چبيرة).

كانت نظرات رشيد أبو شوارب تذكّر محميد باستمرار بسؤاله دون الحاجة الى النطق به. وكلما وقعت عينا محميد على رشيد أبو شوارب يثار فيه السؤال نفسه. قال محميد في نفسه (رشيد أبو شوارب بغدادي قح وكلشي يعرف. حتما هو الان يعرف سبب الحفرتين في خديّ ولكنه فقط يريد معرفة التفاصيل).

في احدى الجلسات مع صوت المسجل (الفونوتوغراف) وترجيع صوت صديقة الملاية، وطقطقة (الاستكاين) صاح محميد على رشيد ابو شوارب والحضور الاصدقاء (حجي… سألتني مرة على الحفرتين في خدي) فنهض رشيد ابو شوارب وكان مائلا في جلسته يستمع بانتباه الى اغنيتها (فراگهم بچاني) وانتبه الحصور معه بقوة واعاروه سمعهم وابصارهم بالكامل.

قال محميد: كنت في الجبل في اول الشباب في احدى القرى المطلة على جبل (أناران) الشامخ، كان لدي دكان عطاريات. وكان هناك شيخ كبير يأتي اليَّ بين مدد متطاولة (يتسوق) وفي كل مرة كان يجلب معه طفلا صغيرا من القرية، وبعد ان يكمل تسوّقه يسألني عن المبلغ فأخبره فيمد يده في كيسه ويعطيني ضعف المبلغ الذي طلبته.

في احدى المرات جاء الشيخ ومعه طفل اعرفه؛ ابن احد اصدقائي. وتسوق كالمعتاد، وكالمعتاد اعطاني ضعف المبلغ الذي طلبته وانصرف الى الجبل. فأثار فيَّ الفضول ولم استطع تحمل نسيان امر الطفل الذي اعرفه. وحاولت دون جدوى أن اربط بين الشيخ الغريب والطفل الذي اعرفه، ولماذا هو في كل مرة يأتي بطفل جديد ثم يذهب به الى الجبل؟!!

قلت والله لأتبعنه. فسرت خلفه دون أن يعلم. فسار بين اشجار ومنعطفات ونزل في وديان وصعد الى هضاب ودخل في مجاهيل، وكلما ضجر الطفل اعطاه شيئا ليسكته، فازداد فضولي لمعرفة قصته وشددت  الحزم وكانت معي بندقية تركية قديمة من نوع (التلقيم الفوَّهي) التي تسمى (فلينتلوك) وهي بندقية بدائية تحشى بالفتيل والبارود وكرات تسمى (الخرطوشة) ثم تخلط بالمرود وعند الرمي يضغط على الزناد مرات كثيرة حتى ترمي الطلقة.

وبقيت أسير خلفه حتى وصل الى الجبل الشاهق فأمسك الطفل بكل قوة وربطه على شجرة أمام الجبل. أخذ الطفل بالصراخ الذي صار يتعالى صعودا، وصدى الجبال والتلال والوديان تعظّم الصدى وتردده مدويا. فشدهت ولم اعلم بماذا يفكر الشيخ، وحاولت ان اخرج اليه او اضربه ببندقيتي البدائية ولكني رأيت في اشيائه بندقية انگليزية (برنو) (أم طگتين) بندقيتي امامها أقل من العصا، فسكتُّ وانتظرتُّ.

مر نصف ساعة او اكثر قليلا بقي الطفل يصرخ وعينا الشيخ تنظران الى الجبل العالي كأنه ينتظر قدوم شيء من قمته. فانطق هدير يعلو ويعلو، وتبينته فاذا هو طائر عملاق يحلق في القمة ويدور حولها، وحين اقترب هبوطا رأيته مخلوقا غريبا كالمسخ؛ رأسه رأس أفعى ضخمة، ولديه ذيل طويل، وأجنحة كبيرة زاهية الالوان، فقلت في نفسي هل هذا هو (التنين) في القصص العربية الخيالية اراه واقعا؟ فارتعبت وكدت اسقط ولكني تماسكت. فوقع (الطائر- الافعى) على الطفل وظل يعضه ويتركه ثم يعود اليه فيعضه، وصوت الطفل يتخافت حتى سكت تماما، وعاد الطائر الى عشه في قلة الجبل.

عندها بدأ الشيخ عمله؛ اخرج طشتا كبيرا وفكَّ الطفل من الشجرة والقاه في الطشت، ثم اضاف اليه بعض العطاريات التي تسوقها مني، ومواد اخرى لا اعرفها جلبها من مكان آخر، فالقاها كلها على الطفل. ثم لبس كفوفا طويلة الى فوق المرفق، واخذ (يعجن الطفل) واللحم والعظام صارا من الرخاوة واللين كالطين الحري. ولم يمر وقت حتى ضاعت ملامح الطفل وصار عجينة جاهزة.

قلت في نفسي (سألعن والديك أيها الساحر اللعين). وعرفت انه في كل مرة يفعل بالأطفال نفس الشيء لعمل سحر قوي. ونسيت مخاوفي من أن ينتبه علي فيقتلني لهول ما رأيت من شر لم أسمع به. فدنوت منه متخفيا ومتغطيا بالاشجار حتى صرت وراءه مسافة امتار قليلة، وهو جالس مستغرق في (عجن الطفل) وعلى مرمى بندقيتي البدائية.

لقَّمت البندقية بصمت وهيئتها ثم وجهت الفوهة بين كتفيه وظللت أضغط على الزناد مرات لا حصر لها منتظرا البندقية تحمى فتطلق رصاصتها الكريمة، حتى انطلقت الرصاصة فأصابته بين كتفيه فصاح صيحة عظيمة والتفت الى الخلف فوجدني، ولم تكن بندقيتي تسمح باطلاقة ثانية سريعة لارديه في الحال، فظللت احدق فيه، فرقع كفيه الملأى بالعجين من الطشت ونفضهما في وجهي فجاءت قطعتان صغيرتان من العجين المسموم في خدَّي فذاب اللحم سريعا بحيث ظهرت أسناني من الجانبين، وأحسست بألم لا يطاق، فأخذت أعدو بلا هدى هاربا من الالم والشيخ، الذي نهض وحاول اللحاق بي ولكنه تهاوى على الارض، وبقيت اركض حتى وصلت القرية، فتداويت وشفيت لكن بقيت حفرتان في خدي بمقدار الفلس وهما اللتان ترونهما.

قال رشيد أبو شوارب: نعم أصدقك فقد سمعت قصصا كثيرة من هذا النوع عن أمور السحر واسرار الطبيعة، وهذه الأغرب والأعجب، والفلس في خديك دليل عيان.

شارك هذه المقالة على المنصات التالية

Exit mobile version