التصنيفات
آراء

مفهوم اللامركزية والإدارة الديمقراطية

رياض درار

تشكل الإدارة السياسية للدول إحدى التحديات الأساسية في بناء أنظمة حكم عادلة وفعالة. فالنموذج الإداري الذي تتبناه الدولة يؤثر بشكل مباشر على حياة المواطنين وقدرتهم على المشاركة في صناعة القرار. في خضم التحولات السياسية والاجتماعية المعاصرة، برز مفهوم اللامركزية كبديل جوهري للأنظمة المركزية التقليدية، يهدف إلى تعزيز الديمقراطية وتوسيع مساحات المشاركة المجتمعية.

عن السلطة المركزية

يُعتبر مفهوم الإدارة الديمقراطية نقيضًا لمفهوم السلطة المركزية في الدولة، فالدولة بكافة أنماطها تشكل بؤر السلطة المتحكمة بالأطراف لتمكين حكمها بهدف المحافظة على النظام، وضبط العناصر المسببة للفوضى، والسيطرة على مفاصل الحياة في المجتمع. وبالتالي تشكل المركزية بالنسبة للدولة عنصر تركيز وتكاتف للسلطة في مركز معين، حيث تُدار كافة الشؤون الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في هذا المركز الذي يكون هرميًا بالضرورة. فلا يمكن للمستويات الأدنى أن تتصرف إلا بناءً على أوامره وتعليماته، حيث تتمركز القرارات بيد أشخاص أو مؤسسات محدودة كجهاز رئاسي أو حكومي، فلا يصدر قرار إلا بموافقة هذا الجهاز. ومن أجل أن يكون هذا الشكل قانونيًا، فإن هذا الجهاز يخضع لآلية قانونية تشرّع العلاقات بينه وبين الإدارات، ومع المحكومين، وهو الدستور. ولكن الدستور في دولة السلطة المركزية قد يبقى حبرًا على ورق.

حين تتمركز القرارات والسلطة في موقع جغرافي يصبح المركز قوة احتكارية يتدفق إليه رأس المال الاقتصادي والمعرفي. ومن خلال معاملات بيروقراطية يسود العجز في إنتاج المعاملات نتيجة الروتين والقواعد الإدارية الطويلة، وتصبح الأطراف مناطق مهمّشة خدميًا وإداريًا.

وبسبب تمركز القرار بيد قلة من الأفراد الذين يرون كافة الأمور من منظور واحد، والمسائل من زاوية واحدة، فإنهم سيضعون على القضايا المختلفة حلولًا موحدة. مما يسبب الوقوع في الأزمات ويخلق حالة من الاستياء لدى المجتمع بسبب البطء في إنجاز المعاملات، وتراكم المشكلات التي تقود إلى التذمر والاضطرابات.

إن الدولة القائمة على مفهوم السلطة المركزية تعني أن طبقة أيديولوجية واقتصادية هي التي تسيطر، فتفرض مؤسساتها الحزبية والدينية والاقتصادية، وتفرض الشراكة بين الرؤوس التي تتغول في المجتمع لحسابها الذاتي (فرعون وهامان وقارون).

ومقابل هذه السلطات (السياسي المتحكم والأيديولوجي المنظّر – ديني أو حزبي – والاقتصادي الاحتكاري) ظهر المجتمع المدني كحالة نقيض للسلطة المتغوّلة في مفاصل الدولة والمجتمع، وفي الحياة اليومية للأفراد. فقام ممثلو هذا المجتمع بمناهضة سلطان الدولة عبر وسائل سلمية معارضة تتصدى للقهر الاجتماعي والطبقي والسلطوي، سعيًا باتجاه العدالة الاجتماعية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وبحثًا عن حالة استقلال للمجتمع المدني وحيادية الدولة بغاية السير على طريق إدارة التنوع، وتوثيق العيش المشترك، والتخلص من إرث الاستبداد بكافة صوره ومظاهره.

لكن المجتمع المدني في دولة السلطة المتغولة والمركزية لا يستطيع الوصول إلى أهدافه، حيث التهم جاهزة، من مناهضة التوجهات السياسية للدولة إلى العمالة والولاء للخارج. وفوق هذا تم احتواء تشكيلات المجتمع المدني وتحنيطها في وزارات وهيئات تتحكم بها البيروقراطية.

إن دولة السلطة المركزية يمكنها الالتفاف على كل الحركات الاجتماعية، ويمكنها استخدام نفس الأدوات التي يسعى أصحابها للتخلص من تغوّل المركز في المؤسسات وفي تنظيمات المجتمع، كما فعلت مع المجتمع المدني. واستخدمت شعارات ديمقراطية، وتبنت الاشتراكية والعدالة الاجتماعية كشعارات مفرغة من أي مضمون. لذلك كان لابد من التقدم بأساليب لمعالجة ظاهرة التسلط والتحكم المركزي كبديل قادر على حل مشكلة الاستبداد الناتجة عنه.

لقد استخدمت السلطات شعار الديمقراطية في برامجها السياسية لكنه بقي شعارًا طنانًا لا مفعول له، لأنه مفرغ من الجدوى ولا يعبر عن معناه في حكم الشعب لنفسه. بمعنى القدرة على إدارة شؤونه الذاتية التي تتطلب قيام الوحدات المحلية من خلال مؤسسات ذاتية بإدارة شؤونها الخاصة ومن خلال عقل تشاركي يسعى لإيجاد الحلول للمشاكل والقضايا اليومية، الخدمية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.

حيث تظهر اللامركزية تعبيرًا عن الإدارة الديمقراطية بما تعنيه من مشاطرة الإدارة مع الكل، ومباشرة الديمقراطية المباشرة من الكل. توزع السلطات والوظائف الإدارية بين الوحدات الصغيرة وعلى مستوى الأقاليم، لتعبّر عن حاجاتها على ما هي عليه، ومساهماتها في التنمية وإعطاء دورًا أكبر للمجتمع المدني.

عن اللامركزية والديمقراطية

الإدارة الديمقراطية تتطلب نظامًا لامركزيًا يكون فيه الشعب مصدر السلطات فعلًا، ويتحقق فيه مستوى الممارسة الديمقراطية عبر توسعة النظام الرقابي، مع القدرة على محاسبة من يخرج عن إرادة الناخبين المحليين. بمعنى حضور الرقابة المباشرة، وإمكان الناخب المباشر حصر الإخلال والقصور واتخاذ الإجراءات المناسبة عبر البرلمان المحلي من معالجة هذا الإخلال والقصور والحد منه. وهذا ما يُدعى نتيجةً “الديمقراطية التشاركية”.

مفهوم اللامركزية الديمقراطية هو أوسع من مفهوم إدارات محلية، الذي صُدر على أساسه القانون 107 عام 2011. فاللامركزية الديمقراطية تقوم على أساس الإدارات الذاتية، وهي نظام حوكمة إداري وتنظيمي تتوزع فيه السلطات مع المركز، ويستطيع صنع القرار في جميع أنحاء المنطقة التي يديرها.

إن مشكلة التطبيق اللامركزي تكمن في عرقلة الرؤية الشمولية لنظام الدولة المركزي، وقيادة الحزب الواحد (بعث أو إخوان) وتحكم هوية قومية (العربية في سوريا) أو الهوية الطائفية (السنة كطائفة الأكثرية). لذلك كان المخرج في التعددية الحزبية وفي تنافس البرامج السياسية والحلول الاقتصادية.

كان التأكيد على صفة الديمقراطية لمفهوم اللامركزية هدفًا بحد ذاته. ومن خلال الإدارات الذاتية يكون التعدد والتنوع سمة المشاركة، ويكون صوت الفرد مؤثرًا فيها، ويحمل قيمته التصويتية، لأنه يستطيع التعبير عن حقه، ويستطيع المحاسبة على ضياع حقوقه التي شارك بصوته للمطالبة بها.

في الديمقراطية التي تتأكد من خلال حقوق القوميات المتعددة والجماعات المتنوعة، لا يمكن لقومية واحدة أن تتحكم بمصير أحد ولا أن تحكم أو حتى أن يسمى البلد باسمها.

ومن خلال الرؤية العلمانية، التي هي حل لمشكلة الطوائف والأقليات الدينية، تكون الدولة محايدة. فلا تحمل المراكز ولا المناصب أية صفة دينية بما في ذلك دين رئيس الدولة، لأنه مواطن والمناصب تتطلب المساواة وعدم التمييز بين المواطنين. ومنصب الرئاسة وظيفة لا تحتمل التمييز.

المضمون الديمقراطي للنظام اللامركزي يعني أن التنافس يقوم بين قوى اجتماعية وأحزاب سياسية بغايات حلّ مشكلات وإقامة مصالح ذات أبعاد خدمية وسياسية تؤكد على حقوق الأفراد والجماعات من غير تمييز ولا إقصاء. ومن خلال الديمقراطية يتم تداول السلطة وتمكين المجتمع المدني، وترسيخ دولة القانون والفصل بين السلطات.

وباعتماد اللامركزية الديمقراطية، تأخذ صفة دستورية وتحتكم إلى محكمة دستورية يمكنها الفصل بأقوى قرارات تمنع التحكم والتغوّل من أي طرف مسؤول في الدولة وتمنع مركزية القرار بيد واحدة.

نظام اللامركزية الديمقراطية يحقق مفهوم المواطنة المتساوية. والمواطنة هي حقوق وواجبات، وليست حدودًا فقط، بل هي حريات فردية كلما اتسعت كانت أكثر ثباتًا. وحين يتمكن الأفراد من التعبير عن حقوقهم وفق حاجاتهم وليس وفق مرجعيات تُفرض عليهم من خارج إراداتهم، عندها يكون الفرد المواطن هو أساس وعصب الأمة الديمقراطية.

المصدر: “مسد”

 

شارك هذه المقالة على المنصات التالية

Exit mobile version