التصنيفات
رئيسي منبر التيارات السياسية (بيانات)

هفرين خلف.. شعلة الأمل التي أطفأها الظلام

هفرين خلف، اسم يتردد صداه في أرجاء سوريا كرمز للنضال والتضحية من أجل وطن حرّ وديمقراطي. قامة سياسية شابة ارتقت بحلمها الوطني إلى آفاق لم يبلغها سواها، وجسّدت في مسيرتها القصيرة أسمى معاني الوطنية والإنسانية. امرأة استثنائية تحدت الصعاب وكسرت القوالب النمطية، لتصبح صوتاً قوياً للتغيير في خضم صراع مرير مزّق نسيج بلادها.

ولدت هفرين عام 1984 في مدينة ديريك بشمال شرق سوريا، مدينة عُرفت بتنوعها الإثني والثقافي. نشأت في بيئة غُرست فيها قيم الانفتاح والتعددية، ما شكّل وعيها السياسي المبكر. تخرجت مهندسة مدنية من جامعة حلب، متسلّحة بالعلم والمعرفة، لكن شغفها الحقيقي كان في العمل السياسي والاجتماعي. آمنت بأن التغيير الحقيقي يبدأ من القاعدة الشعبية، فكرّست حياتها للتواصل مع مختلف شرائح المجتمع السوري بتنوعاته الإثنية والدينية.

في خضم الأزمة السورية، برزت هفرين كقيادية شابة واعدة، متسلّحة برؤية تقدمية للمستقبل. لم تكتفِ بالتنظير السياسي، بل انخرطت في العمل الميداني، متنقلة بين القرى والمدن، تستمع لهموم الناس وتطلعاتهم. هذا التواصل المباشر مع القواعد الشعبية أكسبها فهماً عميقاً لتعقيدات الواقع السوري، وعزّز من مصداقيتها كقيادية ملتزمة بقضايا شعبها.

تبوأت هفرين مناصب قيادية في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، حيث عملت بجدٍّ على تطوير البُنى الإدارية والخدمية في ظروف بالغة الصعوبة. ثم جاء انتخابها أمينة عامة لحزب سوريا المستقبل عام 2018 ليتوّج مسيرتها السياسية. كانت أصغر زعيمة حزبية في سوريا، وثاني امرأة تتولى هذا المنصب في تاريخ البلاد الحديث، ما شكّل سابقة مهمة في مجتمع ما زال يعاني من هيمنة ذكورية في المجال السياسي.

حملت هفرين مشروعاً وطنياً جامعاً، يتجاوز الانتماءات الضيقة ويؤمن بسوريا موحدة تتسع لجميع أبنائها. رفضت منطق التقسيم والتجزئة، وعملت بلا كلل على تعزيز التعايش بين مكونات الشعب السوري، مؤمنة بأن قوة الوطن تكمن في تنوعه. ناضلت من أجل نظام ديمقراطي تعددي يضمن الحقوق المتساوية للجميع، بغض النظر عن انتماءاتهم العرقية أو الدينية.

كانت هفرين صوتاً قوياً ضد التدخلات الخارجية في الشأن السوري. انتقدت بشدة العمليات العسكرية التركية، معتبرة إيّاها انتهاكاً صارخاً للسيادة السورية وتهديداً خطيراً للنسيج الاجتماعي. لم تكتفِ بالتنديد، بل سعت بنشاط لبناء جبهة قانونية ودبلوماسية لمواجهة هذه الانتهاكات. عملت على توثيق الجرائم والانتهاكات، وسعت للفت أنظار المجتمع الدولي إلى خطورة هذه التدخّلات على مستقبل سوريا. هذا الموقف الشجاع جعلها هدفاً للقوى المعادية لمشروعها الوطني، التي رأت فيها تهديداً لمصالحها ومخططاتها في المنطقة.

في الثاني عشر من تشرين الأول/أكتوبر 2019، كُتب الفصل الأخير في قصة هفرين خلف. في ذلك اليوم المشؤوم، اغتيلت بطريقة وحشية على يد عناصر من فصائل إرهابية مدعومة من تركيا. كانت في طريقها إلى مدينة الرقة لمتابعة نشاطها السياسي، حاملة معها آمال وتطلعات الآلاف، حين اعترضت مجموعة مسلحة سيارتها على الطريق الدولي. أظهرت التحقيقات والأدلة المصورة تورط عناصر ما يسمى فصيل “أحرار الشرقية” في تنفيذ الجريمة.

لم تكتفِ تلك العناصر بإطلاق النار على هفرين، بل مثّلت بجثتها بطريقة همجية تنمّ عن حقد دفين وانحطاط أخلاقي. كشف تقرير الطب الشرعي عن تفاصيل مروعة، حيث تعرض جسدها لإصابات متعددة بالرصاص، إضافة إلى آثار ضرب وسحل وحشي. هذه الممارسات البربرية لا تعكس فقط الطبيعة الإجرامية للجناة وداعميهم، بل تفضح أيضاً زيف ادعاءاتهم بحماية المدنيين وتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة.

أثارت جريمة اغتيال هفرين موجة استنكار واسعة محلياً ودولياً. وصفتها منظمة العفو الدولية بأنها “جريمة حرب صارخة”، مطالبة بإجراء تحقيق شامل ومحاسبة المسؤولين. كما طالبت لجنة التحقيق الدولية المستقلة حول سوريا بفتح تحقيق مستقل في الحادثة، مؤكدة على ضرورة محاسبة مرتكبي هذه الجريمة البشعة. هذه المطالبات الدولية تضع تركيا أمام مسؤولياتها القانونية والأخلاقية، باعتبارها القوة المسيطرة على الفصائل المتّهمة بارتكاب الجريمة.

رحيل هفرين خلف كان خسارة فادحة للعمل السياسي في سوريا. غيابها ترك فراغاً هائلاً في الساحة الوطنية، إذ فقدت البلاد صوتاً عقلانياً ومعتدلاً كان يمكن أن يلعب دوراً محورياً في جهود المصالحة وإعادة بناء سوريا. لكن إرثها النضالي ما زال حيّاً في قلوب الملايين، يلهمهم لمواصلة الدرب الذي رسمته بتضحياتها.

قدمت هفرين نموذجاً مُلهماً للمرأة القيادية الشابة، متحدية الصور النمطية والعقبات الاجتماعية. أثبتت بجدارة أن العمل السياسي الجاد يمكن أن يتجاوز الانقسامات الطائفية والإثنية، وأن المرأة قادرة على قيادة التغيير في أصعب الظروف. شكّلت قصتها مصدر إلهام للآلاف من الشابات السوريات، اللواتي رأين فيها نموذجاً يُحتذى للقيادة النسائية في مجتمع ما زال يعاني من التمييز والإقصاء.

تبقى هفرين رمزاً للنضال من أجل سوريا حرة وديمقراطية. دماؤها الزكية التي سالت على تراب الوطن ستظل شعلة تنير درب الأجيال القادمة نحو مستقبل أفضل. مشروعها الوطني الجامع سيبقى حيّاً، يحمله الآلاف من رفاقها ومحبيها الذين يواصلون النضال من أجل تحقيق حلمها بوطن يتّسع للجميع. في كل زاوية من زوايا سوريا الجريحة، سيبقى اسم هفرين خلف يتردد كأنشودة أمل، تذكر الجميع بأن طريق الحرية والكرامة، رغم صعوبته، يبقى ممكناً طالما هناك من يؤمن به ويضحي من أجله.

 

المصدر: مجلس سوريا الديمقراطية “مسد”

 

شارك هذه المقالة على المنصات التالية

Exit mobile version