دجوار أحمد آغا
رواد النهضة عند أية أمة أو شعب، عادة يكونون من طبقة المثقفين الثوريين وليس بالضرورة أن يكون هؤلاء المثقفون من طبقة النبلاء أو الارستقراطيين، بل في الكثير من الأحيان كان أبناء الفقراء هم من يتسيدون المشهد السياسي والثقافي أو العسكري. الأمثلة كثيرة عبر تاريخ البشرية المليء بهؤلاء المتنورين، الذين خدموا شعوبهم وقدموا كل ما بوسعهم تقديمه من أجل إنارة درب الحرية وليس هناك أبلغ مما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي في رده على القصف الفرنسي لدمشق عام 1926 في قصيدة بعنوان “نكبة دمشق” بالقول:
“وللحرية الحمراء بابٌ
بكل يد مضرجة يُدقُ”
وهكذا نرى أن الشعراء، والأدباء، والكتاب، والمثقفين المتنورين بشكل عام، هم رواد النهضة التنويرية لدى أي شعب يسعى من أجل إثبات ذاته والحصول على حريته في تقرير مصيره بنفسه. والكرد شعب عريق له تاريخ مشرف وحضارة، وقدّم للبشرية الكثير من العلماء والقادة والفلاسفة لكنه تعرض إلى ظلم بشع من المجتمع الدولي، وما يزال أبناؤه يناضلون من أجل إثبات وجوده وتحقيق حريته. هذا المقال مخصص عن أحد أبرز رواد النهضة الكردية المعاصرة، الشاعر الكبير جكرخوين.
حالة الشعب الكردي
الكرد كانوا يعيشون مآسيهم بعد انكسار ثوراتهم وانتفاضاتهم والقضاء على إماراتهم الشبه مستقلة سواء في باكور، أو باشور كردستان، والتي كانت حتى بداية الحرب العالمية الأولى (1914 / 1918) ماتزال تحت سيطرة العثمانيين. لكن بعد أن وضعت الحرب أوزارها وبدأت دول الحلفاء المنتصرة بتقاسم تركة “الرجل المريض” السلطنة العثمانية، حاول الكرد أن يكون لهم موطئ قدم بين الدول التي حققت استقلالها من خلال إرسال وفد إلى عصبة الأمم برئاسة شريف باشا بمشاركة وفد أرمني برئاسة نوبار باشا، ولكن للأسف لم يتم اعتماد أي صيغة لاستقلال الكرد، بل على العكس من ذلك تم بموجب معاهدة لوزان 1923 تقسيم بلادهم بين أربعة دول (تركيا، وإيران، والعراق، وسوريا). في قلب هذه المعاناة، ومن رحم هذا الألم ولد شاعر عظيم أطلق على نفسه اسم “جكرخوين” أي الكبد الدامي.

الولادة والنشأة
قرية هساري الواقعة في منطقة إيله “باطمان” كانت مسرحاً لولادة طفل نابغة سنة 1903 يطلق أهله عليه اسم شيخموس. والده حسن ووالدته عيشانة لم يُعمرا طويلاً فقد توفيا بعد أن هجرت العائلة خلال بدايات الحرب العالمية الأولى من باكور إلى روج آفا، فاستقرت في عامودا التي احتضنت الكثير من كرد باكور تاريخياً. بعد هذا التهجير بوقت قصير 1915 تقريباً أصبح شيخموس يتيم الأب، والأم، وانتقلت رعايته الى أخيه خليل وأخته آسيا، اللذين يكبرانه سناً. عمل في رعي الأغنام والاهتمام بحيوانات العائلة مقابل أن يستمر في العيش. ظروف قاهرة وقاسية جداً تحكمت بحياة شاعرنا الكبير الأمر، الذي دفعه فيما بعد إلى اختيار اسم “جكرخوين” والذي يعني الكبد الدامي.

البداية والتوجه الديني
توجه إلى علوم الدين كسائر أطفال كردستان لتعلم قراءة القرآن على يد الإمام، وبالتالي التوجه نحو الصوفية وتعلم علوم الفقه الإسلامي على يد شيوخ المنطقة، خاصة الطرق الصوفية مثل النقشبندية والقادرية، وعبر المدارس الدينية، التي كانت منتشرة بكثرة في ربوع باكور كردستان، ويتم التدريس فيها باللغات العربية والفارسية، والعثمانية. تأثر الملا شيخموس بمولانا جلال الدين الرومي ويونس امراه.
مارس مهنة الملا في قرى عامودا وما حولها خلال الفترة الممتدة من عام 1928 إلى عام 1936. كانت العلاقة بينه وبين الآغوات والزعماء جيدة على الرغم من أنه فيما بعد بدأ بالتهجم عليهم في شعره، ولعل ما دار بينه وبين “حاجو آغا” زعيم عشيرة هفيركان الكردية أكبر مثال على ذلك حيث قال له حاجو: “بإمكانك أن تنال منا، بسيفك الحاد بإبراز أعمالنا وأفعالنا، ولكن فقط اترك الدين والتدين بعيدا”. وهذا الأمر بالذات دفعه إلى الابتعاد عن الدين والتوجه نحو الشعر.

التحول إلى الشعر
المآسي التي مرت عليه منذ طفولته وفترة شبابه التي قضاها بين الفلاحيين في القرى المتناثرة بربوع روج آفا والمعاناة، التي رآها بأم عينه، والكفاح اليومي الذي كان يكافحه الفلاح من أجل قوت أطفاله والظلم الذي كان يمارسه الآغا عليه، كل هذه الأحداث دفعت رجل الدين إلى خلع العمامة ورميها بعيداً والتحول إلى شاعر تقدمي ملتزم، يفضح الطغاة ويزعجهم بقصائده التي أصبحت على كل لسان وتنتشر بسرعة.
لم يبقَ شعره في نقد وفضح الاقطاع والمتنفذين، بل تحول تدريجياً إلى التغني بجمال طبيعة بلاده وعشقه لها حيث شبهها بالحبيبة، التي يفديها بروحه ولا يتخلى عنها مهما حدث. قصائده أصبحت خالدة لكثرة ترددها على ألسنة الكرد، وأصدقائهم. تجاوز في شعره القصيدة الكلاسيكية وما كتبه ملاي جزيري وأحمدي خاني، متجهاً إلى الشعر الحديث الموزون وصاحب الجمالية في التعبير والإيقاع الموسيقي المؤثر.
النضال السياسي
بعد أن ترك عمل رجل الدين وتفرغ لكتابة الشعر والقضية القومية الكردية، شارك في تأسيس الكثير من النوادي الثقافية والاجتماعية، وانضم إلى جمعية خويبون، التي أُسِّست في بحمدون بلبنان عام 1927. مارس السياسية بشكل عملي من خلال الانتساب الى الحزب الشيوعي السوري، الذي كان يترأسه الكردي خالد بكداش، ومن الجدير بالذكر أن معظم أعضاء هذا الحزب في منطقة الجزيرة كانوا من الكرد والأرمن، وعدد قليل جداً من العرب. بعدها شارك جكرخوين مع أوصمان صبري والدكتور نور الدين زازا، ورشيد حمو، وشوكت حنان، وغيرهم في تأسيس أول حزب كردي في سوريا بتاريخ 16 آب 1957 وهو الحزب الديمقراطي الكردستاني ـ سوريا الذي تحول فيما بعد إلى الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا (البارتي).
السفر إلى السويد 1979
أصبحت الحياة لا تُطاق خاصة مع تسلط الأجهزة الأمنية وفرض رقابة شديدة على شاعرنا الكبير، الأمر الذي سبب له وضعاً عير مريح على الإطلاق بالإضافة إلى تعرضه للملاحقة المستمرة، وهو الذي قضى سنوات طويله من حياته في السجون والمعتقلات. بعد ذهابه إلى بيروت وطباعة ديوانه الثالث بمساعدة الأستاذ عبد الحميد درويش والحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا ذهب إلى باشور كردستان التي كانت فيها ثورة وبعد انهيارها عاد إلى سوريا وفي نهاية المطاف وفي خريف 1979 وبمساعدة شخصيات وطنية كردية محبه له استطاع الوصول إلى بيروت ومنها إلى مملكة السويد التي استقر فيها حتى نهاية حياته.

دواوينه الشعرية وكتبه
ترك الشاعر قيمة أدبية وشاعرية في مؤلفات لا تقدر بثمن. فمن الصعب ظهور شاعر بعظمة وقوة وبلاغة جكرخوين. ومن أبرز ما تركه لنا دواوينه الشعرية الثمانية وهي:
بروسك وبيت دمشق 1945
ثورة آزادي دمشق 1945
كيما أز بيروت 1973
روناك السويد 1980
زندا أفستا السويد 1981
شفق السويد 1982
هيفي السويد 1983
كما صدر ديوان آشتي في السويد بعد رحيله عام 1985. بالإضافة الى العديد من الكتب الأخرى منها: سالار وميديا، وتاريخ كردستان، ورشو داري، وتاريخ الفلكلور الكردي، وقاموسين، وكتاب ذكرياتي، واللغة الكردية.
توقف القلب الكبير
بعد مسيرة حياة استمرت واحداً وثمانين عاماً، حافلة بالعطاء، زاخرة بالدواوين الشعرية والكتب التاريخية والقصص والقواميس واللغة وغيرها، وبعد أن خفق القلب مراراً وتكرراً شوقاً وحنيناً للعودة إلى الموطن الأصلي قرية “هساري” التي أبصر النور فيها، وبعد الإخفاقات والخيبات التي تتالت عليه من رحيل الأحبة وفقدان شخصيات عزيزة عليه وابتعاده إلى الغربة، توقف أخيراً هذا القلب الكبير عن الخفقان يوم الثاني والعشرين من تشرين الأول من عام 1984 في إحدى مشافي عاصمة المملكة السويدية ستوكهولم. تم نقل الجثمان الى مدينة قامشلو ليتم دفنه في باحة منزله في الحي الغربي ويصبح مزاراً لمحبيه وعشاق شعره الثوري.

ختاماً كلمة تأبين للشاعر
جكرخوين لم يكن شاعراً، بل كان ثورة شاملة لشعب كاد أن يفقد ذاته، بعد انكساراته المتتالية خاصة مع تحطيم إرادته وثقته بنفسه عبر القضاء على آخر ثوراته وانتفاضاته بالحديد والنار وتعليق قادتها على أعواد المشانق. جكرخوين أخرج الجمر من تحت الرماد، وبث فيه الروح من جديد، وما رائعة ديوانه الثالث قصيدته (من أنا) Kî Me Ez إلا إعادة الاعتبار الى الذات الكردية والافتخار بها مجدداً ورفع الرأس عالياً.
نعم جكرخوين ثورة لنا نحن الذين كبرنا على قصائده المغناة بألحان العديد من الفنانين، والتي دخلت قلب كل كردي. كنت أيها الشاعر وستبقى بيننا إلى الأبد خالداً.
صحيفة روناهي
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=78441







