حين يُلفظ اسم النحات الكاتالوني أريستيد مايول (1861 ــ 1944) في باريس، تحضر فوراً إلى ذهن الفنانين والجمهور منحوتاته البرونزية، التي نصبها أندريه مالرو ودينا فييرني في حدائق “الكاروسيل”. لكن هذا لا يعني أن هذا الفنان، الذي يتعذّر تجاهله في تاريخ النحت الحديث، بات معروفاً ومفهوماً كما يستحق، على الرغم من مرور ثمانية عقود على رحيله.
ولتبديد هذا الجهل في مُنجزه وقيمته، ينظّم متحف مدينة روبيه (Roubaix) الفرنسية معرضاً مهماً له بعنوان “مايول، البحث عن التناغم”، يقترح قراءة جديدة لمسيرته التي يتبدّى فيها على حقيقته، أي كنحات مارس فنّه بحماسة وموهبة نادرتين، قادتاه إلى ابتكار أعمال نحتية عظيمة، انطلاقاً من مجموعة محدودة من الأشكال. سيرورة إبداعية فُسِّرت غالباً تفسيراً خاطئاً كتكرار متواصل لنموذج أنثوي واحد، في حين أن الأبحاث الشكلية الفريدة لمايول تقاطرت ضمن تجدد دائم.
وفعلاً، لا التزام بنظام ثابت لدى ذلك الذي بحث بلا كلل “عن الشعور بالكل الذي يخلق الوحدة، عن الشيء الذي ليس في الموديل، ولا في القياسات، ويصنع الجمال الفائق لعمل فني”. ولا تصوُّر للجسد المنحوت كمجموعة قطع مستقلة، فـ “التمثال هندسة”، فيما يتعلق بمايول، وتناغم أحجامه وتنسيقها مع الضوء يتحكّمان بموضوعه. ومن هذا المنطلق، حفر منحوتاته، مسترشداً بالإمكانات اللامتناهية للطبيعة، وبحسّه الحاد للحصيلة وللبيئة، التي تُنصَب فيها هذه الأعمال، وتخلى عن الموضوع والشكل الطارئ خلال العمل لصالح الجوهر، مستهدفاً نوعاً من الشمولية البدائية. ولعل هذا ما يفسّر نأي أعماله عن هواجس الطلائع الفنية، وفي الوقت نفسه، أهميتها في تاريخ الحداثة.
وفي هذا السياق، يبيّن معرضه الحالي الدور البارز الذي لعبه مايول في فن النحت حتى ثلاثينات القرن الماضي، وتجسيده، مقابل تعبيرية مواطنه رودان، قيم الوضوح وتوازن الأشكال، التي تجعل منه ممثّل التقليد الكلاسيكي الكبير وحصيلته، قبل أن ينزلق إلى دائرة الظل مع صعود نجم الطلائع، خصوصاً بعدما تشوّهت صورته؛ بسبب موقفه الملتبس خلال الحرب وحضوره معرض الفنان الهتلري أرنو بريكير في متحف “أورانجوري” عام 1942. مولع بالثقافة الألمانية، لم يدرك الفنان آنذاك خطورة التعايش مع المحتل لانشغاله كلياً في عمله، وقلقه في شأن متابعه، لكن هذا لا يعني أنه كان متواطئاً مع النازيين خلال تلك المرحلة الصعبة، التي يلقي معرضه الحالي عليها نظرة موضوعية تبيّن المبالغة في مثل هذا الاتهام.
لكن قبل الوصول إلى هذا الفصل من حياته، يركّز المعرض على المراحل السابقة لمسيرته الفنية، التي تحرّر مايول خلالها تدريجياً من الاتباعية التي كانت تُدرَّس في كليات الفنون الجميلة، واتّخذ اتجاهات تشكيلية مختلفة، فبعد ممارسة فن الرسم بمهارة لافتة في مطلع تسعينات القرن التاسع عشر، تحوّل في اتجاه فن النسيج (tapisserie) وطمح إلى تجديده. وفي الوسيطين، نشط لا للإمساك بحقيقة لحظة ما، بل بغية “فهم الجسد” المرسوم لموديلاته، تائقاً في ذلك إلى معانقة الشامل والبسيط، وبالتالي إلى مبادئ بنيوية مشتركة. وفي تلك الفترة، تأمّل طويلاً في عمل غوغان وبوفيس دو شافان ورسامي “الفن الجديد”، ونسج روابط وثيقة مع حركة “الأنبياء”. ومثل الكثير من معاصريه، جرّب في عمله موادّ متنوّعة، واسترسل في الاختبار، ضمن مسعى حِرَفي شكّل خمير فنه.
ويجب انتظار عام 1895 كي ينطلق مايول في ممارسة فن النحت، فينجز أعمالاً صغيرة الحجم بمادة الخشب، من بينها “ليدا” التي رأى رودان فيها نموذج المنحوتة الصامتة “التي لا تقول أي شيء”، لكنها تفرض نفسها بكمالها الشكلي. ولا تلبث هذه الممارسة أن تغويه وتقوده إلى تحقيق أول منحوتة طموحة له، “متوسّط”، التي تلقّاها النقّاد، لدى عرضها في “صالون الخريف عام 1905، كمثال “العودة إلى النظام” وبيانه التشكيلي. منحوتة لامرأة جالسة ومنطوية على نفسها، لقيت نجاحاً فورياً تجلى في إشادة جميع معاصريه بها كتحفة فنية، وهو ما تكرر بعد أربع سنوات مع منحوتته “الليل” التي تظهر فيها أيضاً امرأة مغلقة على نفسها ومصممة بطريقة تجعلها قابلة للانخراط داخل مكعّب، على نمط التماثيل المكعّبة الفرعونية. عمل ينضح بقوة تميّز جميع منحوتاته اللاحقة.
وفعلاً، وانطلاقاً من عام 1905، انبثقت من يدي مايول ريبرتوار أشكال فاتنة، مرنة وهندسية على حد السواء، التي جدّدت فن النحت الذي كانت تطغى عليه تعبيرية رودان. أشكال تغذّت من إعجابه بالتماثيل الفرعونية والإغريقية والخميرية (khmères)، وما لبثت أن فتحت الطريق أمام تبسيط يميل إلى التجريد. وضمن حظره أي بحث تعبيري في عمله، أسّس الفنان كلاسيكية جديدة تظهر فيها أجساد حسّية وقوية ظهوراً شبه حصري، ضمن أشكال هندسية مبسّطة تنتمي إلى فن يبدو وكأنه بلغ سكونه.
ولا شك في أن تبسيط الأشكال في منحوتات مايول وجمود وضعياتها هما اللذان يضفيان عليها، “في صفائها الهادئ ونضارتها الجليلة، جانباً مهيباً، صرحياً، بغض النظر عن حجمها”، كما أصاب الناقد الأمريكي جون ريوالد في إشارته إلى ذلك. جانب يتوافق مع فكرة الفنان للمنحوتة كفن زخرفي مرصود للحضور في الهواء الطلق، ضمن تناغم مع الديكور الذي يحيط به، سواء تعلق الأمر بمنتزه، بباحة مبنى أو بإطار طبيعي.
وحتى رحيله، استمر مايول في ابتكار منحوتات على شكل صروح، بوضعيات توحي بسكون مهيب. لكن في الثلاثينات، مدّ عمله بزخم جديد: “الآن أبحث عن هندسة الحركة”. بحث انطلق مع منحوتة “الجبل” التي وصف الفنان مصدر إلهامها على النحو الآتي: “أتأمل الجبل المقابل لمنزلي، حين تعصف رياح الشمال وتتلاعب بأشجاره. مشهد قوي، إلهي، عنيف وهادئ في الوقت نفسه، منحني فكرة منحوتة سأسمّيها “الجبل والريح”. تحفة فنية استتبعها بأخرى بعنوان “النهر” صمّمها أصلاً كتحية للكاتب هنري باربوس، الذي ندّد بأهوال الحرب، وتجسّد حالة عدم الثبات بحسّ دراماتيكي غير مسبوق، كما تجسّد قوة الطبيعة التي تحضر أيضاً في منحوتته اللاحقة “الهواء”.
باختصار، مَن يتأمل في أعمال مايول المعروضة حالياً لا يسعه التشكيك في أهمية هذا النحات، وبالتالي في الموقع الفريد، الذي يحتله داخل تاريخ الحداثة التشكيلية، مهما ابتعد في عمله عمّا دعت إليه الحركات الطلائعية المعاصرة له. وحول هذه النقطة، صرّح يوماً ببصيرة: “بما أنني لا أستطيع ربط فني بأي شيء من زمني، أود ربطه بالمستقبل، وإنجاز عمل يجد مكانه لاحقاً”.
وكالات
الثقافة – صحيفة روناهي
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=14733