استقلال غربي كوردستان خيار استراتيجي في مواجهة الاستبداد التكفيري والإملاءات التركية

د. محمود عباس

بعد مجريات الأحداث المتسارعة في سوريا، وتحوّل ما يُسمّى بالحكومة الانتقالية إلى واجهة مفرغة من الوطنية، خاضعة بالكامل لهيمنة هيئة تحرير الشام، ومُلتحقة بالإملاءات التركية، لم يعد أمام الحراك الكوردي خيار سوى الإعلان، وبشكل صريح وحاسم، أن المنطقة الكوردية ستدار بشكل مستقل عن المركز، إلى أن تتضح ملامح سلطة سورية بديلة، مدنية، لا مركزية، تؤمن بالنظام الفيدرالي وتلتزم به.

هذا الموقف ليس ترفًا سياسياً، بل ضرورة لحماية الوجود، ومسؤولية تقع على عاتق الإدارة الذاتية، والقوى التي اشتركت في عقد المؤتمر الوطني الكوردي في قامشلو، وعلى وجه الخصوص قوات قسد، التي يقع على عاتقها قيادة المرحلة الانتقالية في إدارة مستقلة، بوصفها خطوة أولى نحو ممارسة حق تقرير المصير، بعيدًا عن سطوة المنظمات الإرهابية، التي لا تكتفي بارتكاب الجرائم في الساحل السوري، بل تواصل جرائمها اليوم بحق المكون الدرزي، وتمهّد للرأي العام بأن الدور قادم على الكورد، أي على قسد، وعلى الشعب الكوردي بأكمله.

ما يُسمّى بالحكومة الانتقالية السورية، وهي نتاج تحالف صريح بين هيئة تحرير الشام وتوابعها ومرتزقة تركيا، ترفض النظام اللامركزي، لا لأنه غير واقعي أو غير قابل للتطبيق، بل لأنه يتناقض جذريًا مع بنيتها الإيديولوجية، القائمة على ثقافة دينية راديكالية سلطوية، تنهل من روح مجتمع البداوة المغلق، حيث يُقدّم أهل الثقة على أهل الكفاءة، وتُعيّن المناصب على أساس الولاء، لا الخبرة، وهو ما فعله الجولاني حين شكّل وزارته، وافتتح ما سُمّي بـ “مؤتمر الحوار الوطني”، محاطًا بأسماء بلا وزن وطني، سوى ولائها العقائدي والتنظيمي.

من هذا المنظور، تُقدّس هذه الجماعات المركزية بوصفها انعكاسًا لـ “الحق الأعلى”، وترى في اللامركزية خطرًا يُفكّك القبيلة الكبرى، أي الدولة بمفهومها الغريزي، ولذلك، فإن أي مشروع فيدرالي، كالمطروح في المنطقة الكوردية، يُقابل تلقائيًا بالعداء، لأنه يُزعزع بنية الاستبداد المغلّف بالشرعية الدينية والقبلية، ويمنح “الهامش” قدرة على التمرد على “المركز”، وهذا ما لا تقبله لا سلطتهم ولا عقيدتهم.

فالأديان الإبراهيمية، بصيغها السلطوية المؤسسة، قامت على نموذج الاستبداد الإلهي، حتى لو حاول البعض تأويل النصوص أو تخفيفها، إلا أن البنية العميقة فيها تُفضي إلى حكم مطلق، والأنظمة والمنظمات التكفيرية، من داعش إلى هيئة تحرير الشام، وصولًا إلى الحكومة الانتقالية، سخرت الدين لمصالحها السياسية، فنقلت هذا الاستبداد، من الإلهي إلى البشري، وحوّلت الحق الإلهي إلى سلطة مطلقة على الأرض، باسم الدين، واحتكرت الحكم كما احتكر النظام من قبلها، باسم “الوحدة الوطنية” أو “الدولة العروبية”.

فلا عجب أن تحارب هذه المنظمات النظام الفيدرالي، لأن فيدرالية أي مكوّن، خاصة الكورد، تعني نزع الصلاحية من يد المأفون العقائدي، وتحويل السلطة إلى عقد اجتماعي مدني، لا مرجعية دينية له، ولذلك، فإن معاداتهم للمكون الدرزي، وجرائمهم في الساحل، لم تكن سوى مقدمات لتصفية كل مشروع يحمل في داخله نواة حكم ذاتي أو فيدرالي، كما هو الطموح العلوي، أو كما هو واقع الكورد.

في ذهنية هذه المجموعات الإرهابية، الصراع ليس سياسيًا كما يُروّج، بل صراع بين الإيمان المطلق والتفكير الحر، بين التقديس والاستفهام، وهم بطبيعتهم لا يحتملون السؤال، بل يقمعونه باسم الإيمان، معارضتهم للنظام الأسدي لم تكن يومًا لإزالة الاستبداد، كما كان يحاربها الحراك الكوردي أكثر من نصف قرن، وأتبعتهم قوى المعارضة الوطنية، بل لإحلال استبدادهم، الذي هو أكثر شراسة لأنه مغلّف بالعقيدة الجامدة، والدين الحنيف براء منهم.

أما تركيا، فإن رفضها للنظام الفيدرالي ينبع من بعدين متلازمين، الدين السياسي والقومي؛ فهي، كما تفعل الحكومة التكفيرية التي ترعاها في سوريا، تعادي الفيدرالية لأنها تتنافى مع مركزية السلطان ونزعة الهيمنة العقائدية، وفي الوقت ذاته، يُنظر إلى أي مشروع فيدرالي كوردي بوصفه تهديدًا وجوديًا لوحدة الدولة التركية، التي بُنيت على قمع القوميات ومحو التعدد.

وهكذا، تتقاطع مصالح حزب العدالة والتنمية مع حكومة الجولاني، رفضٌ للامركزية، كراهية عميقة للكورد، وقناعة راسخة أن الفيدرالية هي أول الطريق نحو تقرير المصير، والخروج من عباءة الهيمنة.

ولهذا، ولأن الصراع لم يعد بين نظام ومعارضة، بل بين ثقافة الحياة وثقافة القمع، بين الوعي الجمعي والولاء العقائدي المغلق، لا بدّ أن يُعلن الحراك الكوردي، بصوت واضح، حقّه في تقرير المصير، واستقلال المنطقة الكوردية بشكل كامل، ورفض أي خضوع لما يُسمّى بالحكومة الانتقالية، أو لمن يقف خلفها من تيارات ظلامية.

لقد باتت الحكومة الانتقالية أداة بيد التيارات التكفيرية، بعدما حولت ما كان يُسمّى بالمعارضة الوطنية إلى ظلال ممسوخة، تُديرها أجهزة تركية علنًا، وسط غياب شبه كامل لأي صوت وطني حر.

إن الدعوة لتقرير المصير واستقلال غربي كوردستان اليوم، لم تعد فقط حقًا تاريخيًا، بل باتت ضرورة استراتيجية وجودية، لا لحماية الكورد فحسب، بل لحماية بقية المكونات من استبداد يتقدم علينا بخطى دينية مدفوعة بالكراهية والطهورية.

فعلى مدى قرن من الزمن، تم نهب ثروات المنطقة الكوردية لتغذية المركز، بينما حُرمت شعوبها من البنى التحتية، ومن الحقوق، ومن الاعتراف، واليوم، تعود الحكومة الانتقالية لتطالب بنصيب من هذه الثروات، بل لتمنّ على الكورد بأنهم “سيُمنحون جزءًا” منها، وكأنهم خارج الجغرافيا، أو مستجدون على الأرض.

الوقت قد حان لنقول، كفى امتصاصًا لثرواتنا، كفى هيمنة استبدادية تحت شعارات دينية زائفة، كفى تشويهًا لحق تقرير المصير.

المرحلة أكثر من ناضجة لتطبيق هذا الحق، أو على الأقل للذهاب إلى استقلال إداري وسياسي كامل، مؤقتًا، إلى أن تظهر حكومة سورية مدنية، علمانية، تؤمن بالفيدرالية، وتقطع الطريق على الخطابات الطائفية والعقائدية التي دمرت سوريا، وتهدد ما تبقى منها.

 

الولايات المتحدة الأمريكية

3/5/2025م