الإخفاء القسري كجريمة مستمرة: نحو استجابة وطنية شاملة لمعالجة قضية المفقودين/ات في سوريا

أُنجز هذا التقرير بتمويل من الاتحاد الأوروبي. ويظل محتواه مسؤولية رابطة تآزر للضحايا ومنصة أسر المفقودين/ات في شمال وشرق سوريا (MPFP-NES)، ولا يعكس بالضرورة مواقف أو آراء الاتحاد الأوروبي.

ملخص تنفيذي:

لا يزال الإخفاء القسري أحد أبشع أوجه النزاع السوري وأكثرها إيلاماً، إذ خلّف وراءه عشرات آلاف المفقودين والمفقودات، تاركاً أسرهم/ن عالقة بين أملٍ هشّ ويأسٍ متجدد. ومع تغيّر خرائط السيطرة الميدانية وصولاً إلى سقوط “نظام الأسد” في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، ظلّ هذا الملف جرحاً مفتوحاً يثقل كاهل المجتمع السوري بأسره، نظراً لارتباطه المباشر بالسلم الأهلي وإمكانات تحقيق عدالة انتقالية شاملة ومستدامة.

يسعى هذا التقرير إلى تحليل تعقيدات ملف الإخفاء القسري في سوريا، وتعدد الأطراف المنخرطة في ارتكاب هذه الجريمة، والتي لم تكن حكراً على جهة واحدة، بل شكّلت ممارسة ممنهجة من قبل أطراف متعددة خلال مختلف مراحل النزاع. ويُسهم تعدد الجهات المسؤولة في تعقيد أي مقاربة وطنية أو دولية لمعالجة القضية، سواءً على مستوى المساءلة القانونية، أو جبر الضرر للضحايا وأسرهم/ن، أو وضع أسس متينة لقاعدة بيانات وطنية شاملة للمفقودين/ات.

وانطلاقاً من الحاجة إلى مقاربة قائمة على الأدلة، يستند التقرير إلى توثيق 20 حالة إخفاء قسري في محافظات الحسكة وحلب والرقة ودير الزور، بما يعكس تنوعاً جغرافياً وسياسياً يعزز فهم طبيعة الانتهاكات واتساع نطاقها.

ولا يتوقف الألم عند حدود غياب الشخص، بل يتفاقم بفعل ظاهرة الابتزاز المالي والمعنوي الذي تمارسه جهات مختلفة بحق الأسر، مطالبةً بمبالغ مالية باهظة مقابل وعود مضللة بالكشف عن مصير أحبائهم/ن. هذا الواقع خلّف آثاراً نفسية واجتماعية واقتصادية عميقة، وحوّل حياة كثير من الأسر، لا سيما النساء والأطفال، إلى ما يشبه “موتاً بطيئاً”.

يؤكد التقرير أنّ الإخفاء القسري في سوريا يرتقي إلى جريمة ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم، الأمر الذي يستدعي أنّ يكون الضحايا وأسرهم/ن في قلب مسار العدالة الانتقالية لضمان شموليته وعدم انتقائيته. وفي هذا السياق، يوصي التقرير بجملة من التدابير العملية، من أبرزها: إنشاء قاعدة بيانات وطنية موحّدة وآمنة للمفقودين/ات؛ وتوفير دعم نفسي-اجتماعي واقتصادي مستدام للأسر؛ ومكافحة شبكات الابتزاز، إلى جانب إصلاح البنية القانونية والمؤسسية، وتخليد ذكرى الضحايا، والتكامل مع الجهود الدولية القائمة، مع اعتبار كشف الحقيقة وضمان عدم التكرار أساساً لتحقيق سلام عادل ومستدام في سوريا.

 

مقدّمة:

منذ آذار/مارس 2011، عاشت سوريا نزاعاً مسلحاً متعدّد الأطراف تخلّلته تحولات متكرّرة في خريطة السيطرة. وحتى بعد سقوط النظام السوري في كانون الأول/ديسمبر 2024، ما زالت الخرائط السياسية والأمنية في تغيّر مستمر، وما زال ملف الإخفاء القسري والاعتقال التعسفي حاضراً كواحد من أخطر الانتهاكات وأكثرها إيلاماً.

في سوريا، تحولت الاعتقالات إلى بوابة نحو نفقٍ مظلم يقود إلى الإخفاء القسري، تمارسها أطراف مختلفة ضد مدنيين، في ظل تقديرات تفيد بوجود أكثر من 130 ألف شخص مفقود/ة على امتداد البلاد. ترك هؤلاء المفقودون/ات وراءهم/ن فراغاً عاطفياً وأعباءً اقتصادية ونفسية واجتماعية ثقيلة على أسرهم/ن ومجتمعاتهم/ن.

أفضى سقوط “نظام الأسد” في سوريا إلى تحولات محورية في قضية المفقودين والمفقودات، حيث جرى إخلاء السجون ومراكز الاعتقال التابعة للنظام، وكُشف عن عدد من المقابر الجماعية التي تضم رفات ضحايا الإخفاء القسري. كما أتاح هذا التحوّل المجال أمام منظمات دولية، إلى جانب منظمات مجتمع مدني سورية وروابط الضحايا، للدخول إلى البلاد والعمل ميدانياً والتواصل المباشر مع أسر المفقودين والمفقودات.

ورغم أهمية هذه التطورات، ما زالت آلاف العائلات السورية تواجه استمرار جرائم الإخفاء القسري والتعذيب وسوء المعاملة على يد أطراف النزاع المختلفة. وما تزال سجون هذه الأطراف عصيّة على التحقيقات المستقلة، فيما تنتشر عشرات المقابر الجماعية التي تتطلب جهوداً منهجية ومكثفة للكشف عنها، وضمان تحقيق العدالة والإنصاف لجميع الضحايا وعائلاتهم/ن.

يهدف هذا التقرير إلى تسليط الضوء على الأبعاد الإنسانية والاجتماعية والنفسية لجريمة الإخفاء القسري في سوريا، مع التركيز على النساء والأطفال، وإلى تقديم توصيات عملية من شأنها تعزيز البحث عن الحقيقة، دعم الأسر، وضمان المساءلة، في إطار العدالة الانتقالية وكسر دائرة الإفلات من العقاب.

المنهجية:

يعرض هذا التقرير توثيقاً لـ(20) حالة إخفاء قسري جُمعت من محافظات الحسكة، حلب، الرقة، ودير الزور، بما يعكس تنوعاً جغرافياً وسياسياً هاماً في سياق النزاع السوري. وقد أُجريت المقابلات مع ذوي الضحايا بشكل مباشر أو عن بُعد، وشارك فيها أقرباء من الدرجة الأولى (55% ذكور و45% إناث)، ما أتاح تكوين صورة أوفى عن آثار الجريمة على الأسر من زوايا مختلفة.

اعتمدت رابطة تآزر للضحايا ومنصة أسر المفقودين/ات في شمال وشرق سوريا (MPFP-NES) في هذا العمل على استمارات توثيق واسعة وشاملة، صُممت لتغطية مختلف جوانب القضية. إذ تضمنت هذه الاستمارات بيانات شخصية أساسية، وظروف واقعة الإخفاء القسري، والمعطيات المحيطة بها القابلة للتحقق، إضافة إلى الآثار الاجتماعية والنفسية والاقتصادية المترتبة على العائلات. وحرص الفريق على أن تكون الحالات الموثقة غير مسبوقة التوثيق لدى رابطة تآزر، وأن تتوافر حولها معلومات كافية تسمح بإدراجها في التقرير. وقد مكّن هذا النهج من إنتاج بيانات دقيقة وموثوقة، مع مراعاة أعلى معايير السرية والسلامة لحماية الشهود والمشاركين/ات.

أظهرت النتائج أن المسؤولية عن الحالات الموثقة تتوزع على أطراف متعددة، بما في ذلك النظام السوري، تنظيم “داعش”، فصائل المعارضة المسلحة (الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا)، وقوات سوريا الديمقراطية. كما توزعت الحالات جغرافياً على الحسكة (7 حالات)، حلب (6 حالات)، الرقة (5 حالات)، ودير الزور (3 حالات)، فيما توزعت قومياً بين العرب (55%) والكُرد (45%).

تكشف هذه المعطيات أن قضية المفقودين/ات في شمال شرق سوريا لا ترتبط بفاعل واحد، بل تمثل نتيجة مباشرة لانتهاكات ممنهجة ارتكبتها أطراف متعددة، ما يزيد من تعقيد جهود البحث عن الحقيقة والمساءلة وتحقيق العدالة للضحايا وعائلاتهم/ن.

ابتزاز ذوي المفقودين/ات:

تشير إفادات العديد من الأسر المشاركة في هذا التقرير إلى أنّ ظاهرة الابتزاز المالي والنفسي باتت من أبرز الانتهاكات المرافقة لجرائم الإخفاء القسري. فقد استغلّ أفراد وجهات مجهولة -وأحياناً جهات أمنية أو فصائل مسلّحة- حالة اليأس التي تعيشها العائلات، لتحويل معاناتها إلى وسيلة لتحقيق مكاسب غير مشروعة.

تنوعت أنماط الابتزاز التي تمّ توثيقها على النحو التالي:

  • ادعاء معرفة مكان المفقود/ة أو القدرة على الإفراج عنه/ها مقابل مبالغ مالية تراوحت بين مئات الدولارات وعشرات الآلاف.
  • تقديم روايات كاذبة حول وفاة المفقود/ة دون أي دليل ملموس.
  • المطالبة بمبالغ باهظة تراوحت بين مئات الدولارات وعشرات الآلاف، غالباً دون تقديم إثبات أو مستند رسمي، مع انقطاع التواصل فور طلب الأسرة لأي دليل.

وفي حالات أخرى، وثّقت الشهادات ابتزازاً مباشراً من قبل عناصر في تنظيم داعش، أو من ضباط أمن تابعين للنظام السوري السابق، أو عبر وسطاء ومحامين وسماسرة استغلوا حاجة العائلات للمعلومة. بعض الأسر دفعت مبالغ وصلت إلى 10,000 دولار أو دفعات متفرقة بلغت نحو 5,000 دولار، لكن دون الحصول على أي نتيجة أو تأكيد لمصير أحبائهم.

 “يقول ياسر (اسم مستعار) إنّ أخاه اعتُقل من قبل النظام السوري السابق عام 2012 وانقطعت أخباره منذ ذلك الحين. وأفاد أنّ عائلته تعرضت لابتزاز مالي متكرر من قبل ضباط في فرع الأمن العسكري، إضافة إلى محامين وسماسرة، حيث طُلبت منهم مبالغ كبيرة مقابل السماح بزيارة أخيه أو معرفة مصيره. ورغم دفعهم مبالغ ضخمة، لم يحصلوا على أي معلومة حقيقية، مما ضاعف من معاناتهم، خاصة وأن المفقود كان المعيل الأساسي للأسرة بعد فقدان الوالدين واثنين من الإخوة”.

بالمقابل، أشار بعض الشهود إلى أنهم لم يتعرضوا لابتزاز مالي مباشر، لكنهم واجهوا استغلالاً نفسياً عبر تزويدهم بمعلومات مضللة أو متناقضة، ما أطال أمد الغموض وزاد من الضغوط النفسية.

هذه الممارسات لم تقتصر على الفاعلين المسلحين أو الجهات الأمنية، بل تشمل شبكة أوسع من الوسطاء والأفراد ممن يستغلون الفراغ القانوني وضعف آليات المساءلة، ما يجعل من مأساة الأسر وسيلة للثراء غير المشروع، ويضاعف من تعقيد أي جهود لاحقة لكشف مصير المفقودين/ات أو تحقيق العدالة.

تندرج هذه الممارسات في نطاق الجرائم المركّبة المصاحبة للاختفاء القسري، حيث يلتقي الانتهاك الأصلي (الاختفاء) مع انتهاكات لاحقة تمسّ كرامة الأسر وحقوقها الاقتصادية والاجتماعية. وهي تشكّل خرقاً واضحاً:

  • للمادة 2 من الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري (CED) التي تُلزم الدول بمنع ومعاقبة أي شكل من أشكال التواطؤ أو الاستفادة من الجريمة.
  • للعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (المادة 7 والمادة 17) بشأن حظر المعاملة اللاإنسانية واستغلال حالة الضعف.

 

الأثر النفسي والاجتماعي للإخفاء القسري:

يشكل الإخفاء القسري أحد أشد الانتهاكات وطأة على الأفراد والمجتمعات، حيث لا يقتصر أثره على الضحايا المباشرين، بل يمتد ليطال عائلاتهم/ن، فتتحول حياتهم إلى مسار من القلق المستمر والحزن العميق والانتظار المرهق بلا يقين.

في معظم الحالات التي تمّ توثيقها، كان المفقود/ة هو/هي المعيل الأساسي للأسرة، مما أدى إلى انهيار البنية الاقتصادية للعائلة، واضطرارها لتحمل مسؤوليات تفوق قدراتها، بما في ذلك إعالة الأطفال القاصرين أو رعاية أشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة.

انعكس الفقد على الصحة النفسية والجسدية لأسر الضحايا، حيث وثّقت الحالات معاناة متفاقمة لدى أسر الضحايا، تمثلت في الاكتئاب الحاد، والاضطرابات النفسية، وظهور أمراض مزمنة ناجمة عن الضغط النفسي المستمر، لا سيما لدى الوالدين كبار السن. هذه الحالة، التي يمكن وصفها بـ”الموت البطيء”، تجسد معاناة يومية بين أمل هش بالعثور على المفقود وخوف دائم من تأكيد خبر وفاته. ومع مرور الوقت، أصبحت العزلة الاجتماعية والانطواء سمات سائدة بين العديد من العائلات، حيث فقدت المناسبات الاجتماعية معناها الطبيعي وتحولت إلى محطات متجددة من الحزن.

أما على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي، فقد كشفت الشهادات أنّ النساء يتحملن العبء الأكبر في مواجهة غياب المعيل. تضطر الكثير منهن للبحث عن دخل بديل في بيئة تفتقر إلى الدعم المؤسسي، عبر أعمال مؤقتة أو الاعتماد على المساعدات الإنسانية المحدودة. وفي حالات أخرى، دفع الضغط الاقتصادي بعض الأسر إلى تزويج الفتيات في سن مبكرة، كخيار قسري لتقليل الأعباء المعيشية، وهو ما يعكس انتقال الأثر المدمر للاختفاء القسري إلى الأجيال اللاحقة.

“وتوضح إحدى الشهادات المروية على لسان سميرة (اسم مستعار)، شقيقة امرأة مفقودة على يد تنظيم داعش، حجم الأثر المركّب حين تكون الضحية امرأة. فقد أضيفت وصمة العار إلى الألم النفسي، لتتعرض الأسرة لنظرات سلبية وضغوط اجتماعية وصلت إلى مستوى التضييق المباشر. اضطرت العائلة إلى الانتقال لمكان آخر لتأمين حماية لبنات المفقودة، في محاولة للتخفيف من وطأة الوصم والانعزال المجتمعي المفروض عليها”.

الأطفال كذلك كانوا ضحايا مباشرين لهذا الانتهاك؛ إذ كشفت الشهادات عن آثار صدمات نفسية مبكرة ناجمة عن فقدان أحد الوالدين أو كليهما، انعكست على تحصيلهم الدراسي واستقرارهم العاطفي. هؤلاء الأطفال، الذين نشأوا في بيئة مثقلة بالحزن والحرمان، يواجهون مسار حياة مضطرباً قد يرسم ملامح مستقبل محفوف بالهشاشة الاجتماعية والاقتصادية.

كما سجلت بعض الأسر تعرضها لابتزاز مالي من جهات متعددة، مقابل وعود وهمية بالكشف عن مصير أحبائها، في ظل غياب قنوات رسمية وفعّالة للتحقق أو للمساءلة. هذا الاستغلال لمضاعفة المعاناة يبرز الفجوة العميقة بين الحاجة الإنسانية للعدالة والحقيقة، والواقع القائم على الانتهاكات والإفلات من العقاب.

إن هذه الأبعاد المتداخلة –النفسية والاجتماعية والاقتصادية– تؤكد أن الإخفاء القسري ليس مجرد فعل ينتهك الحقوق الأساسية للفرد، بل جريمة متواصلة تولّد معاناة ممتدة عبر الزمن، تُلحق الضرر بالعائلات والمجتمعات وتعيد إنتاج الهشاشة والفقد عبر الأجيال.

الإطار القانوني للإخفاء القسري في سوريا:

يُعرّف الاختفاء القسري وفق الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري بأنّه: “الاعتقال أو الاحتجاز أو الاختطاف أو أي شكل من أشكال الحرمان من الحرية يتم على أيدي موظفي الدولة، أو أشخاص أو مجموعات من الأفراد يتصرفون بإذن أو دعم من الدولة أو بموافقتها، ويعقبه رفض الاعتراف بحرمان الشخص من حريته أو إخفاء مصير الشخص المختفي أو مكان وجوده، مما يحرمه من حماية القانون “.

ويُعدّ هذا الانتهاك ذا طابع خاص كونه يجمع بين الحرمان التعسفي من الحرية، والإخفاء المتعمد لمصير الشخص، وتجريد الضحية من الحماية القانونية. وبذلك تتحمل الدول التزامات تشريعية وإجرائية صارمة للتحقيق والكشف وضمان المساءلة.

تُصنّف المفوضية السامية لحقوق الإنسان الاختفاء القسري كـ”جريمة مستمرة”، ما يعني أنّها لا تخضع عادة للتقادم أو العفو، ويظل الالتزام بالكشف عن مصير الضحية قائماً حتى إنقضاء عقود طويلة. وينتج عن ذلك واجبٌ مستمر على الدولة في فتح تحقيقات جادة وضمان سبل إنصاف فعّالة للضحايا وأسرهم/ن.

ورغم أن سوريا لم تصادق على الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، إلا أنّ القواعد العرفية للقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان تفرض التزامات واجبة النفاذ، أبرزها: حماية الحق في الحياة والحرية والكرامة الإنسانية، وحظر الاعتقال التعسفي والإخفاء خارج إطار القانون. وعليه، فإن غياب التصديق لا يعفي السلطات السورية –بما فيها تلك التي تولت الحكم بعد ديسمبر/كانون الأول 2024– من المسؤولية القانونية الدولية.

تطرح الحالة السورية معضلة خاصة تتمثل في تعدد الجهات المسؤولة عن الإخفاء القسري. إذ تتحمل الدولة المسؤولية المباشرة عن الانتهاكات التي ارتكبها النظام السابق وأجهزته الأمنية، في حين تقع على عاتق التنظيمات المسلحة والفصائل الأخرى مسؤولية قانونية أيضاً بموجب القانون الدولي الإنساني، الذي يجرّم الإخفاء القسري باعتباره من الانتهاكات الجسيمة، حتى إذا ارتكبته أطراف غير حكومية. وبذلك يترتب التزام على المجتمع الدولي لتفعيل آليات المساءلة، سواء عبر القضاء الوطني على أساس الولاية القضائية العالمية، أو من خلال آليات دولية/هجينة خاصة.

من منظور العدالة الانتقالية، يفرض ملف الاختفاء القسري تحدياً لا يمكن تجاوزه عبر تسويات سياسية أو قوانين عفو، إذ تستثني المعايير الدولية هذا النوع من الجرائم من أي عفو أو تقادم. وبالتالي، فإن أي مسار عدالة في سوريا المستقبل يحتاج إلى ضمان حقوق الضحايا في الحقيقة والإنصاف، وتجسيدها في الدستور والقوانين الوطنية.

كما يُعد الاعتراف القانوني بحالات الفقدان والإخفاء القسري ضرورة أساسية، ليس فقط من أجل احترام الكرامة الإنسانية، بل أيضاً لتقليل الأعباء الواقعة على الأسر التي تواجه تحديات في قضايا الإرث، والوصاية، وتسجيل الولادات والوفيات، والحصول على التعويضات. وقد تبنت دول مثل البوسنة وتشيلي وكولومبيا تشريعات خاصة للاعتراف بالمفقودين تمنح الأسر حقوقاً قانونية مؤقتة دون أن تُعتبر بديلاً عن المطالبة بكشف الحقيقة. ويُعد استلهام مثل هذه النماذج حاجة ملحة في السياق السوري.

غير أن أي إطار قانوني يظل قاصراً دون آليات تنفيذ وضمانات مؤسسية. فالنصوص وحدها لا تكفي ما لم تُدعَم بهياكل مستقلة للتحقيق، وأرشفة شفافة للملفات، وإصلاح جذري للأجهزة الأمنية والقضائية التي ارتبطت تاريخياً بالانتهاكات. هُنا، يُشكّل الربط المؤسسي بين الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية والهيئة الوطنية للمفقودين في سوريا خطوة ضرورية لتوحيد الجهود وتفادي تجزئة الملفات أو استخدامها كورقة تفاوضية بين الأطراف المتصارعة.

 

التوصيات:

  1. إنشاء قاعدة بيانات وطنية موحدة وآمنة للمفقودين/ات:
  • تُبنى وفقاً للمعايير الدولية للخصوصية والسرية وحماية البيانات.
  • تخضع لإشراف مدني مستقل، مع ضمان مشاركة روابط الضحايا وأسر المفقودين/ات في آلية إدارتها.
  1. إطلاق برامج دعم نفسي-اجتماعي واقتصادي شاملة ومستدامة للأسر:
  • تشمل خدمات علاج نفسي متخصّص طويل الأمد.
  • دعم اجتماعي ومادي مباشر، وتأمين التعليم والحماية للأطفال.
  • تمكين النساء اقتصادياً عبر توفير فرص عمل وسبل عيش بديلة تمنع تهميشهن وتحوّلهن إلى فاعلات أساسيات في المجتمع.
  1. مكافحة الابتزاز المالي والنفسي الذي تتعرض له الأسر:

عبر إنشاء آلية شكاوى مستقلة وآمنة لتلقي البلاغات، وتفعيل نظام حماية الشهود والضحايا، وملاحقة وحاسبة الضالعين في عمليات الابتزاز، سواءً كانوا جهات رسمية أو غير رسمية، ضمن إطار قانوني شفاف.

  1. ضمان شمولية مسار العدالة الانتقالية وعدم انتقائيته:

يجب أن تغطي ولاية الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية (المُنشأة بموجب المرسوم رقم 20 لعام 2025) جميع الانتهاكات المُرتكبة من كافة الأطراف، بما فيها النظام السابق، التنظيمات المسلحة، والفصائل الأخرى، والالتزام بمبدأ المساواة المنصوص عليه في الإعلان الدستوري والمبادئ الدولية لحقوق الإنسان.

  1. تعزيز التنسيق والتكامل المؤسسي بين هيئة العدالة الانتقالية والهيئة الوطنية للمفقودين:

عبر آلية تنسيق رسمية توحّد المسارات المتعلقة بالحقيقة، المساءلة، جبر الضرر، وتخليد الذكرى، وتمنع تجزئة العدالة أو استخدامها بشكل انتقائي أو سياسي.

  1. مركزية الضحايا في صنع القرار:

عبر إشراك روابط الضحايا وأسر المفقودين/ات والناجين/ات بشكل هيكلي ودائم في صياغة وتطوير السياسات، وتحديد أولويات الهيئات، وآليات المراقبة والتقييم، بوصفهم شركاء فاعلين وقياديين وليسوا مجرد مستفيدين.

  1. إصلاح البنية القانونية والمؤسّسية:
  • تعديل التشريعات للاعتراف القانوني بحالات الفقدان والإخفاء القسري.
  • فتح الأرشيفات الرسمية والوصول إلى أماكن الدفن والمعلومات ذات الصلة.
  • إصلاح الأجهزة الأمنية والقضائية باعتبار ذلك ضمانة لعدم التكرار.
  1. تخليد الذكرى والاعتراف بالضحايا:

عبر تبني برامج للذاكرة الجماعية تشمل: النصب التذكارية، متاحف الذاكرة، الأرشيف الوطني، وإدماج القضية في المناهج التعليمية، بما يضمن الاعتراف بجميع الضحايا دون تمييز، ويحول دون إعادة إنتاج خطاب الإنكار أو التبرير.

  1. التكامل مع الجهود الدولية القائمة:
  • العمل بشكل وثيق مع المؤسسة المستقلة المعنية بالمفقودين في سوريا (IIMP) باعتبارها ثمرة نضال الضحايا وعائلاتهم، ولها ولاية قائمة بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة.
  • الاستفادة من خبراتها ومواردها، والبناء على ما تم إنجازه مسبقاً لتعزيز الجهود الوطنية وعدم إضعافها.
  1. اعتبار كشف الحقيقة وضمان عدم التكرار أساساً للسلام المستدام:
  • الاعتراف بأن غياب العدالة يبقي الصراع حاضراً في الذاكرة الجمعية.
  • التأكيد على أن الحق في المعرفة والمساءلة والمحاسبة وجبر الضرر هو ركيزة للمصالحة الوطنية والسلم الأهلي.
  • جعل العدالة أداة لإعادة بناء النسيج الاجتماعي وتحقيق الاستقرار المستدام.

المصدر: تــآزر

Scroll to Top