بين المصالح التركية والأهداف الروسية: مستقبل اتفاقية أضنة في خريطة سوريا المتغيرة
إنً إعادة تفعيل اتفاقية أضنة بين تركيا وسوريا باتت تُطرح كإحدى الأدوات الأساسية التي تسعى روسيا من خلالها لإعادة رسم ملامح المشهد السياسي والأمني في المنطقة، وذلك في ضوء التطورات المعقدة التي يشهدها الصراع السوري. تأتي هذه التحركات الروسية في سياق محاولاتٍ حثيثةٍ لتقريب وجهات النظر بين أنقرة ودمشق، وتحويل اتفاقية أضنة إلى نقطة انطلاق نحو تطبيع العلاقات بين البلدين بعد سنوات من العداء المستحكم.
في هذا السياق، تُثار تساؤلات عدّة حول تداعيات العودة إلى هذه الاتفاقية على مختلف الأطراف الفاعلة في المشهد السوري، وعلى رأسها قوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، التي تواجه تهديدات متزايدة جراء إمكانية توسيع نطاق الاتفاقية لتشمل عمليات عسكرية تركية ضدّها. كما أن هذه الخطوة الروسية تطرح إشكاليات عدّة فيما يتعلق بمدى قدرة النظام السوري على الالتزام ببنود الاتفاقية في ظل الظروف الحالية، فضلاً عن تأثير ذلك على التوازنات الإقليمية والدولية في سوريا، خاصة مع استمرار الوجود الأمريكي في المنطقة.
من هنا، يتجلى السؤال المحوري؛ هل يمكن أن تُصبح اتفاقية أضنة الجديدة أداةً لشرعنة الوجود التركي في سوريا بدلاً من أن تكون وسيلة لتخفيف التوترات، أم أنها ستفتح الباب أمام تسويات سياسية وأمنية قد تعيد ترتيب الأوراق في الصراع السوري؟
لمحة عن اتفاقية أضنة و أبرز بنودها
اتفاقية أضنة هي اتفاق أمني تم توقيعه بين تركيا وسوريا في 20 أكتوبر 1998 بمدينة أضنة التركية. وهذه الاتفاقية هي “بروتوكول أمني” أي أنّها ليست اتفاقية رسمية صادق عليها البرلمان. فقد وقّع حينها نيابة عن تركيا نائب وكيل وزارة الخارجية التركية أوغور زيال، ونيابة عن سوريا اللواء عدنان بدر الحسن، لذا لم يتم الكشف عن وثيقة الاتفاقية بشكل رسمي، بل تم تسريب بنودها من قبل وسائل الإعلام التركية.
وجاءت الاتفاقية في سياق تصاعد التوترات بين البلدين خلال التسعينات، حيث اتهمت تركيا سوريا بتقديم الدعم والتسهيلات لحزب العمال الكردستاني، بما في ذلك السماح لزعيم الحزب عبد الله أوجلان بالإقامة في دمشق والادعاء باستخدام الأراضي السورية كقاعدة لشن هجمات ضد تركيا. وبحلول عام 1998، بلغت التوترات بين البلدين ذروتها، حيث حشدت تركيا قواتها على الحدود وهددت بشن عمل عسكري ضد سوريا. تحت هذا الضغط العسكري والسياسي، وافقت سوريا على التفاوض مع تركيا، مما أدى إلى توقيع اتفاقية أضنة، بوساطة مصرية وإيرانية حينها، والتي تضمنت العديد من البنود التي تعتبر بمثابة شروط إذعان مفروضة على دمشق تحت التهديد التركي.
ومن بنود الاتفاقية التي يجب على سوريا تنفيذُها: إخراج السيد عبد الله أوجلان من سوريا، وعدم السماح لعناصر «حزب العمال الكردستاني» في الخارج بدخول سوريا. وعدم السماح بإنشاء معسكرات «لحزب العمال الكردستاني» على الأراضي السورية، وتسليم أعضاء الحزب المعتقلين لدى سوريا إلى تركيا. فيما كانت لهذه الاتفاقية 4 ملحقات، وينص الملحق رقم (4)على أنه: “يَفهم الجانب السوري أنّ إخفاقه في اتخاذ التدابير والواجبات الأمنية، المنصوص عليها في هذا الاتفاق، يُعطي تركيا الحق في اتخاذ جميع الإجراءات الأمنية اللازمة داخل الأراضي السورية حتى عمق 5 كم”. وفق صحيفة الشرق الأوسط، 25 يناير 2019.
الاتفاقية بين سياقها الماضي والراهن
في ظل التحولات السياسية والعسكرية الراهنة في سوريا، تعود اتفاقية أضنة الموقعة عام 1998 إلى الواجهة كأداة محتملة لإعادة رسم العلاقات التركية-السورية. هذه الاتفاقية التي جنّبت البلدين مواجهةً عسكرية آنذاك، تُطرح اليوم ضمن جهود الوساطة الروسية كحل وسط بين أنقرة ودمشق. غير أن الظروف الراهنة، بما فيها تدخلات دولية وإقليمية متعددة، تجعل من العودة إلى هذه الاتفاقية وتنفيذها أمراً معقداً ومليئاً بالتحديات. لأن تطبيقها سيعني تغييراً جذرياً ومعقداً للعلاقة بين أنقرة ودمشق.
أما الحديثُ عن مساعٍ روسية لإحياء الاتفاقية بعد إجراء بعض التعديلات عليها، لتكون إحدى صيغ التوافق بين الحكومتين، فإن هذا الأمر أيضاً يحتاج إلى الكثير من الترتيبات، ولا يمكن أن يحدث بدون تطبيع كامل بين الدولتين، وبدون انسحاب تركي من سوريا، أو بالأحرى لو وافقت تركيا على إعادة تفعيل اتفاقية أضنة، فإن ذلك سيفرض عليها الانسحاب، وذلك لأن الظروف الراهنة مغايرة للسياق الذي جرى فيه التوقيع على تلك الاتفاقية، فحين تم التوقيع على الاتفاقية عام 1998، كانت تركيا في مركز القوة والنظام السوري في موقف الضعف، وذلك للأسباب التالية:
الجيش التركي كان يُعتبر أقوى وأكثر تجهيزاً من الجيش السوري ويحظى بدعم كامل من قبل حلف الناتو، ما أعطى تركيا ميزة عسكرية واضحة في حال تصاعدت الأمور إلى مواجهة مفتوحة.
كما حظيت تركيا حينها بدعم سياسي ودبلوماسي من دولٍ غربية، وخاصة الولايات المتحدة، التي كانت تصنّف حزب العمال الكردستاني “كمنظمة إرهابية” وكانت تدعم تركيا في حربها ضده. هذا الدعم الدولي عزّز موقف تركيا التفاوضي ضد دمشق.
أما سوريا فكانت تواجه ضغوطاً داخلية وخارجية، لأنها كانت تعاني من العزلة الإقليمية والدولية بسبب العقوبات المفروضة عليها أواخر التسعينيات، بسبب سياساتها الإقليمية، بالإضافة إلى ضعف الوضع الاقتصادي في سوريا ما جعلها أقل قدرة على تحمل تبعات نزاع عسكري مع تركيا، وهو ما دفعها إلى قبول مطالب أنقرة.
هذه العوامل مجتمعة جعلت تركيا في موقف تفاوضي قوي، سمح لها بفرض شروطها على الحكومة السورية من خلال اتفاقية أضنة. وقَبِل النظام بشروط الاتفاقية التي كانت كلُّ بنودها عبارة عن شروط مفروضة على دمشق، والتي وُضِعت كلُّها تماشياً مع المصالح التركية. ولكن الأمر مختلف اليوم، فالنظام السوري حالياً هو في موقع القوة -على صعيد التفاوض على الأقل- ومن المتغيرات الراهنة التي تجعل موقف سوريا التفاوضي مع تركيا أقوى، والتي قد تدفع إلى تغيير بنود اتفاقية أضنة لصالح دمشق هذه المرة هي:
روسيا وإيران أصبحتا حليفتين أساسيتين لسوريا خلال الحرب السّورية، وبات لهما وجود مباشر على أراضيها، وتقدمان دعماً عسكرياً وسياسياً كبيراً للحكومة السورية. هذا الدعم غيّر موازين القوى في الدّاخل السوري وأعاد السيطرة لدمشق على معظم الأراضي. فروسيا، بوصفها قوة عالمية، تمتلك نفوذاً كبيراً على المسرح الدولي، وتُعتبر لاعباً أساسياً في أيّة تسوية سياسية بين تركيا وسوريا. كما أنّ نفوذ إيران في سوريا قد يعطي دمشق قدرة أكبر على المناورة، وكل ذلك يعزز من موقف دمشق التفاوضي.
تراجع العلاقات التركية مع أمريكا والغرب، حيث شهدت علاقات تركيا مع حلفائها التقليديين في الناتو في السنوات الأخيرة تدهوراً كبيراً وخاصة الولايات المتحدة، بسبب قضايا مثل شراء أنظمة الدفاع الروسية (S-400) و تدخلات تركيا في شمال سوريا. هذا التوتر أضعف الدعم الغربي لتركيا في النزاعات الإقليمية، بما في ذلك الصراع مع الكرد في سوريا. كما أنّ سعي تركيا إلى تحقيق توازن بين علاقاتها مع الغرب وروسيا، جعلها أقلّ قدرة على التصرف بحرية في الملف السوري دون مراعاة مصالح موسكو.
الوجود الأمريكي في سوريا وتحوّل الكرد في شمال سوريا إلى قوة أمر واقع مدعومة من قبل الولايات المتحدة والتحالف الدولي يمثل أحد العوامل الهامة التي يمكن أن تستخدمها دمشق كأداة ضغط في مفاوضاتها مع تركيا، فدمشق قد تستخدم التهديد بإمكانية التفاوض مع الكرد كورقة ضغط كبيرة في مواجهة تركيا.
التحديات الاقتصادية في تركيا، حيث يواجه الاقتصاد التركي ضغوطاً متزايدة، من بينها التضخم وتراجع الليرة، لذا فمن الصعب على الحكومة التركية التورط في مغامرات عسكرية طويلة الأمد. هذا يضعف قدرة تركيا على التهديد باستخدام القوة ضد دمشق هذه المرة، ما قد يجعلها أكثر ميلاً للتفاوض والتسويات.
تحوّلات المواقف العربية تجاه سوريا، فعودة بعض الدول العربية إلى تحسين علاقاتها مع دمشق وفتح سفاراتها مرة أخرى يعتبر عاملاً مهماً يخفف من العزلة الإقليمية التي كانت تعاني منها سوريا في فترة توقيع اتفاقية أضنة. هذا الدعم العربي قد يعطي دمشق ورقة إضافية في المفاوضات مع تركيا.
هل يمكن العودة لاتفاقية أضنة في الوقت الراهن؟
تقول صحيفة “الوطن” السورية شبه الرسمية، إنّ الاتفاقية التي تم التوقيع عليها في تسعينات القرن الماضي قد يتم الاستناد إليها في جولة المباحثات المقبلة بين دمشق وأنقرة، وتشير نقلا عن دبلوماسي، لم تسمه، إلى أنه “قد تتم مناقشة عملية إعادة البحث في تعديل بنودها”. ما جاء في الصحيفة السورية يعني أنّ دمشق وموسكو ستحاولان قلب بنود الاتفاقية وإضافة شروط أخرى تُطالَب تركيا هذه المرة بالالتزام بها، وذلك لأنه قبل توقيع اتفاقية أضنة عام 1998 لم يكن لتركيا قوات داخل سوريا، كما لم تكن تدعم آنذاك قوات من المعارضة السورية والجماعات الإسلامية، والتي تعتبرها دمشق اليوم جماعات “إرهابية”. لذا وبحسب صحيفة “الوطن” نقلا عن مصدرها، أن “أجندة جدول الأعمال تتضمن ضرورة الإشارة إلى تسمية من هم الإرهابيون، وتحديد آلية للتعاون بين دمشق وأنقرة لمكافحة الإرهاب” بحسب وكالة نورث برس،3سبتمبر 2024. هذا يشير إلى أنّ روسيا قد تفرض على تركيا التخلي عن جزء من فصائل المعارضة والجماعات الإسلامية واعتبارهم “إرهابيين” في حال طلبت تركيا من دمشق اعتبار قوات سوريا الديمقراطية “إرهابية”.
وفي حال تم تطبيق بنود الاتفاقية في الوقت الراهن بعد تعديل بنودها، فإنّ النظام السوري سيكون هو المستفيد الأكبر منها هذه المرة، لأن كلّ ما طُلب من النظام تنفيذه تحت بند “مكافحة الإرهاب” في تلك الاتفاقية سيُطالِب النظامُ تركيا بتطبيق مثيلها بعد التعديل. فمثلاً قبل تطبيق الاتفاقية -عملياً- سيتوجب على الحكومة التركية الاعتراف مجدداً بشرعية الأسد ونظامه بشكل رسمي، وهذا سيحتّم عليها إعادة علاقاتها مع النظام السوري، وفتح سفارتها في دمشق، والقبول بإعادة فتح دمشق سفارتها في أنقرة. وعليه، ستُجبَر تركيا على الانسحاب الكامل أو الجزئي من الأراضي السورية، والانسحاب سيجعلها تضطر للتخلي عن المعارضة المسلحة والسياسية، وإغلاق كافة معسكرات فصائل المعارضة داخل الأراضي التركية، وهذا لن يكون سهلاً تنفيذه من طرف تركيا التي لا ترغب بالابتعاد عن رسم خارطة مستقبل سوريا، وتخليها عن المعارضة سيضعف تأثيرها في الحل السياسي السوري مستقبلاً.
إشكاليات ومخاطر العودة لاتفاقية أضنة المعدلة
إنّ أية مساعٍ لتطبيق بنود اتفاقية أضنة المعدلة سيكون مرهوناً بعودة انتشار القوات الحكومية السورية على كامل الحدود مع تركيا، والاعتراف بالحدود القائمة. إلا أن سيطرة فصائل المعارضة والجماعات الإسلامية المدعومة من تركيا حالياً على غالبية الحدود الشمالية لسوريا، يمثل إشكالية كبيرة تواجه الاتفاقية.
وفي حال جرى التعديل على الاتفاقية وطلبت تركيا من دمشق تنفيذ كافة بنود الاتفاقية الجديدة بما فيها محاربة الإدارة الذاتية وقسد واشتراط اعتبارهم جزء من العمال الكردستاني، أو اعتبارهم “إرهابيين”، فإن الظروف التي تمر بها دمشق، لن تسمح لها بتنفيذ هذه البنود مع تغير أحوال الكرد وامتلاكهم القوت العسكرية واستمرار الوجود الأمريكي في شمال شرق سوريا ودعمها لقوات سوريا الديمقراطية، وبالتالي ستكون الاتفاقية كلّها عبارة عن تنفيذ الملحق الرابع ومنح الشرعية لتركيا بدخول الأراضي السورية لعمقٍ قد يصل هذه المرة لأكثر من 30 كيلو متر، وتنفيذ الضربات بحجة أنّ دمشق لم تلتزم بتعهداتها.
أما تنفيذ الاتفاقية بشروط تركية معدلة قد يعني قبول دمشق بوجود تركي مستدام على أراضيها، مما قد يحدّ من سيادتها الكاملة على مناطق الشمال السوري. فتركيا قد تسعى إلى الحفاظ على وجودها العسكري عبر تثبيت نقاط مراقبة عسكرية داخل الأراضي السورية على غرار ما تفعل في العراق، وهذه المرة بضوء أخضر روسي في مناطق استراتيجية مثل إدلب وعفرين وسري كانيه لضمان تحقيق أهدافها المتعلقة بمنع قيام كيان كردي على حدودها الجنوبية.
وما يرجح أن يكون لروسيا مثل هذا الهدف أيضاً، أنّه بالعودة إلى الوراء كان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف قال، إنّ بلاده اقترحت على النظام السوري وتركيا عقد اتفاق، يسمح ببقاء القوات التركية على الأراضي السورية بشكل “شرعي”. وفق قناة الحرة الأمريكية، 3 سبتمبر 2024. وقد يكون هذا الاقتراح من بين أحد بنود الاتفاق الجديد، وبالتالي إبقاء نقاط وقواعد عسكرية محددة لتركيا في العديد من المناطق شمال سوريا أو حتى إنشاء قواعد جديدة في مناطق تهيمن عليها روسيا حالياً.
وبالتالي فإنّ توسيع التوغل التركي في شمال سوريا بموجب اتفاقية أضنة قد يعرّض الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية لضغوط متزايدة، حيث ستجد هذه القوات نفسها بين نارين؛ النظام السوري والقوات التركية من جهة، والتواطؤ الروسي من جهة أخرى. عندئذٍ سيصبح الوجود الأمريكي عنصراً حاسماً في منع وعرقلة تلك الاتفاقيات، أو تخفيف مخاطرها على مناطق الإدارة الذاتية.
ما أهداف ورسائل روسيا من التلويح بإعادة تدوير اتفاقية أضنة
بما أنّ بنود اتفاقية أضنة يصعب تطبيقها في الوقت الراهن، يمكن القول إنّ روسيا تسعى عبر توجيه الطرفين لمحاربة الكرد إلى تقريب وجهات النظر بين تركيا وسوريا. فمن خلال التركيز على هذا “القاسم المشترك”، تحاول روسيا خلق مساحة للتعاون بين أنقرة ودمشق، ما يمهد الطريق لإعادة تطبيع العلاقات تدريجيًا.
قد تستخدم اتفاقية أضنة كوسيلة للضغط على قسد والكرد لإجبارهم على التقارب مع النظام السوري، وبالتالي محاولة لإبعاد قسد عن الاعتماد على الولايات المتحدة ودفعهم للبحث عن حماية من روسيا والنظام السوري بدلًا من واشنطن، وهذا ما يمكن التماسه من تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بداية شهر سبتمبر 2024، حين حذر الكرد والإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا من “مصير مشابه للأفغان الذين وثقوا بواشنطن”.
روسيا تهدف إلى تقليص الدور الأمريكي في شمال شرق سوريا وتثبيت نفوذها كوسيط رئيسي في المنطقة. فعودة الاتفاقية ستعزز موقف موسكو كضامنٍ للتفاهمات الإقليمية، وتسمح لها بلعب دور أكبر في صياغة مستقبل سوريا. وبالتالي تحاول موسكو تذكير الإدارة الذاتية بأهمية دورها في تحقيق التوازن بين تركيا وسوريا، وأنه يمكنهم الاستفادة من علاقتهم بروسيا لتجنب تهديدات أكبر.
وقد يحمل رسالة روسية إلى تركيا أيضاً، مفادها أنّ التعاون مع دمشق بموجب اتفاقية أضنة يمكن أن يحقق مصالحها الأمنية، ولكن في المقابل، على تركيا التقرّب أكثر من محور روسيا والابتعاد عن المحور الأمريكي، ويبدو أن تركيا تحاول الاستجابة الجزئية لهذا المطلب الروسي، وذلك عبر تقديمها مؤخراً طلباً للانضمام إلى مجموعة «بريكس»، وفق ما أفاد به “عمر جيليك” المتحدث باسم حزب «العدالة والتنمية» حيث قال جيليك إنّ «رئيسنا أكد مراراً أننا نريد أن نصبح أعضاء في بريكس… العملية جارية الآن»، وفق ما نقلته وكالة الصحافة الفرنسية. 3 سبتمبر 2024.
الرؤية:
في ظل الظروف الراهنة، يبدو أنّ إعادة تفعيل اتفاقية أضنة دون تعديل لن يحقق أهداف الأطراف الساعية لإحيائها. فتركيا، رغم رغبتها في استخدام الاتفاقية لضمان مصالحها الأمنية، تجد نفسها مضطرة للتفاوض مع النظام الذي سيفرض هو الآخر شروطه هذه المرة بدعم روسي وإيراني. إذ قد يسعى النظام السوري إلى تعديل بنود الاتفاقية بما يضمن انسحاباً تركياً جزئياً أو كلياً من شمال سوريا. ومع ذلك، يبقى الخطر الأكبر هو أن أي اتفاق قد يفتح الباب أمام شرعنة الوجود التركي بشكل دائم في الأراضي السورية، مما يهدد سيادة سوريا ويزيد من تعقيد المشهد السياسي والأمني.
شهدت سوريا تغيرات كبيرة خلال العقد الأخير، بما في ذلك تدخل الولايات المتحدة في سوريا ودورها في تأسيس ودعم قوات سوريا الديمقراطية، هذه التغيرات تجعل من الصعب على أنقرة ودمشق تنفيذ بنود الاتفاقية بشكل كامل، وإذا التزمت تركيا بتنفيذ بنود الاتفاقية بالكامل، قد تواجه المعارضة السورية وضعاً صعباً. لأنه عندئذٍ ستُعتبر هذه الفصائل إرهابية بموجب التفاهمات الجديدة، مما يعرضها لهجمات من قبل قوات الحكومة السورية ويجبر تركيا على التخلي عن دعمها، ما يعرض المعارضة لخسائر كبيرة.
يبدو أن روسيا تسعى إلى استغلال اتفاقية أضنة كأداة دبلوماسية وأمنية لدفع تركيا وسوريا نحو تعاون ضد الإدارة الذاتية، ولا تهدف روسيا بالضرورة إلى تفعيل الاتفاقية بحذافيرها، بل دفع دمشق وأنقرة على التركيز على القاسم المشترك بينهما -أي مواجهة الكرد – من أجل تحقيق مصالحها الاستراتيجية الأوسع في سوريا والمنطقة.
إنّ عودة تركيا لتطبيع العلاقات مع الدول العربية كمصر بعد فشل سيطرة الإخوان على الحكم فيها، وتطبيع العلاقات مع العراق بعد فشل تركيا في احتلال شمال العراق حتى الموصل، والسعي لتطبيع العلاقات مع دمشق بعد فشل المعارضة والإخوان في الإطاحة بحكم الأسدـ كلها أسباب دفعت تركيا لتغيير استراتيجيتها ومحاولة توسيع نفوذها في هذه البلدان عبر اتباع سياسية المصالحة وإبرام الاتفاقيات معها، بدلاً من استخدام الجماعات الإسلامية والقوة العسكريةـ فالتغيير في الاستراتيجية التركية جاء نتيجة فشل تلك المحاولات في تحقيق الأهداف المرجوة، ما دفع أنقرة إلى التركيز على الدبلوماسية الأمنية والاقتصادية وإعادة بناء الجسور مع الأنظمة العربية الحاكمة عبر اتفاقيات تعاون اقتصادي وأمني بدلاً من المواجهة الأيديولوجية أو العسكرية. وهذا يرجح أن تسعى تركيا بجدية هذه المرة لإبرام اتفاقيات بعضها علني وأخرى سرية مع دمشق لمحاربة الإدارة الذاتية والسعي لإعادة الأوضاع في سوريا إلى ما قبل عام 2011 وإعادة الحدود ومناطق النفط إلى سيطرة النظام.
المصدر: مركز الفرات للدراسات