هاتف بشبوش/ شاعر وناقد عراقي
الفيلسوف اليساري (ميشيل فوكو) في بحثه عن الإعترافات المسجلة في الكنائس لعقود من الأزمنة والتي كانت تتناول خطايا الناس وإعترافاتهم أمام الكهنة من وراء حجاب ، وجد أن 95 بالمئة من هذه الخطايا هي جنسية بحتة تتعلّق بممارسة الحب أو الخيانة الزوجية أو الإنجاب خارج المؤسسة الدينية وغيرها . هذا يعني أن الجنس هو الشغل الشاغل للرجل والمرأة أنذاك . أما (البيركامو) فيلسوف الوجودية فقال أن العالم تحكمه المثلثة الجبرية ( ماركس ، فرويد ، وبافلوف) ويعني بهذا إقتصاد ماركس ، والجنس لدى فرويد ، وعلم الإجتماع لبافلوف حسب نظريته في تجويع الكلب وكيف كان يدق الجرس فيذهب الكلب ليأكل طعامه وبعدها قام بدق الجرس دون وضع الطعام أيضا رآى الكلب يذهب لنفس موقع الطعام ( أي نظرية تجويع الكلب ليتبعك ). ولذلك نرى الكثير من جرائم القتل تدور حول الحب ويرتكبها الزوج أوالحبيب والدافع دائما هو الجنس أو الأسباب المادية لدى المجتمعات . وهذا نراه في الفيلم الدنماركي التشويقي المتصاعد الذي يتناول التحقيق في الجرائم البوليسية المتقنة إضافة الى الرومانسية الزاخرة بمشاهدها. فيلم(حب البالغين) هو من الحبكة الثلاثية( الزوج والزوجة والعشيقة) إضافة الى التحقيق البوليسي الذي يشبه أداء المحقق (مستربوارو) في روايات أجاثا كريستي . (كريستيان) شاب في مقتبل الأربعينيات وهو مهندس ناجح ولديه شركة كبرى يعيش مع زوجته (ليونورا) وقد مضى على زواجهم عشرون عاما ولهم ولد جميل( يوهان) طالب جامعي . بعد مضي السنوات على الزواج تحصل المناكفات الكبرى التي تأتي من غيرة الزوجة على زوجها أو من عدم الرضا الجنسي الذي هو من الدوافع الأكثر قوة للبحث عن شريك خارج الزواج بالنسبة للرجل والمرأة . كريستيان يخون زوجته مع فتاة تعمل معه في الشركة (زينيا) فتكتشفه زوجته . النساء خبيرات في معرفة الزوج الخائن فلهنّ من الحاسة الشمية التي لايمكن تصديقها وهذه هي من هبات الطبيعة لها. تصارحه فينكر ذلك وهذه من الأخطاء الفادحة حين يكذب الزوج فلابد من المصارحة وإيجاد حلول أفضل وهو الإبتعاد والفراق قبل حصول كارثة ما . وذات يوم في حفل الشركة يدعو زوجته للحضور معه وأثناء الحفل يرتفع ضغط شبقه فيأخذ عشيقته لغرفة العمل ويمارس معها الجنس فتراه زوجته بمشهد مثير وهو ينكحها وقوفا من الخلف بالطريقة الفرنسية الأكثر إثارة في الجنس والتي تتطلب اللياقة البدنية العالية من كلا الطرفين . وأثناء الإيلاج وهي تتأوه من اللذة والإمتاع فتصد عين العشيقة بعين الزوجة التي كانت تترقب نكاح زوجها لعشيقته بألم لايطاق ، أما العشيقة فكانت بمشهد تحسد عليه من حيث الإمتاع والأورجازم مما جعلها تضحك من النشوة الماتعة أمام عيون الزوجة المتألمة والتي بدت وكإنها لبوة هصور تريد الهجوم والإفتراس والقتل وهذا سوف يحصل في المشاهد القادمة . تعود الزوجة (ليونورا) للبيت منكسرة بل كل آلام العالم قد دخلت في قلبها وما من مخرج ولاهدوء ولاسكينة الاّ بالبوح لزوجها والمكاشفة الحقيقية وياروح مابعدك روح وخصوصا أنها تركت عملها طيلة سنوات مضت وتفرغت لتربية إبنها هذا يعني أن المال والثروة كلها بيد زوجها وهذا يعني أيضا انها اصبحت في العدم لو سكتت على خيانة زوجها فالموضوع أصبح خيانة زوجية وفقر حالتها المادية . تصارحه أن يترك عشيقته ولم ينفع معه حتى تهدده بتبليغ الشرطة من أنه سارق ذات يوم لأموال الدولة التي إغتنى منها بالنصب والأحتيال . هنا بدأ الصراع الحقيقي بينهما والذي وصل الى طريق مقفل لارجعة منه فيفكر زوجها بقتلها وهذه هي النوازع البشرية حين يطغي الشر على الخير ، فالإنسان أصله بصلة وزجاجة عطر فإذا طغى الجانب البصلي على الجانب العطري فتظهر النوازع السيكوباثية التي لها الإستعداد لسلوك الشر ومن ضمنها القتل مع سبق الإصرار . كريستيان يعرف طريق زوجته التي تتخذه كل يوم لممارسة رياضة الركض فينتظرها عند المنعطف فيدهسها من خلفها بسيارته ثم يعود عليها داعسا لكي يتأكد من مماتها . عجيب غريب أمر البشرية لكم هي منحطة وحقيرة في لحظة الإنتقام . إمرأة معه لعشرين عاما وقد شبعوا من الهسيس وآهات الجنس والإيلاج والشبق فكيف تسوّل له نفسه في قتلها، فأين الحب وأين ألأيام الخوالي ولحظات الصفاء وإرتجاف القلوب وصيد الأحلام والطيران في لجة العشق ، أين هذا من ذاك ؟ إنه حكم الجنس حين يرى له مخدعاً جميلاً آخراً وبديلاً عن الجنس القديم الذي ترهّل وأصبح بارداً .
بعد دهس زوجته يعود كريستيان للبيت نادما خائفا فمهما يكن فهناك لدى الإنسان نوعاً من الشفقة أو لحظة ندم تمرق بعد إتمام الجرم الحقيقي ، فالمرء يكون لديه دوافع الإنتقام في مخيلته لكنه عند التنفيذ يتردد آلاف المرات بل يتجاوز هذا الأمر الا إذا أصبح مريضا بداء السيكوباث كما قلنا وهذا ماحصل فعلا لكريستيان . يتحرّك كريستيان في البيت جيئة وذهابا ويضرب الأخماس بالأسداس بعد جريمته ثم تدخل زوجته عليه بلباسها الرياضي مما يسبب بذهول كريستيان وعدم التصديق فهو قبل قليل قد دهسها وأتم الفعل مع سبق الإصرار . فتبين أن الضحية التي قتلها كانت ترتدي نفس لباس زوجته ، وبالتالي أصبح كريستيان مجرما حقيقيا مطلوبا للعدالة وبمعرفة زوجته التي جاءها هذا الموقف لصالحها كي تنقض عليه وتأخذ بثأرها وانتقامها ، فالطرفان أصبحوا في حلبة الصراع فلابد من منتصر بعد إن كانوا حمامتين ترفلان بالحب والإمتاع فكيف وصل الأمر هكذا ، إنها خسة الإنسان التي طلب إجتثاثها الفيلسوف الألماني ( فريدريك نيتشة) . البوليس يعرف من أن كريستيان هو القاتل بعد التحقيق معه ولكن دون وجود دليل دامغ فينفذ من جريمته وتعرف زوجته أنه أراد قتلها لكنها تسكت عنه فبالتالي هو زوجها مهما فعله لكنها تضمر شيئاً له سوف تفعله لاحقاً بحنكة لايفعلها الاّ الذين مضوا في الجريمة والنكوص الإنساني.
الفلم تشويقي ويحمل الكثير من المفاجئات التي لاتخطر على البال فيبدو ان الزوجة بها مرض الغيرة القاتلة أو حب التملّك ، حيث يكتشفها زوجها كريستيان بعد بحث طويل وإستفسار ، فكانت سابقا وقبل عشرين عاما تحب شخصا لكنه يحب صديقتها ولايكترث بها فقتلته رميا من أعلى التل الى عرض البحر ونجت من قبضة البوليس بحنكة إمرأة ذكية قادرة على الخلاص من جريمتها . يلتقي الطرفان(كريستيان وزوجته) من أن كلاهما قاتل ولديه مستمسك على الآخر فإما يغرقوا أو ينجوا بنفسيهما من أجل إبنهما المريض . بعدها ترسم زوجته خطة للخلاص من عشيقته وشرطت عليه أن يقتلها . يحجزان غرفة في فندق ، فيذهب هو في الليل لمواعدة عشيقته في بيتها واتفقا على أن يقتلها ويعود الى الفندق وبهذا يكونا لديهما دليل على إنهما في الفندق ليلة الجريمة. وبالفعل يذهب الى عشيقته التي تطلب منه أن يطلّق زوجته كي يستمر حبهما والى الأبد ، ويمارس معها أجمل شوط جنسي وبحميمية هاءلة ، لكنه لم يستطع قتلها فتعرف زوجته بذلك فتذهب هي وتدخل عليها في غرفة الحمام وهي عارية لتستحم إستحمام نهاية الشوط الجنسي مع كريستيان ، تدخل عليها فتطعنها بالسكين عدة طعنات مميتة وأمام زوجها العاري الصامت والخائف والمرعوب . بعد ان تموت العشيقة ( زينيا) لم تستطع الشرطة ولا المحقق البارع في أن يجد أي دليل على قاتلها . لآنهم أخذوا الجثة ووضعوها في حطب حرق الساحرة كتقليد لدى الدنمارك يقام حتى الآن كل عام في شهر مايو لحرق الساحرة لممارسة الطقوس التي كانت تحدث حقيقية في حرق الساحرة أيام زمان مضى من قبل الكنيسة التي تعتبر أي إمرأة حكيمة مثقفة هي ساحرة وشيطانة فيتوجب حرقها وهي حية في أبشع طريقة للقتل مثلما أحرقت الفرنسية الثائرة ( جان دارك) .
ولذلك نرى في المشهد المرعب للغاية في الفيلم ومدى خسّة الإجرام البشري حيث تنقلنا البانوراما التصويرية الى ( كريستيان ) وهو يقوم بحرق جثة عشيقته بيديه حيث يضعها على خشبة كبيرة ثم يضع أكوام الحطب فوقها ويرميها في النهر ويقوم بإشعال النار لحرق الساحرة المنتصبة فوق الحطب والجثة معا بينما الضيوف يحتفلون بهذه المناسبة دون ان يعلموا أن هناك جثة إمرأة في الحطب . يحتفل الزوجان إحتفال مهيب مع ضيوفهم في قصرهم المطل على النهر وفي هذه الأثناء تمر الشرطة مع الكلاب البوليسية التي تبحث عن الجثة المختفية فتصل الكلاب الى جرف النهر وتظل تنبح لكن البوليس لايعرف السبب لماذا تنبح الكلاب لآن الجثة في وسط النهر وقد إحترقت فأدى الى إختلاف الحاسة الشمية لدى الكلب حتى يتم حرقها كاملا وتنزل الى قاع النهر وبهذا يختفي الدليل . وبعد مضي السنوات العديدة تقام أعمال نهرية لتنظيف النهر من النفايات فيكتشفون وجود عظام بشرية وبهذا يكون الخير قد إنتصر على الشر والمغزى من ذلك لايمكن لأي مجرم أن يفلت من عقابه حتى بعد دهور على إرتكاب جريمته .
الفلم من فكرة خيالية للروائية الدنماركية(آنا إيكبرغ) لكنها القريبة للواقع ومن الممكن حدوثها في أي زمان ومكان . وتتمحورالأحداث حول الخيانة والقتل ومجموعة من التحولات النفسية المفاجئة والجاذبة والتي تعطينا رسالة مفادها : لكم من العوائل تظهر انها مترفة أمام الناس لكنها بؤرة مشاكل وخيانات وقتل اذا تطلب الأمر في أن يضعهم عند نصل الحد الفاصل بين الشرف والنذالة ، بالتزامن مع الخوف من الطلاق أو عدم القدرة على اتخاذ قرار الانفصال، ما يجعل الخيانة تبدو حلّاً للمشكلة!. واليوم نرى الكثير من جرائم القتل في بلدان الشرق من هذا النوع والتي نرى من خلالها مدى التنازع بين الزوج والزوجة وأغلبها دوافع غيرة أو حب المال حتى تتنامى وتتصاعد فتتحول الى جرائم لاتصدق . لي صديق حميم في مدينتي السماوة متزوج ولديه أحفاد قامت زوجته في تسجيل كل أملاكه بإسمها حين كان يكدح ويعمل مدرسا في اليمن أيام زمان المجرم صدام حسين ، وعندما طالبها في أن ترد أملاكه ، رفضت رفضا قاطعا فسكت المسكين وظل بآلامه وبحسرته وبعد زمن مرضت زوجته بالسرطان وقبل وفاتها وهي تحتضر قالت له : سامحني على سرقتي كي ألقى ربي وأنت راضيا عني . شعوب لاتعرف العدل سوى عند مماتها أو مرضها فلماذا لاتعترفي بربك وأنت بكامل صحتك وجبروتك كي تكون الحياة الزوجية عادلة وجميلة منفتحة وبلا سارق ولامسروق . أما الجنس الذي تناوله الفلم فهو يعطينا دلائل على أنه الطاغي على السلوك البشري ، فلو نرى صفحات التواصل أكثر ما يشغل القاريء هو مانشيتات الجنس الفاضحة( البورنو) التي تأخذ آلاف اللايكات والإعجاب والتعليق في حين أعظم الفلاسفة والروائيين وأكبر الشعراء حتى لو كتب أفضل من قصيدة البردة فنراه لايحصل سوى على شطط نزير من الإعجاب والتعليق إذا ماقورن في مانشيتات البورنو أو البوضة الجديدة للمثلية الجنسية وكل ذلك يصب في تداعيات الجنس التي هي بالأساس الرغبة الأعنف من بين جميع رغباتنا حسب قول الفيلسوف الألماني ( شوبنهاور) . الفلم تناول قضية الجنس بشكلها الدرامي والعنيف والذي يذكرني بنفس تفاصيل تلك الجريمة التي وقعت أيضا في مدينتي السماوة قبل أربعين عاماً راح ضحيتها المدرّس الذي كان يدرسني مادة الفيزياء وكان رجلاَ مثقفاً طيباً لكنه وقع في حب إمرأة متزوجة وفي كل مرة يذهب اليها في بيتها حتى إكتشفهم زوجها . وهنا إستغلّ الزوج ضعف زوجته وخيانتها فراح يتفق معها في خطة جهنمية إنتقامية قلّ نظيرها . إتفق معها أن تحضره في بيتهم كما عادتها وحصل اللقاء وقاموا بقتله وتقطيعه ورموا أوصاله المقطعة في تواليت البيت . لكن البوليس إكتشفهم ونالوا عقابهم بالمؤبد بدلاً من الإعدام لأن القضية إعتبرت قضية شرف وهذه الحادثة وقتها عملت ضجة كبرى أنذاك يعرفها الذين من جيلي وعمري في السماوة .
ولذلك وأنا أشاهد هذا الفلم الدنماركي التشويقي من بدايته حتى أخر لحظاته مع الموسيقى التصويرية التي جاءت مرة للآنتقام ومرة للجنس ومرة للتحدي والإنتصار وتارة للترقب ، عرفتُ مامدى الرسائل الموجهة من الفلم وحبكته مع الكادر الجميل الذي صنع هذا الفلم من إنتاج عام 2022 ومن إخراج ( بربارا توبسو روثنبورغ) وبطولة كلٍ من سونيا ريتشر بدور ( ليونورا) والممثل دار سليم بدور( كريستيان) والذي كان بارعاً في أداء دور البطولة التي جعلته بمصاف الممثلين العالميين . أما المحقق فكان من نصيب البارع والكبير في السن ( ميخائييل بيرغاير) ثم العشيقة سوس بيركينز بدور ( زينيا) .
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=41675