الجمعة, ديسمبر 27, 2024

حوار الورود والأزهار – الشاعر حسني البامرني وحديث الورود والأزهار – جلسة الحوار بين الارتقاء والانهيار (الجزء  / 13)

عصمت شاهين الدوسكي 

الشاعر حسني البامرني من الشعراء الكلاسيكيين الكرد المعروفين ومن قرية ” بامرني ” التابعة لمحافظة دهوك كردستان العراق ومن عائلة معروفة تقطن القرية منذ زمن وتسمى ” بابك ” تنوعت دراسته بين الكتاتيب لدراسة القرآن وعلوم الدين في القرية وخارجها ويقال إنه درس حين من الزمن على يد العالم محمد شكري الآلوسي في بغداد كان الشاعر حسني البامرني معاصراً لكل من الشاعرين المعروفين أحمد نالبند ” 1891 – 1963م ” والشاعر غياث الدين النقشبندي ” 1890- 1944م ” وهما من شعراء قرية ” بامرني ” أيضاً وهي القرية المعروفة بمكانها المميز وبجمالها بل تعتبر آية من آيات الجمال فهي تقع بين حضن جبل “متينا “مقابل مصيف سرسنك وجبل “كاره ” بهذه الطبيعة الراقية بين الجبال والوديان والعيون الصافية والهواء النقي الذي يرد الروح والبساتين الغناء مع مختلف ورود وأزهار الدنيا وألوانها الزاهية التي تلهم الشعراء بالتغريد للطبيعة والشدو للجمال الأخاذ ،القرية التي أصبحت مركزاً من مراكز العلوم والثقافة في منطقة بهدينان إلى زمن يجاوز أواسط القرن الماضي على الأقل ، يعتبر الشاعر حسني البامرني شاعراً كلاسيكياً يحسن الوصف بشكل عاف وله دراية في عوالمها الواسعة إذ يصف الورود والأزهار والحدائق والرياض ويصف سفرات الربيع في أرياف بامرني الغناء حتى عندما يصف الحوادث الفكاهية يبدع بأدق تفاصيلها إذ يعتبر الشعر الفكاهي محبذاً بين كل الشعوب وخاصةالشعب الكردي الذي يقضي ليالي الشتاء الطويلة في سرد الحكايات والقصص بينما يجتمع الشعراء والأدباء والعلماء والمتنورون في مكان يختاره الجميع ويتدارسون بينهم علوم الدين والأدب المختلفة المضامين ويأتي حب الكرد للنكتة والدعابة نظراً لقساوة الطبيعة في مناطقههم من جبال ووديان وكذلك صعوبة العمل وخصوصاً في الماضي مما يجعل الفرد الكردي رجلاً كان أو امرأة يتعمد تبديد بقية وقته وجهده وهمه بالنكتة والطرفة والدعابة سواء كان بالكلام أو القصة أو الشعر، وبأسلوب الشاعر حسني البامرني المميز يكتب قصيدة في وصف جميل حوارية بين الورود والأزهار في حديقة كانت مكاناً لالتقاء الأدباء والشعراء وعلماء الدين في بامرني وتعود الحديقة للشاعر ” غياث الدين النقشبندي “وكانت تسمى بحديقة ” باخجى بن كويزا – تحت أشجار الجوز ” إن الحديقة كما يقول الشاعر ” صنعت من الكمال والمعرفة ” فالحديقة بجمالها وألوانها ومكانها فرضت على الشاعر الكمال والمعرفة وقد يبدو هذا مطلوباً لتأثير نص معين قوي جداً وايجاد تفسير له إذ تخلق الرؤية الواضحة استجابة قوية ولكن في الأول تأتي من عذوبة الوصف والتعبير خاصة بإضافة السبب في حالة الجلاء الظاهري ” ورود جميع أرجاء الدنيا جمعت في تلك الحديقة ” وحينما تجتمع ورود الدنيا في حديقة نموذجية معينة ماذا يكون فعل هذه الورود ؟ماذا تثير من إحساس وجمال ورقة ومشاعر ؟ ” رائحة الأزهار والرياحين أسكرت جميع الناس “ومثل هذه الرؤية تعين الشاعر لوصف وتعبير وتفسير آت من داخل نطاق الإشارات والإيحاء المعتاد .

(( إن حديقة ” تحت أشجار الجوز

   صنعت من الكمال والمعرفة

   ورود جميع أرجاء الدنيا

   جمعت في تلك الحديقة

   رائحة الأزهار والرياحين

   أسكرت جميع الناس ))

يفيد الشاعر من القوة الاستثنائية والتأثيرات الحوارية التي سنأتي عليها بين الورود والأزهار التي تؤدي إلى تفسيرات وإشارات وتداعيات متداخلة غير مستقرة فكرياً في أغلب الأحيان داخل الحديقة ضمن الحوار وليس فكر الشاعر الذي يعطي بعداً عميقاً للحوار ولا تلغي القوة الإيحائية التي يكتسب النص منها قيمته ” وعندما نهض الريحان من مكانه ،لم يجرأ أحد على التقدم ” ويبدو أن الريحان كان متدلياً قريباً أو ملامساً للتربة والماء ويروق التفسير حينما تثار صور بجمال الواقع والمكان والألوان والتميز داخل التعبير الأكثر وضوحاً والذي يطرح داخل النص الشعري حوارات وصفية فكرية .

(( تفاخرت الورود فيما بينها

   كل واحدة تقول أنا في المقدمة

   وعندما نهض الريحان من مكانه

   لم يجرؤ أحد على التقدم

   أما الزهرة فقد أخذت المبادرة

   وقالت : يا ريحانة ذات الوجه الوسخ ))

هذا الحوار يسير على رؤى تدريجية صعودية نارية حيث التفاخر والتباهي والغرور والكبرياء وهي إشارات للتنافر وعدم الانسجام والوئام فيفتح باب واسع للانهيار عندما يكون الرد قاسياً ” أنا وردة الحدائق لا تستطيعين حتى الجلوس عندي ” إذ لا يمكن التصدي لهذا الحوار عندئذ ينبغي البحث عن تفسير يضمن الطبيعة الإنسانية من خلال هذا الحوار بين الورود والأزهار خاصة حينما يمارس الشاعر التضاد القاسي بين الريحانة والزهرة على حقد ومكنون الواحدة على الأخرى التي تتضح وتلامس نفوس وأفكار الناس ومن هذا المنطلق تختلف الميول والمنافسات ومن هنا يسلط الشاعر الضوء على جوانب من صفات الإنسان بشكل غير مباشر وتأثيراتها على الرغم من أن قسماً كبيراً من المعاني واضحة من خلال الإشارة إليها وتسعى على العموم إلى تفسيرات شمولية اكبر وأسع من أطر المنهج الوصفي المطلوب إذ أن الشاعر يبرز بوصفه شاعراً معروفاً بالوصف معيناً في الوصف بصورة ذهنية جميلة خلاقة أثبتت إن لها جذب خاص فيها .

(( أما الريحانة فقالت : أنا ريحانة

   أما أنت فلست شيئاً

   أنا وردة الحدائق

   لا تستطيعين حتى الجلوس عندي

   أنا أزين رؤوس الشباب

   وترين ذلك بأم عينيك ))

إن مكمن قوة كتابة الشاعر حسني البامرني تشبثه بما جميل من صورة وفكر ومعنى لينتقل خلالها إلى ما هو أعمق وأصيل فضلاً عن نبرة ” وردة القرنفل ” من وحالتها ” عبوسة الوجه وغاضبة دائماً ” يبدو إن الرغبة الهادفة للإثارة تجلت وتحتاج إلى تفسير بغية التوصل إلى المعنى لكن لماذا ترسل الشكوى إلى ” الموصل ” معلنة إنها ألبق بالكبار؟كأنها لا ترضى بموقعها الحالي التي هي فيه ، هذه التأثيرات الخاضعة بين مد وجزر حين تضاف إلى قوة التكبر فصورة الدعوة تتسع نطاقها  لتتحول إلى مناشدة ضمنية للانتقال والتحول وعدم الإرضاء والنفور من المكان والواقع هذه الصورة المستبدة رمزية والإثارة تتسلل إلى كل ركن في خيال الشاعر ويضع نصب رؤيته الخاصة نوعية رمزية مثيرة لتحمل الخاصية المميزة فيها كوردة القرنفل .

(( ثم أتت وردة القرنفل من جهة أخرى

   قائلة : أنا لا أعرف هذا الأمر

   عبوسة الوجه وغاضبة دائماً

   أنا لا أرضى بالذي هو أدنى

   لترسل الشكوى إلى الموصل

   فانا أليق بالكبار ))

إن المسائل والأفكار والتضاد والصور التي يصفها الشاعر حسني البامرني هي معنية بالإنسان وتعتبر نموذجاً ذات دليل على وجود هذا الجوهر كما تفرض ” وردة البنفسج ” وجودها بقوة ” واضعة العصا الغليظة تحت أبطها ” بصراع وتحد ظاهر يعزز وجودها الشكلي والتأثير يشير إلى حدود متناهية ” سنجعل من الميدان مرتعاً ” تعد مثالاً وليس تخبطاً شائعاً مثل تحديد ما يمكن تحديده ” أين ذلك الأقرع الأبرص ؟ “بوصفها صور لتوظيف ودعم الصورة وطريقة لاستبدال من صورة إلى أخرى بأسلوب واختيار ذكي ومبدع داخل النص الشعري .

(( أما وردة البنفسج البنفسجية

   فقد هيأت نفسها

   واضعة العصا الغليظة تحت أبطها

   أين ذلك الأقرع الأبرص ؟

   سنجعل من الميدان مرتعاً

   مليئاً بأجساد الموتى ))

في هذا الحوار التدرجي الناري بين الورود والأزهار بما يتخلله من جدال وتعنت وتجبر وغرور وتكبر تحتاج إلى المنقذ وليس إلى الإقصاء والجلاء بموجب العرض النصي فأين البديل في صراع جزيل ؟هذا التخيل العميق يحتاج إلى تلميح وجود المنقذ لكي يشير إلى الارتقاء بدلاً من الانهيار ولكي يقف هذا الجدال والحوار وتصبح نهاية ” القيل والقال ” حين تذعن جميع الورود والأزهار إلى الرغبة المرضية بحضور ” النرجس ” ومعها ” شه وبو ” وحضور ” حسن يوسف ” وهما اسمان لوردتين جميلتين وتعني اسم الأولى بالكردية ” شه وبو ” الوردة التي تفوح ليلاً وقد سماها العرب بناء على ذلك ” شبو الليل ” ويبدو وجد الشاعر المنقذ من خلال حضور الوردتين الجميلتين فلهما التأثير على ” المجلس” وتظهر بصورة أخرى إنها مجلس الشعراء والأدباء والعلماء أو أي مجلس آخر في العالم .

(( جاء النرجس ومعها ” شه وبو “

   وهناك حدث القيل والقال

   امتلأ المجلس بالرائحة

   وانضم ” حسن يوسف ” إليهما”

   ونالوا النجاح في الدعوى

   استعملوا معها السماد كل عام ))

والحمد لله وجد الشاعر المنقذ لكون الحوار والصراع والجدل لا يتحمل المخاطر التي تكتشف من خلال المجلس ولا يمكن أن يتحاشاه لأنها تشكل معضلة يجب الوصول إلى ” السماد الخاص لذلك يعتبر وصف الشاعر لهذا الحوار نوعاً ذكياً ومبدعاً يحيي فيها الصفات الإنسانية بين الحب والكره وبين الغرور والتكبر وبين القوة والضعف فهو يسترسل في هذا الحوار الجذري للوصول إلى المنقذ والسماد الذي يعتبر ديمومة فاعلة للحوار الجميل ونضوج الفكر والارتقاء عالج الشاعر الحوار بين الورود والأزهار بنفس وصبر طويل رغم الشقوق والشروخ وإن التشبيه المعني ” الريحان – الزهرة – وردة القرنفل – وردة البنفسج – الأقرع الأبرص – أجساد الموتى – النرجس – شبو الليل والدعوة والسماد ” تحديد كل منها بصفاتها الذي ينطبق على كل مجلس اجتماعي وثقافي وإنساني يبني المشهد النصي برؤية الجميع في المجلس بحصول الجميع للتألق والنجاح والارتقاء والرضا بدلاً من الانهيار ويبدو الصورة الضمنية غاية الشاعر من الحوار الجدلي بأسلوب وصفي مثير وجميل في غاية إنسانية مبدعة .

******************************************

حسني البامرني

 

–   ولد في عام 1868م في قرية بامرني التابعة لمحافظة دهوك كردستان العراق واحد شعرائها المعروفين .

–   دخل الكتاتيب ودرس القرآن وعلوم الدين في تلك القرية وأخذ جولة في تلقي العلوم خارج القرية .

–        يتقن اللغات الكردية والعربية والتركية والفارسية

–   أصدر الشاعر ” عبد الرحمن طيب بامرني ” كتاب مستقل عن حياة الشاعر ” حسني البامرني ” تحت عنوان ” الشاعر الشعبي حسني البامرني ” دهوك مطبعة خه بات عام 2002م .

–   أشعاره رقيقة من النوعين الكلاسيكي والرومانسي في غاية من البلاغة بحسن أسلوبها وسمو معناها وعلو خيالها .

–        كتب عنه عدة دراسات عن حياته وشعره .

–        توفي عام 1938م .

شارك هذه المقالة على المنصات التالية