د. سربست نبي : خارج القراءة، داخل التاريخ وخلف المشهد
إن المتأمل من الخارج، لمشهد اللقاء الرسمي الأخير بين وزيري خارجيتي العراق وتركيا، فؤاد حسين وحقان فيدان، في بغداد 22/8/2023، وهما جالسين وجهاً لوجه، وخلفهما علما الدولتين، لن يهتمّ إلا بالمخرجات السياسية للقاء دبلوماسي معتاد ومألوف، بين أيّ وزيري خارجية لدولتين متجاورتين في هذا العالم. لكن لماذا علينا أن نركز على هذه الصورة؟ إن الأفق التحليلي لهذه المقالة مخصص لكشف ما هو فريد واستثنائي ومتناقض خلفها.
تقبع خلف هذا المشهد واحدة من أكبر مفارقات تاريخ الشرق الأوسط مأساوية، منذ الحرب العالمية الأولى. مفارقة شاملة، وليست جزئية، تنطوي على أبعاد سياسية وثقافية واجتماعية، وحتى أخلاقية… الخ. إن كثافة المفارقة، وزخمها القابع خلف الصورة، تكشف عن سريالية تاريخنا المعاصر ولا معقوليته وتدعونا للنظر إلى هذا الموقف بعيون كردية خالصة، محض كردية، وهذا هو الامتحان الكبير أمام الناظر: هل بمقدوره أن يتجرد من مسلماته الأيديولوجية ويقرأ المشهد من هذه الزاوية؟ إذن، كن كرديّاً قابضاً على جمرة هويتك لبرهة واحدة كي تكتشف عمق هذه المفارقة وأبعادها. استعر ضمير الكردي ووعيه الذاتي بهويته، المقهورة والمصادرة، كي تقرأ هذا المشهد.
الانحياز للتاريخ والنظر من داخله، يقتضي الرسو في قاعه، والنظر من أعماقه السحيقة، حتى نكتشف مسار الانحراف فيه ومقداره، من بدئه وحتى أعلاه، عند سطحه. أما الادعاء بأن هذا المشهد الظاهري عند السطح، هو المظهر الحقيقي والوحيد للتاريخ، فهو ادعاء زائف ومضلل، واختزال لمسار التاريخ الطويل في برهة واحدة منه، الأمر الذي لا يخلو من العسف. إذ يثوى خلف هذا المظهر بانوراما تراجيديا أمة بكاملها غيّبت عن مسرح التاريخ وأقصيت، وتمّ السطو على إرادتها في تقرير مصيرها.
إن المغيّب الأكبر، وراء الصورة هو الكردي وهويته الممزقة على شكل أشلاء جيوسياسية مستعبدة. ليس هذا فحسب، إذ لا يكفي أن يستسلم هذا الكردي لواقع عبوديته هذه، إنما هو مدعو أيضاً ومكره مع نظيره على أن يتكالبا ويكيدان معاً، ضد هويتهما الذاتية، ضد وجودهما ككردين. عليهما أن يتفانيان معاً في ابتكار أشقّ القيود وأثقل سلاسل العبودية الصدئة لقدميهما، حتى يحظيا كلّ منهما برضى سيّده.
بعبارات أخصر، تفصح الصورة عن كرديين مسلوبي الإرادة، يتظلّلان بظلّ قاهرهما وتحت الرايات، التي أذلت بني جلدتهم على الدوام، يتفانيان معاً في إنكار وجودهم ومحوه مجدداً، لأجل سيّد أو سلطة أمعنت على الدوام في استعباد أهلهم وقتلهم. هكذا تخيّم شبح الهوية الكردية على المكان، تكلل هالتها رؤوسهم الوجلة وتطاردهم. وكلّ منهم يريد أن يثبت بقوة إنه ليس كردياً مفزعاً أو مثيراً للقلق، إنما الأكثر ولاءً لعقيدة دولته، واستعداداً لتحقيق مآربها المقدسة.
كلّ منهما منكفئ بخجل على هويته “الملعونة” ويستطيع أن يخمّن إن مقابله يشكو من الحرج ذاته، يعاني مثله من خطيئة الولادة الأصلية ككردي، ولهذا عليه أن يجاهد ضد تلك الخطيئة، كي يتطهر منها ويتخلّص من عبئها ما أمكن في هذا المشهد. إنها يّريدان إزاحتها إلى الوراء، إقصائها بعيداً، كي يمجّد الهوية الأيديولوجية للدولة التي يمثلانها، لكن الوزير التركي يبدو أكثر فجوراً وتطرّفاً وأشدّ غطرسة من نظيره العراقي في إخلاصه لعقيدة دولته القومية وفي إظهار عدائه للحلم القومي الكردي، وهذا ما بدا جليّاً في التصريحات، التي أطلقها.
القرينان، محكومان ومكرهان على أن تكون كرديتهما نافلة، بالنسبة لهما، في سياق هذا التدبير السياسي وتخطيط المآرب العليا وتنفيذها. وأبعد من ذلك ينبغي أن تكون (الكرودة) قرباناً، وأضحية على مذبح السياسات القوموية السامية للدولتين، اللتين يمثلانها. إن أفول الكردايتي (الكرودة) أمام حضور الوطني (التركي- العراقي) هو شرط لإثبات جدارتهم بالوظيفة والمكانة، وتمثيل مصالح كلتا الدولتين.
وهكذا تقدّم الصورة مثالاً حيّاً ومكثفاً عن جدل الانسلاخ الذاتي والالتصاق أو التطبع بالآخر، الانفصال والانتساب. إذن لا ينبغي أن تشكّل خطيئة الأصل عقبة أمام إثبات الذات وجدارتها بالانتساب للآخر، حتى لو كان مغتصباً أو قاتلاً للأب الحقيقي. هذا ما يقتضيه تجسيد السلطة الغاصبة وتمثيل سيادتها وتكريسها حتى لو كانت على أشلاء الأب المقتول (الهوية الكردية). فالوزيران الكرديان الأصل، وفيّان في عملهما، ومنكبان على تقاسم هواء الكردي المقتول ومائه وترابه، وكل ثرواته وإرثه، غير مباليين حتى بترك شاهد على قبره المندرس، للبرهان على إخلاصهما لمن مارس التسلّط والبغي بحق الضحية وإثبات جدارتهما بالانتساب إليه.
إن ادعاء النسب المزيّف أو المصطنع وتمثيله يستحق هنا التفويض. وهذا التفويض، كما اتضح، يقوم على التنكّر للهوية الجمعية الأصلية، كي تكون ممارسة السلطة أو السيادة مبررة، والسيناريو المخصص لمثل هذه المسرحية، يتشكّل عادة من ترسانة خطابات وتصريحات وبيانات الإدانة والاستنكار، بوصم الكرد بالإرهابيين والانفصاليين… الخ. ولا يستطيع أحد في هذا السياق منافسة النظير التركي، الذي أثبت فعليّاً في أدواره السابقة تفوقاً غير مسبوق في التخطيط والتدبير والتنفيذ، خطفاً وقتلاً وتهجيراً بحق الكرد في عفرين المحتلة وغيرها. والحال إننا نربأ بالوزير العراقي عن مثل هذه الأفعال والمقارنة، وإن كان مكرهاً على التورط في هذا اللقاء المشؤوم بالنسبة إليه.
وكما تمت الإشارة، تحتل مثل تلك التصريحات وبيانات السخط والإدانة مكانة حاسمة في قلب سيناريوهات الدراما السياسية التركية، وعلى جميع مسارح التمثيل الدبلوماسي في العالم، وليس في العراق فحسب، لتأكيد الدور المنوط به، بصفته الممثل للسلطة القاهرة للكرد في كل مكان، وعلى الدوام.
إن المطلوب هنا، ليس تمثيل الانتماء الحقيقي للذات، كانتماء وحيد، إنما الانتماء المفروض، كنتاج لعسف تاريخي ما أو مصادفة. المطلوب ليس التعبير عن الذات ومصالحها الحقيقية، إنما الإفصاح عن مخاوف الآخر وهواجسه ورغباته الدفينة ومكائده. والوزيران هنا لا يتخالفان هنا لأجل مصالح كرديتهما، إنما على الضد منها، كل واحد مدعو لإثبات إن سياسته هي أكثر جدوى في مواجهة الطموح الكردي المريب والمؤرق. فالسلطة التي يمثلانها مطبوعة بطابع الكراهية وتحمل كل إرث الإنكار والإقصاء، وموسومة بالخوف الدائم من الاستقلال الكردي وإن بدرجات متفاوتة.
وهكذا هما مرغمان، على تغيير هيئتهما ولغتهما، بل وحتى الفضاء الذي يحيط بهما، كي يتحولا إلى كائنين يستحقان الدور الذي أسند إليهما. إن سحرية “البرتوكول” القوموي المصطنع، الذي يطغى على مشهد اللقاء يقوم على ملاحقة الشبح الذي يلاحقهما في هذا المكان ويطاردهم في أدق التفاصيل، ومنها لغة التواصل البينية.
تشترط إمكانية التواصل بين الوزيرين انتحال لغة، هي ليست “لغة الأم” بالنسبة لكليهما، اللغة التي فطما عليها، وتلقى كلّ منهما تهويدات (لورين- باللغة الكردية) والدته وهي تهدهده في مهده بصوتها الكردي العذب. إن لغتهما الكردية، في عرف التمثيل السياسي السائد، لا تصلح أن تكون لغة السياسة أو لغة أيّ برتوكول دبلوماسي، فهي ليست لغة أصلاً في نظر أيديولوجيا دولة الوزير التركي وعقلها السياسي، التي لا تقرّ بها كلغة حضارية، وتحظرها في نطاق سلطتها، وحتى أبعد منها إن أمكن. فاللغة الكردية، التي هي من لغات الدولة العراقية رسميّاً، لغة سيادية، إلا أن الوزير الكردي- العراقي غير مصرّح له الحديث بها أمام النظير التركي، إمّا مكرهاً، أو مداهنة، أو توقيراً، أو تهيباً، أو اشتراطاً من قبل الآخر، الذي كغيره من ممثلي الدول التركية، الذين اعتادوا على رفض وتجاهل كل ما هو كردي في أدبيات الإعلام والسياسة العراقية، عند زياراتهم. حتى أنهم في تجاهل مقصود، ينمّ عن عدم احترام، لمواد الدستور العراقي، يطلقون على إقليم كردستان لفظ “إقليم شمال العراق” في كلمة مرّة يأتون على ذكره. وهكذا تبدو اللغة أيضاً في هذا السياق إحدى رهانات الهيمنة والقهر، وتستحيل اللغة الكردية إلى شبح يُراد التخلّص منه وإقصائه عن أجواء المكان الذي بات ينتمي إليه في عهد الدولة العراقية الحديثة. ولا يخفي هذا الأمر إن طبيعة العلاقة المقامة بين الدولتين، وبالتالي بين الوزيرين، تصدر عن شعور الطرف التركي بالتفوق وفرض الوصاية على الطرف العراقي، وإلزامه بالتنكر حتى لمواد دستوره إن اقتضت المصلحة التركية وأمنها القومي المزعوم.
وهكذا يكرّس التقيّد الدقيق برمزيات السلطة الإنكارية حضوره في المشهد وعبر المراسيم البروتوكولية، التي لا تكفّ عن التأكيد بأن لا حياة، لا دور، لا مكانة للكرد هنا، إلا كعبيد تبّع ومقهورين. وهذا كله يشكّل إخراجاً مسرحياً لخطاب قوموي عنصري يريد أن يظلّ سائداً وأبدياً في إنكاره للوجود الكردي، ولا يقبل حضور الأخير شريكاً مكافئاً وندّاً مساوياً له على مسرح التاريخ.
د. سربست نبي
أستاذ الفلسفة السياسية – جامعة كويه
المصدر: إيلاف