الأحد, ديسمبر 29, 2024

د. محمود عباس: الناقد الكبير الأستاذ إبراهيم محمود

الناقد الكبير الأستاذ إبراهيم محمود أشدّ مثقفي الكرد إحساسا بآلام وطنه وشعبه. يرى بوضوح معاناة الأمة وتشتتها من زوايا ليس بمقدور غيره رؤيتها، فينبري متأوه ومئننّا تحت هذا الثقل المستديم، ينقب في ثنايا تاريخنا، لا يجد سوى الجروح والآلام، وعلى إثره يزداد توجعا. هذا الناقد الذي تشهد له لغة الضاد بباعه الطويل في مجال النقد الأدبي، يحول مجرى فضائه نحو هموم وطنه المجزأ، محاولا إظهار السلبيات الغالبة على الإيجابيات في الحراك الكردي، كي ينبهنا على تفاديها. اللافت أنه “لا حياة لمن تنادي”، فتنصب فورة آلامه في إبراز المزيد من النواقص في مستنقعنا الطاغي، عسى أن نهتدي إلى الحل السليم.
ليس من السهل أن يبحث أحد مثلي في النتاج الوطني لهذه الشخصية العلمية، بل، الأصح، لست جديرا أن أتناول ما يرمز إليه ناقدنا الكبير بخصوص ما يجب علينا عمله، ولكن تشاء سلبياتنا أن أكون من يحاول لفت الانتباه إليه، ليقوم الجدير منا بتسهيل ما يبتغي إليه الناقد الفذ في إيصاله إلينا جميعا، وعلى وجه الخصوص إلى الحراك الثقافي والسياسي على حد سواء.
سأكون مقتضبا في تناول ما يعرض علينا في نتاجه التنبيهي، ولا أدعي الصواب فيما أبحث فيه، كون الناقد ذو أبعاد فلسفية وأدبية، ونقدية، تفوق مقدرتي من الإحاطة بها، والذي أريد الخوض فيه هو قدر استيعابي مما تابعته في كتاباته ضمن المجال الوطني الكردي. وهذا ما يؤسف له، أن يكون تناول نتاج هذا الناقد الوطني من قبل شخص لا تؤهله جدارته إليه، ولكن الواقع الكردي يفسح المجال لأمثالي، وليس لأعلى مني درجة ومعرفة بهؤلاء.
لتكن البداية من شمال كردستان، هذا الجزء الذي قاد العديد من الانتفاضات وقاوم الترك قديما وحديثا، تلقى ضربة كادت تكون قاضية، حين ثار الكرد، بقيادة الشيخ سعيد بيران، في وجه الكمالية. راحت ضحيتها ما يزيد عن مليونين من البشر بين قتيل ومهجر وفار ومفقود. بعد الإبادة الكمالية تم عزل الكرد عن البشرية المتحضرة إلى بدايات الستينيات من القرن المنصرم، عندما استطاع يوسف أوغلو ورفاقه بانتزاع قرار من البرلمان الكمالي على جعل التعليم الابتدائي إجباريا في الولايات الكردية، كما استطاع نفس الشخص ورفاقه بقيام الحكومة على فتح مراكز طبية في البلدات الكبيرة، وغيرها من هذه الأولويات التي كان الكرد محروما منها. كما يعود إليهم الفضل في إقامة أول مؤتمر كردي يدعو فيه الكرد إلى الانتباه إلى هويتهم عام 1968م في آمد.
ومنذ ذلك الحين بدأ الشعور القومي الكردي يتبلور، ولكن بأمل مرتبط بثورة جنوب كردستان. وهذا بحد ذاته أحد العوامل التي ثبطت من نمو الوعي الكردي السليم. وقبل هذه الفترة سأورد مثالا بسيطا دون ذكر الأسماء عن الوعي الكردي في ذلك الجزء المهم من كردستان المجزأة: تقدم في النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي ثلاثة عشر محاميا كرديا بطلب إلى سلطات تركيا الكمالية طالبين فيه ترجمة كلمات الفولكلور الكردي إلى التركية لتبث إذاعيا، فحكمت عليهم المحكمة بالإعدام، إلا أن رئيس الجمهورية جلال بيار لم يوقع الحكم، فنجوا من حبل المشنقة. إذا عاينا هذا النموذج من الوعي الكردي آنذاك لوجدنا أن هؤلاء المحامين تقدموا رسميا بطلب إلى الكماليين لينهبوا فولكلورنا كما هو الحال الآن. بدلاً من أن يطلع هؤلاء على سيرة النضال التحرري لدى شعوب الأرض ويطبق ما يتوافق مع واقعهم، لكانت الكمالية مقبورة منذ عقود. وعي بهذا المستوى وعلى سوية النخبة المتعلمة بدرجة عالية، فما بالنا بمن حرم من نعمة التعليم والتعليم العالي. لهذا عندما نعاين الحراك الكردي في شمال كردستان نلاحظ عناصر الماضي القديم يشغل زواياه وثناياه. فحري بنا أن نراعي هذا القديم ونعمل على حث القيمين اتخاذ المسار الصحيح في مجرى القضية الكردية هناك.
والآن لنلقي نظرة على جنوب كردستان الذي قاوم الترك ومن ثم البريطانيين، دون أن تخمد الطلقات من فوهات بنادقهم أو أن تهدأ قمم جبالهم. هذا الجزء بفضل مقاومته الدؤوبة وجلده الجبار انقطع عن البشرية المتحضرة زهاء قرن من الزمن معتكفا في كهوفه على قتال المعتدين رغم توالي أجناسهم على محاربته. ولم يظفر بالاحتكاك الفعلي مع الحضارة الحالية إلا بعد إسداء جورج بوش الابن فدرالية كردية متميزة. والحالة هذه، ليس من العدل مطالبة هؤلاء بما تقتضيه معاير العصر، فالانقطاع بسبب المقاومة والعيش في الكهوف لا يمكن مساواتها مع هذا الزمن، وإن عايشوه لعقد أو عقدين، فدول الخليج رغم حصولها على مقاليد أمورها منذ الستينيات من القرن الماضي لا زالت تعيش في الماضي البعيد رغم التشامخ في البنيان وارتياد نوادي أوربا وفنادقها. فالمجتمع البشري، ليس سيارة يدار مقودها حسب الحاجة، فهو بحاجة إلى أجيال وأجيال إلى أن يتأقلم مع المستجد عليه. فالدماء التي أريقت بالاقتتال أكثر مما أريقت في سبيل الحرية، ليس من المنطق أن تلتئم تلك الجراح بهذه السرعة، ونحن شهداء على آثارها البارزة الفاقعة للعين. لولا حلبجة، ربما، كان الإقليم مستمرا، حتى اللحظة، في المطالبة بالحكم الذاتي الحقيقي. ويكفينا مثالا على التخلف عن مواكبة العصر، عندما احتل صدام حسين الكويت، وتهيأت الظروف أن يكون الكرد العنصر المرجح في الاعتماد عليه من قبل الغرب المنتصر آنذاك على الشيوعية، أن تعلن الجبهة الكردستانية حينها: أنهم عراقيون قبل أن يكونوا كردا، ولن يقبلوا الهيمنة الإمبريالية في المنطقة. بينما كانت الشيوعية السوفيتية أسلمت روحها إلى الرفيق الأعلى. نفس أولئك الأشخاص يتربعون على سدة الحكم في الإقليم. فهل لنا أن نحاسبهم كما يتطلب وقتنا الراهن، أم علينا اعتبار الفارق الزمني في الكهوف وعلى قمم الجبال وبين تراكم الثلوج ووعورة الطرق مبررا طبيعيا لهم، والعكس إن حاسبناهم لكان العتب علينا وليس عليهم.
أما جنوب غربي كردستان، شاءت سخرية القدر، ألا يشذ عن إخوانه في الأجزاء الثلاثة المذكورة، ففكر الرواد الأوائل في هذا الجزء في تجديد ثورة بيران بدعم فرنسي، دون أن يعتبروا من إقامة فرنسا كيانات للنسيج السوري كالعلويين والدروز، علاوة على دولتي حلب والشام السنيتين. فوقعوا فريسة جاهزة للانتداب الفرنسي كي يرسم الحدود بينه وبين الكمالية كيفما يشاء، وحصل ما أراد الانتداب، ولكن الكرد لم يدركوا اللعبة إلا بعد مضي عقود من الزمن، أي بعد تفويت كل الفرص الممكنة لإجبار الانتداب على الرضوخ. لم ينتبه الكردي إلى مثالب الحكومات السورية في حقه إلا قبيل تدشين الوحدة بين سوريا ومصر زهاء عام أو يقل. توضح لديه مقاصد ونوايا إخوانه العرب المتعوربين، وحاول بكل ما أوتي من قوة الظفر بما تقتضيه حقوقه، ولكن تأهيله لهذه المهمة لم يكن كافيا ليسعفه، فانحاز نحو اليسارية واجدا فيها خلاصه، كما مال نحو الغرب لتعينه ديمقراطيته في تحقيق مطالبه، لم يسعفه هذا ولم ينجده ذاك، فبقي فريسة تتلاعب بها كل من له حاجة في تحريكه لتيسير مصلحة من مصالحه.

نحن مجتمع ذلك الواقع ذكورا وإناثا، عاش بمنطقه أجدادنا وآباؤنا، ونحن ولدنا في جوه هذا، وتربينا على نهجه ذاك، معزولين عن البشرية المتقدمة إلا ما دعته الضرورة المعيشية. لم يكن المتعلم فينا، وما أقله عددا، مستوعبا العالم الخارجي عن محيطه بشكله الحقيقي، حينما حملته الظروف تنكب مسؤولية التحرر، فتلكأ وسلك طريقا كان عوامل الانتصار فيها أقل بكثير مما تجب أن تكون. فمحاسبته على عدم معرفته بالسبيل القويم لا يدخل كثيرا في دائرة الاتهام المطلق؛ إنما يؤخذ عليه أنه دعا الكرد إلى نفير عام من دون تهيئة أو معرفة نابعة من العصر المحيط دوليا، فكان أن فرز هذا التنكب شريحة نضالية غير مؤهلة للتحرير، وهذا طبيعي في ظرف مثل ظرف الكرد الذي رانت عليه العزلة الحضارية مئات الأعوام، رغم تخرج بعض رجالاته من جامعات أوربا المتحضرة. حيث تكشف سيرة هؤلاء المتأهلين علميا في أوربا أنهم لم يتأثروا بالجو الأوربي بقدر تأثرهم بالجو المحلي. ولا زالت المدرسة القديمة تخرّج بشكل رتيب هذه الشريحة غير المؤهلة لقيادة المسيرة النضالية. رغم إهدائنا كيانا أرقى مما كنا نصبوا إليه في مسيرتنا النضالية، لا زلنا نتصرف بالعقلية القديمة، فيصب جلّ جهدنا في خدمة الأجندات غير كردية، ونحن نهنئ ذاتنا ونريح ضميرنا أننا نخدم قضيتنا بجدارة وبأمانة لا مثيل لهما.
والحالة هذه لا تدركها الشريحة الواسعة من الطليعة المثقفة والمتنورة، ناهيكم عن النخبة السياسية الملمة والقائدة. والذي أحاط بما نحن عليه حقا وحقيقة، يمكن عدهم على رؤوس الأصابع. وهذا العدد القليل يقع في حكم العدم، وثلة من الورود لا تصنع ربيعا، إلا إذا أكثرت تلك الثلة من أمثالها حتى تغدو سائدة نوعا ما، وإلا فلا أمل أن يتحقق التحرير دون أن يكون هبة كما وهبنا إياه جورج بوش الابن عام 2003م.
وناقدنا الكبير الأستاذ إبراهيم من تلك القلة القليلة المحيطة بوضعنا، وإحاطته بالوضع أجلّ وأعمق من أي شخص آخر منا تبدّت له حالتنا. ومنذ أمد بعيد يحاول بكل عزم إثارتنا كي نكون مؤهلا لقيادة المسيرة إلى النصر المحقق، ولكنه ينصدم بجدار الماضي الذي حوطنا به أنفسنا، وما دأبه وإصراره علينا بهذه المثابرة سوى دليل قاطع عن نبوعهما من يقينه أن الكرد يحمل في ثناياه المقدرة الكاملة لاختصار المراحل بشكله الصحيح والمفيد. بالرغم من إدراكنا لما يريده منا ناقدنا الفذ، إلا أننا لا نستطيع الاهتداء إلى تحرير تلك المقدرة في ذاتنا، فنحن المرضعين من الأنماط البالية يصعب علينا معرفة مفاتيح ذاتنا لفك العنان لهذه الطاقات الكامنة وراء الأبواب المغلقة، وعليه نجابهه بالنكران والمعاندة، بل نعلن عليه الحرب الشعواء؛ بينما يريد هو إهداءنا والارتقاء بنا نحو المطلوب الأمثل، فكم رُد نقده البناء لمؤلفات بعض مثقفينا بالهجوم عليه، بدلا من أن يصلحوا ويقوموا اعوجاجهم تلك. وهذا ما يعرف فيزيائيا بسرعة العطالة الكامنة فينا، وهي ممانعة الجسم من تغير وضعه. فسرعة عطالتنا عنيفة في تغيير وضعها. ولكن المطلوب من أمثال ناقدنا الكبير أن يجرب أسلوبا آخر معنا غير هذا، ونحن متيقنون أن ما يريده بهذا النمط منا هو حرصه الشديد علينا والنابع من آلامه القاتلة بسببنا، فيحاول كمرشد أن يؤثر فينا بالنقد الدقيق على أن نتخلص من أسمالنا البالية، لنجالس العالم بالزي المناسب واللائق. في حين ينطبق علينا قول الشاعر:
“لقد أسمعت لو ناديت حيـا*****ولكن لا حياة لمـن تنـادي
ولو نارٌ نفخت بها أضاءت*****ولكن أنت تنفخ في رمـادِ”

وناقدنا الكبير رجل علم وصاحب معرفة، لا بد أنه وضع جدولا زمنيا في التعامل معنا بهذه الوتيرة راهنا، سينتقل غدا إلى غيرها عندما يتيقن أن هذا الأسلوب لم يجدِ نفعا فينا، وهذا ديدن العلماء، في تجريب الأنماط واحدا تلو الآخر، إن لم يفلحوا به انتقلوا إلى آخر إلى أن يحققوا المرجو في نهاية المطاف.
أود هنا أن أشير إلى شيء، لا أظنه غائب عن بال ناقدنا الكبير، ولكن التذكير به قد يكون في وقته، هو أن ينتقل بنا إلى ما هو موافق لمنطقنا البسيط قد نهتدي إلى ما هو خير لنا. لو أنه تركنا، نحن الذين كونّا ذاتنا معتمدين على مفاهيم الوسط القديم المعوج بكل ما في الكلمة من معنى، وشأننا. بعد هذا التكوين الذي هللت له جماهيرنا في وقته؛ حيث كان متناغما مع مداركها والذي دام ما يقارب ثلاثة عقود وأكثر. وهذا الجيل بالكاد استطاع أن يكتب ويناقش الأوضاع والأفكار والأشخاص، ليته سلك الطريق القويم، فهو محمل بأخطاء الماضي، ولن تسعفه الجرعات المقوية؛ لأن الأساس والمعدن غير قابل لذلك. فالجيل الناشئ، جيل الإنترنت والهواتف الذكية يكثر من الاطلاع، فهو أولا جيل شاب لديه المرونة المطلوبة في استيعاب ما يعرض عليه بشكل صحيح، ثانيا أكثر اطلاعا، يبصر الأخطاء والتخبطات الحاصلة، يبحث عمن يرشده لتكوين نفسه بشكل سليم. فهو أمل المستقبل، أما جيلنا قد استهلك وقته وفكره، ولا يرجى منه الخير المطلوب سوى أن يزيد من التلاسن والتهجم على أخيه الكردي مستعرا نار التآكل الداخلي ليصب في مصلحة المعتدي، وهو يحسب أنه يؤدي واجبا قوميا. فإزالة نتائج الأسباب المخفية عليه لن تفيده، ستعود الأسباب من جديد حيث كانت، قد تكون بشكل أشد وأقوى من ذي قبل. وبتقديره (جيلنا) إن زالت هذه الأحزاب وبعض الشريحة المثقفة من الوجود سيتحقق التحرير، فالقضاء على النتائج يثبط العملية مؤقتا، وليس كليا. فبؤرة الجراثيم المتواجدة في موضع معين من جسم الإنسان وتؤدي نتائجها إلى تقرح موضع آخر، فمهما حاول الطبيب القضاء على تلك النتائج سترسل البؤرة المزيد من الميكروبات إلى ذلك الموضع، بل يمكن أن ترسل إلى أماكن أخرى، لذا فالطبيب أولا يبحث عن الممرض، ليقضي عليه، وبقضائه على الممرض في بؤرته تنتهي أعراض النتائج وتختفي. والجيل الصاعد هو مؤهلا أن يسير في الطريق الصحيح، ويهيأ للمرجو والمطلوب. ما عدا هذا قد يكون حلا ترقيعيا، إن لم يكن هذا الحل لصالح المعتدين، كما هو الوضع راهنا.

د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
12/2/2107م

شارك هذه المقالة على المنصات التالية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *