الجمعة, ديسمبر 27, 2024

مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي (الحلقة الرابعة) المؤرخ القاضي: ابن خَلِّكان. كيف اكتشفت ابن خلِّكان؟

د. أحمد الخليل

لا أستبعد أن يكون اسم (ابن خَلِّكان) قد طرق سمعي منذ أيام الدراسة في الجامعة، حينما كنت أسعى للحصول على درجة الإجازة (البكالوريوس) في اللغة العربية وآدابها، ولا أذكر أن الأمر استوقفني حينذاك، كما لا أذكر أني- رغم حبي لمعرفة سير المشاهير- اهتممت بقراءة سيرة هذا الرجل. وقد جاء في الحكم القديمة: ” من جهل شيئاً عاداه”، وأقول من جانبي: “من جهل شيئاً أهمله”؛ هذا على أقل تقدير.

وحصلت بدايات معرفتي الواعية بابن خلّكان في أيام الدراسات العليا، وتحديداً في مرحلة الماجستير، فقد علمت أن كتابه (وَفَيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان) هو من المصادر التاريخية الهامة في مجال التراجم، ثم ازدادت صلتي بابن خلّكان وكتابه في مرحلة الدكتوراه. وحينما قويت اهتماماتي بالتاريخ، إلى جانب الأدب والنقد، في بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي، وجدتُني أشتري الكتاب بمجلداته الضخمة العديدة، وأنكبّ عليه في أوقات الفراغ ليلاً ونهاراً، وأقرأه من ألفه إلى يائه، وخرجت من تلك القراءة – والحق يقال- بمعلومات خصبة ومفيدة وعميقة.

وفي الوهلة الأولى أثارت الرنّة الكردية في اسم (خلّكان) انتباهي، وكانت تلك الرنّة تذكّرني بالاسم الكردي (خَلِّك) تصغير (خليل)، وكنت أعرف أن اللاحقة (ان) تدل في الكردية على صيغة الجمع، ولا سيما عند الحديث عن القبائل الكردية. ومع ذلك استبعدت أن يكون الرجل كردياً، وقلت: لعلّه فارسي، أو من أية ملّة أخرى؛ ففي الرقعة الجغرافية الهائلة، والتي تمتد من البحر المتوسط غرباً إلى جبال هندوكوش شرقاً، حكمت إمبراطوريات عديدة طوال سبعة آلاف عام، وتمازجت الشعوب، فتماثلت بعض الأسماء والألقاب.

لكن عندما وصلت في قراءتي للكتاب إلى ترجمة العالم النحوي (سيبويه) بدأ الشك، وتطوّر الشك فأصبح ظناً، فقد وقف ابن خلّكان عند اسم سيبويه، وذكر أن من الخطأ أن نقول (سِيبَوَيْه) كما هو مشهور، وأن الصواب هو (سَيْبُويَه)؛ وتعني هذه الكلمة (رائحة التفاح)، فتذكّرت حينذاك كلمة Sêvالكردية، والتي تعني (تفاح)، والنسبة إليها Sêvo، وقلت لنفسي: الأرجح أن من يعلم الفروق في صوتيات هذا الاسم أن يكون كردياً، أو تكون له خبرة ومعرفة باللغة الكردية. ومع ذلك بقي الأمر في دائرة الظن، فقد اعتدت ألا أجزم بشيء في القضايا التاريخية ما لم أجد دليلاً واضحاً وبرهاناً ساطعاً.

لكن ما إن وصلت، في قراءتي لكتاب الوفيات، إلى الجزء الأخير حتى رحل الشك، وحل اليقين محله؛ إذ أنهى المحقق الدكتور عباس حسن الكتاب بسيرة مطوّلة لابن خلّكان، وذكر بالأدلة الموثّقة نسبه الكردي.

فمن هو ابن خلّكان؟

وماذا عن سيرته الشخصية؟

وماذا عن جهوده العلمية وعن مكانته في عصره؟!

نسب ابن خلّكان.

هو أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلّكان بن باوَك بن عبد الله بن ساكل بن الحسين بن مالك بن جعفر بن يحيى بن خالد بن بَرْمَك، ينتسب إلى أسرة البرامكة المشهورة، وهذه قضية لا إشكال فيها، ويقال إنه سأل مرة بعض أصحابه عما يقوله فيه أهل دمشق، فأخبره أنهم يتهمونه بالكذب في نسبه إلى البرامكة، فكان جوابه على ذلك قوله:

” أما النسب والكذب فيـه فإذا كان ولا بد منـه فكنت أنتسب إلى العباس، أو إلى علي بن أبي طالب، أو أحد الصحـابة، وأما النسب إلى قوم لم يبق لهم بقـيّة وأصلهم فرس مجوس فما فيه فائدة “.

وقد ترجم شرف الدين ابن المستوفي صاحب (تاريخ إربل) لابن عم ابن خلّكان، فنسبه إلى البرامكة أيضاً، وهذا يعني أن هذا النسب كان معروفاً لهم في إربل وقراها. وصرّح ابن خلّكان لابنه موسى أن قبيلته التي ينتسب إليها هي من الكرد، واسمها (زرْزاري= ولد الذئب).

وفي معرض بحثي عن تاريخ الكرد تبيّن لي أن الباحث ويليام إيغلِتون Wiliam Eagleton ذكر قبيلة كردية باسم (زَرْزا) في موضعين من كتابه (مدخل إلى السجاد الكردي ومنسوجات أخرى) An introduction To Kurdish Rugs And Other Weavings ، وقد صدر هذا الكتاب بالإنكليزية في إنكلترا سنة (1988م)، وذلك حينما كان يستعرض أسماء القبائل الكردية التي تقيم في غربي أذربيجان الإيرانية، ولا يخفى على كل من له اطّلاع على المجتمع الكردي أن فروع القبيلة الواحدة كانت تتوزّع في مناطق متعددة من كردستان، كما هو شأن بعض القبائل العربية مثل (قيس وطيّئ، وشمّر)، فلكل قبيلة من هذه وجود في بلدان شبه الجزيرة العربية، وفي العراق، وأقطار بلاد الشام.

وهكذا لم يترك ابن خلّكان مجالاً للشك في نسبه إلى الفرع البرمكي من جانب، وإلى القبيلة الكردية (زرزاري) من جانب آخر، ومعروف أن باحثاً جاداً مثل ابن خلّكان، يجمع بين موضوعية القاضي وموسوعية المؤرخ، لا يمكن أن يذكر معلومة تتعلّق بنسبه، ما لم يكن واثقاً ثقة مطلقة بصحة تلك المعلومة، أما ما ذكره عن أن البرامكة (فرس مجوس) فقد أورد ما هو شائع بين عامة الناس، فالناس قد اعتادوا أن يسمعوا أن البرامكة هم من الفرس، وأن الفرس كانوا مجوساً قبل الإسلام.

على أننا تناولنا إشكالية التداخل بين (الكرد) و(الفرس) و(العجم) في الحلقة الثانية من هذه السلسلة، والخاصة بـ(أسرة البرامكة)، وأوضحنا هناك أن تبعية الكرد للدولة الساسانية (الفارسية) قبل الإسلام هي التي جعلت المؤرخين المسلمين يعدّون الكرد من الفرس تارة، ومن العجم تارة أخرى، وهذه التسمية هي في الحقيقة تسمية ثقافية سياسية، وليست تسمية إثنولوجية (قومية).

ولا غرابة في نسبة الكرد إلى الفرس، فهذا أمر معهود في التاريخ القديم والحديث، ففي القرن السادس قبل الميلاد، وفي أوج الإمبراطورية الأخمينية (الفارسية)، كان يُطلق لقب (الملك الميدي) ولقب (ملك الميديين) على ملوك فارس، ومنهم كورش الثاني،وابنه قمبيز الثاني، وخليفته دارا الأول، بل كانوا يطلقون أحياناً اسم (الميديين) على الفرس أنفسهم، رغم أن الميديين (فرع من أجداد الكرد) وهم غير الفرس، لكن بما أن الدولة قبل الأخمين كانت ميدية، وأن الفرس كانوا تابعين للدولة الميدية، فقد عُرفوا عالمياً باسم الميديين، وللتأكد من ذلك يكفي أن نقرأ كتاب (تاريخ هيرودوت) للمؤرخ اليوناني الشهير هيرودوت. وما دام الأمر كذلك فهل من العجب في شيء أن يُعدّ (الكرد) عالمياً باسم (الفرس) وقد ظلوا تابعين للفرس حوالي (1200) ألف ومئتي سنة؟!

نشأة ابن خلّكان العلمية.

ينتمي ابن خلكان إلى أسرة مشهورة بالفقه خاصة وبالعلم عامة، وكان والده شهاب الدين محمد قد رحل في طلب الحديث إلى الشام ومصر والحجاز والعراق، وتفقّه بالموصل وبغداد، وكان من أصدقائه المؤرخ عز الدين المشهور بكنية (ابن الأثير) صاحب كتاب (الكامل في التاريخ)، والقاضي المؤرخ ابن شدّاد صاحب كتاب (النوادر السلطانية). وبعد الإقامة الطويلة في الموصل انتقل إلى إربل (أربيل)، وأحرز مكانة مرموقة عند حاكمها آنذاك مظفّر الدين كُوكْبُوري، زوج أخت صلاح الدين الأيوبي، وصار مدرّساً في المدرسة المظفّرية، ومشاراً إليه في ميدان الفتوى.

وكان أحمد أصغر إخوته، وقد ولد بإربل سنة (608 هـ)، ولم يكن قد أكمل الثانية من عمره حينما فقد أباه، لكن الوالد كان حريصاً على أن يتّجه ابنه في طريق العلم، لذلك حصل له على الإجازات (الشهادات العلمية) من العلماء المشهورين في عصره، كما أن صديقه كُوكبوري تولّى رعاية أبناء صديقه بعد وفاته، وهكذا انصرف أحمد إلى طلب العلم في إربل بالمدرسة المظفّرية، وواظب حضور مجلس أبي البركات شرف الدين ابن المستوفي الإربلي، وسمع سنة (621 هـ) صحيح البخاري على أبي جعفر محمد بن هبة الله المكرم الصوفي البغدادي، ولم يكتف بذلك، وإنما كان يتحيّن الفرص، فيلتقي بالأدباء والعلماء الذين كانوا يفدون على إربل بين حين وآخر.

وكان أحمد قد تجـاوز الثامنة عشرة بقليل حينما عقـد النية على أن يغـادر إربل طلباً للعلم، وما كان يعرف وهو يرتحل عنها أنه لن يعود إليها ثانية، فاصطحب أحـد أخويه، إلى جانب بعض كتب التوصية من صديق الأسرة مظفّر الدين كوكبـوري حاكم إربل، وكانت الموصل أول مديـنة يرحل إليها، وفيها أخذ عن صديق والده كمال الدين موسى بن يونس، ذاك العالم الذي جـمع بين الثقـافة الموسوعية والذكاء الخـارق، وكان لقاؤه به سنة (626 هـ)، ومن شدة إعجاب أحمد بأستاذه ابن يونس أضمر في نفسه أنه إذا تزوّج، ورُزق ولداً، فسيدعوه (يونس)؛ تيمّناً باسم ذلك الأستاذ الجليل، وهذا ما فعله حقّاً.

ومن الموصل تابع أحمد رحلته العلمية إلى حلب، ماراً في طريقه بحرّان، وكانت فترة وجوده في حلب أخصب فترات حياته، ففيها تلقّى العلم على الشيوخ المشهورين، من أمثال القاضي بهاء الدين بن شدّاد، الذي كان صديق السلطان صلاح الدين، ومستشار ولده الملك الظاهر، وكان ابن شدّاد، كما مر، صديقاً لوالده، وكان يحمل إليه كتاب توصية من كُوكبوري، فاستقبل ابن شدّاد الأخوين بالترحاب، وأنزلهما في مدرسته، وقرّر لكل منهما مرتّباً عالياً يساوي مرتّب الطلبة الكبار رغم حداثة سنّيهما.

وفي حلب درس أحمد الفقه واللغة والنحو على كبار الشيوخ؛ من أمثال جمال الدين أبي بكر الماهاني، وابن الخبّاز الموصلي، وموفّق الدين ابن يَعِيش، كما التقى المؤرخ عز الدين بن الأثير الصديق الحميم لوالده.

وفي سنة (632 هـ) توجّه أحمد إلى دمشق، فدرس التفسير والحديث والفقه على الشيخ ابن الصـلاح الكردي الشَّهْرَزُوري (ت 643 هـ) أحد فضلاء عصره وعلمائه المرموقين، وعاد بعدئذ إلى حلب ثانية، ويبدو أنه يئس من العودة إلى مدينته إربل، إذ كان التتار قد اجتاحوها وخرّبوها سنة (634 هـ)، وأنه كان يرى نفسه ما يزال في دور طلب العلم، فتوجّه إلى مصر، ووصل إلى الإسكندرية سنة (636 هـ)، ثم إلى القاهرة سنة (637 هـ)، واتصل هناك بالشاعر بهاء الدين زهير، وقويت الصداقة بينهما، إلى درجة أن البهاء أجاز له رواية ديوانه.

في منصب القضاء.

كان قاضي القضاة في مصر آنذاك بدر الدين السِّنْجاري، وهو كردي من قبيلة (زرزاري) مثل ابن خلّكان، فولاّه نيابة القضاة بمصر، ثم تتالت الأعوام، ووصل المماليك إلى الحكم، وحلّوا محل الأيوبيين، وجاء الانتصار على المغول في معركة عين جالوت، ثم قُتل السلطان المملوكي قُطْز قائد تلك المعركة على يد صديقه بيبرس، وتسلّم هذا الأخير السلطة حاملاً لقب الملك الظاهر، فعيّن ابن خلّكان قاضياً في ديار الشام سنة (659هـ)، وفوّض إليه الحكم في جميع البلاد الشامية من العريش إلى سَلَمْيَة.

وبدأ ابن خلكان ممارسة وظائفه الكثيرة، من تعيين نوّاب له في البلاد، وضبط لما تحت يده من أوقاف، وتنصيب معيدين في المدارس، ومراجعة للأحكام وفصل في القضايا، وظل في منصبه ذاك إلى عام (669 هـ)؛ إذ عُزل عنه عندما دخل الظاهر بيبرس دمشق، ليس عن تهمة وُجّهت إليه، وإنما لأن الوزير بهـاء الدين بن حنّا سعى في أن يولّي عز الدين بن الصائغ القضاء، ولأن بهاء الدين هذا لم يكن يرتاح لابن خلّكان، وإلى علاقته بأمير كردي آخر من قبيلة (زرزاري) نفسها هو الأمير أحمد بن حجّي، وكان ذلك الأمير مرموق المكانة عند الملك الظاهر، وكان يعدّ منافساً للوزير.

وفي مصر وجد ابن خلّكان منصباً تدريسياً في المدرسة الفخرية، وعانى بعدئذ من فقر شديد بسبب مضايقات الوزير له. على أن الأمور اختلفت بدءاً من سنة (676 هـ)؛ إذ تمّ تعيينه في منصب القضاء بدمشق ثانية، ولم تستطع السنوات السبع أن تنسي أهلها قاضيهم المحبوب، فاحتفلوا بمقدمه، وتزاحموا على استقباله، وما إن دخل ابن خلّكان دمشق حتى توجّه إلى المدرسة العادلية، فجلس فيها، وتوافد عليه الشعراء يهنئونه، وتبارى القرّاء في القراءة؛ وكان هذا كله في عهد الملك السعيد ابن الملك الظاهر.

وقضى ابن خلكان في منصبه الجديد ثلاث سنوات، ثم حدثت الاضطرابات في مصر والشام بين أبناء الملك الظاهر بيبرس، وكانت النتيجة أن السلطة آلت إلى أحد المماليك الجراكسة هو الملك المنصور قَلاوون، ويبدو أن ابن خلكان لم يكن من أنصار قلاوون، فاعتقل بعض الوقت، ثم جاء العفو عنه من الملك نفسه، وأعيد إلى منصبه وأضيف منصب قضاء حلب إلى أعماله.

غير أن الملك المنصور كان يرغب بعفوه العام هذا تهدئة الخواطر، ريثما يرسّخ قواعد سلطته، وما إن تمكن من ذلك حتى عـاد بعد شهر ونصف إلى عزل ابن خلّكان مرة أخرى، وكان ذلك سنة (680 هـ)، فمارس ابن خلّكان التدريس في المدرسـة النجيبية والمدرسـة الأمينية، وأمضي بقـية عمره في الدرس ومذاكرة العلماء والأدباء، إلى أن توفي يوم السبت (26 رجب سنة 681 هـ)، ودفن بسفح جبل قاسيون.

شخصيته وثقافته.

شهد المعاصرون لابن خلّكان بالبراعة في الفقه، والأصول، والعربية، وبالمعرفة بالمذهب الشافعي، وبحسن ما صدر عنه من الفتاوى، وكان الرجل دائم الاطّلاع، محباً للكتب، ينفق الأموال على اقتنائها، وكان يطمح في أوائل عهده إلى أن يكون شاعراً، ونظم كثيراً من الشعر، وربما انتسب إلى الشعراء من أصدقائه أمثال البهاء زهير، وابن مطروح، وابن الخيمي، والجزّار، وبعد العمل في القضاء لم تضعف صلته بالشعر والاهتمام به، وإنما كان ينمّي ذوقه الأدبي باستمرار، وقد قيل فيه بأنه كان أعرف الناس بديوان المتنبي في وقته. وجملة القول أن الموجّه الأول في ثقافته هو نزعته الأدبية التاريخية، ومن مكمّلات تلك الصورة الثقافية اهتماماته بالفقه والنحو واللغة.

وقد وصفت المصادر ابن خلّكان بأنه كان حسن الصورة، فصيح المنطق، جواداً كريماً، لا يدّخر شيئاً، مدحه كثيرون من الشعراء، فـقدّم لهم الجوائز السنية على مديحهم، ووُصف أيضاً بالنـزاهة، وكمال العقل، ورباطة الجأش، إلى جانب سمات أخرى تليق بالقضاة مثل الجدّ والوقار.

ونتيجة لصفات ابن خلّكان الرفيعة كانت مجالسه مجالس بحث ومدارسة وتحقيق، يخرج منها المرء بكثير من الفوائد العلمية والأدبية، على أنه كان يميل أحياناً إلى الدعابة المهذّبة، وكان شديد المسارعة إلى مدّ يد العون للآخرين، شريطة ألا يكون في ذلك مساس بروح العدالة. وذكرت المصادر عفّـة يده عن قبول المساعدات المادية حينما كان في أشد حـالات الضيق، وعُرف أيضاً بالرفق ولين الجانب، وهـذا ما جعله محبّباً إلى قلوب من عرفوه.

ابن خلّكان المؤرخ.

لابن خلّكان كتابات كثيرة شعراً ونثراً، غير أنه لم يترك إلا مؤلّفاً واحداً ولم يعرف إلا به؛ نقصد كتابه الشهير (وَفَيات الأعيـان وأنباء أبناء الزمـان)، وقد انتهى من تأليفه سنة (672 هـ) بالقاهرة، ولعله ظل يضيـف إليه حتى سنة (680 هـ)، وكانت النواة الأولى لكتابه موجودة في مسوّادته، مما نقله من المصادر التي اطلع عليها سنة (654 هـ)، فقد كان يخطط لكتابة تاريخ عام، على مثال كتاب شيخه ابن الأثير (الكامل في التاريخ)، لكن منصب القضاء لم يتح له المجال لتنفيذ ذاك المشروع، فاقتصر على تأليف كتاب في التراجم، ورسم لنفسه خطة من تسعة بنود هي:

1 – الترجمة لمن عرف تاريخ وفاته.

2 – عدم ذكر الصحابة والتابعين، إلا جماعة يسيرة، لشهرتهم، ووجود العديد من المؤلفات فيهم.

3 – عدم ذكر الخلفاء لشهرتهم.

4 – ذكر جماعة ممن شاهدهم ونقل عنهم، أو عاصرهم ولم يلقهم.

5 – يتناول كتابه كل ذي شهرة بين الناس.

6 – يحاول إثبات المولد إن وجده، ويذكر النسب إذا قدر.

7 – يضبط بعض الألفاظ مما يمكن أن يقع فيه التصحيف.

8 – يسجل محاسن الناس من مكرمة أو نادرة أو شعر أو فكاهة دفعاً للملل.

9 – يتوخّى الإيجاز.

وأراد ابن خلّكان أن يكون دقيقاً فيما رسم لنفسه من خطة، ولكن عوامل عديدة تدخّلت لتفسد عليه ما كان يريده، ومنها تراخي الزمان بين كتابة القسم الأول وكتابة القسم الثاني، وندرة المصادر.

ويتميّز كتاب ابن خلّكان بأنه جعله عامّاً جامعاً، إلى جانب شدة تحرّيه في انتقاء المعلومات وتمحيصها، ووفرة المصادر التي اعتمد عليها، والأمانة في نقل المعلومات، والنزاهة في الحكم على الأشخاص مهما كانوا يختلفون عنه في العقيدة أو المذهب أو منحى الحياة، هذا إضافة إلى صفات هامة أخرى؛ مثل الدقة في الاختيار، وضبط الأعلام، وسريان الروح الأدبية في العرض، من غير إساءة إلى روح المؤرخ الناقد، علاوة على تحرّجه عن ذكر السيئات.

– – – –

ورغم مرور أكثر من سبعة قرون ما زال اسم (ابن خلّكان) حياً في الوسط الثقافي، وما من مكتبة عربية وإسلامية مرموقة، ولا مؤسسة علمية أكاديمية، إلا وتضم بين مصادرها القيّمة كتابه (وفيات الأعيان)، وما من باحث في التاريخ الإسلامي إلا ويجد نفسه في حاجة ماسة إلى جهود ابن خلّكان التاريخية.

وهذا خير شرف يكسبه العالِم من علمه.

ملاحظة: [ في وقت ليس بالبعيد سأزوّد كل حلقة بذكر عناوين المصادر والمراجع التي اقتبست منها المعلومات ].

 

وإلى اللقاء في الحلقة الخامسة.

15/11/2005

شارك هذه المقالة على المنصات التالية