د. أحمد الخليل

نصيحة كيميائي

أن تنفتح على العالم من غير أن تفقد مقوّمات شخصيتك وهويتك.

وأن تتمسك بمقوّمات شخصيتك وهويتك من غير نرجسية فردية أو قومية.

تلك هي المعادلة الدقيقة والصعبة والخطيرة في مسيرة الأفراد والشعوب.

وتحقيق هذه المعادلة بحاجة إلى قدر كبير من الوعي بـ (الذات) والوعي بـ (الآخر)، وإلى القدرة على تحديد وتشخيص طبيعة العلاقة بين (الذات) و(الآخر)، كما أن الأمر، في هذا المجال، بحاجة إلى تطبيق الحكمة التي نصح بها كيميائي قديم أحد طلبته، قائلاً له:”خذ كما ينبغي، وامزج كما ينبغي، تحصلْ على ما تريد“.

بلى، إن المسألة هي أن تكون قادراً على التصرف (كما ينبغي) في كل الأحوال، ويبدو لي، في حدود قراءاتي إلى الآن، أن كثيراً من رجالات الكرد طوال تاريخهم القديم والحديث، كانوا عاجزين عن التصرف وفق حكمة (كما ينبغي) هذه، بل يصحّ في كثيرين منهم قول الشاعر العربي القديم، واصفاً أحد أقاربه، قائلاً:

وفي الناس مَن يَغْشى الأباعدَ خيرُهُ   

ويَشقى به حتى الممــاتِ أقاربُهْ

ولم أجد في تواريخ شعوب غربي آسيا، قديماً وحديثاً، شعباً خدم أبناؤه مصالح الشعوب الأخرى بإخلاص منقطع النظير كما فعل أبناء الشعب الكردي، ولم أجد أناساً ضرّوا شعوبهم، وهم يقدّمون تلك الخدمات، كما فعل بعض أبناء الكرد، وهذه ظاهرة جديرة بالدرس والتحليل، وليس الآن مجال ذلك. وأتناول في هذه الحلقة أحد أولئك المشاهير الكرد الذين سيطرت عليهم الأنانية الشخصية، وقّدّموا مصالحهم على مصلحة الجماعة، فعقّوا شعبهم، وقدّموا الخدمات الجليلة لمن تسلّطوا على رقاب أمتهم، إنه الزعيم الميدي هارپاگ.

فماذا عن تلك الخدمات؟

وفي أي مجال كانت؟

ولمن تبرّع بها؟

خارطة غربي آسيا سياسياً

هارپاگ Harpage الميدي ليس جديداً على قارئ هذه الحلقات، فقد مر في حلقة (أستياج الميدي) أن هيرودوت أورد اسمه بصيغة (هارپاجوس) ، ورجّحنا حينذاك أن يكون اسمه في الأصل آر پاك Ar pak ، فتبادل المواقع بين حرفي (الهمزة) و(الهاء) أمر معروف في مسيرة ترجمة الأسماء والمصطلحات من لغة إلى أخرى، و(آر پاك) يعني (النار الطاهرة)، أو (الناري المبارك)، وعلمنا أيضاً أن هارپاگ لم يكن مباركاً على شعبه الميدي أبداً، بل إنه انساق وراء أحقاده وحساباته الشخصية الأنانية، فتآمر مع كورش الأخميني على الملك الميدي الأخير أستياج (أستياجس)، وجرّ إلى صف التآمر والخيانة بعض كبار قادة ميديا، وكانت النتيجة الطبيعية أن أستياج خسر الحرب ضد حفيده وخصمه كورش Kursh، ووقع أسيراً في قبضته، ودخل كورش العاصمة الميدية أكباتانا دخول الفاتحين، وقضى على الدولة الميدية قضاء مبرماً، وأسس على أنقاضها الدولة الأخمينية الفارسية، ولست مبالغاً إذا قلت: إن الكرد دفعوا طوال تاريخهم ثمناً مُرّاً نتيجة ذلك التآمر، وما زالوا يدفعون الثمن.

ولم يكن هارپاگ شخصية عادية، إنه كان قائداً ميدياً كبيراً، وكان يتصف بالذكاء والدهاء، وإلا كيف كان له أن يحبك مؤامرة معقدة، ويُسقط إمبراطورية بكاملها؟ وكان من الطبيعي أن يكافئ كورش حليفه الميدي هارپاگ على خدماته التي لا تُقدَّر بثمن، وأن يستمر في استثمار مواهبه القيادية وقدراته العسكرية إلى أقصى درجة ممكنة، وينعم عليه لقاء ذلك بالمناصب والأموال، ويوظّف جهوده وجهود سائر رجالات ميديا في ترسيخ سلطته، وتوسيع حدود إمبراطوريته، واحتلال أراضي الشعوب الأخرى، ونهب الثروات واستعباد السكان.

وقبل البحث في خدمات هارپاگ العسكرية لكورش الأخميني دعونا نلق نظرة على الوضع الإقليمي في غربي آسيا إبّان سقوط الدولة الميدية ونشأة الدولة الأخمينية. فقبيل سقوط الدولة الميدية كانت ثمة أربع قوى إقليمية بارزة في غربي آسيا وفي الزاوية الشمالية الشرقية من إفريقيا، هي:

1-  الدولة الميدية: كانت تحكم من أفغانستان شرقاً إلى الساحل الشمالي الشرقي من البحر المتوسط (سمي بعدئذ خليج الإسكندرونة)، مروراً بإيران الحالية وكردستان جميعها، وكيليكيا، أما حدودها الغربية  فكانت تقف عند الضفة الشرقية لنهر هاليس (قيزيل إرماق) في منطقة الأناضول الوسطى.

2-  الدولة البابلية: كانت تحكم المنطقة الممتدة من الخليج العربي شرقاً إلى الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط غرباً، وتضم العراق (ما عدا المناطق الواقعة شرقي نهر دجلة بما فيها إقليم كردستان)، وسوريا الكبرى (سوريا، الأردن، لبنان، فلسطين).

3-  الدولة الليدية: كانت تبسط نفوذها على المنطقة الغربية من آسيا الصغرى (غربي تركيا حالياً)، وكانت حدودها تمتد من الضفة الغربية لنهر هاليس شرقاً إلى شواطئ بحر إيجا ومضيق الدردنيل والبوسفور غرباً. وكان الليديون شعباً غير آري، ويتكلم لغة غير آرية، وقد استقر منذ القديم في غربي آسيا الصغرى، وكانت عاصمتهم سارديس، وقد تعرّضت ليديا لغزو الكّمريين الآريين الرحّل في عصر الملك الليدي جيجيس، فردّهم جيجيس وابنه وحفيده بالجهد والمشقة. وإلى إلياتس (إلياتتيس) حفيد جيجيس يرجع الفضل في جعل ليديا قوة يعتدّ بها، وقد ظل في الملك سبع سنين، واشتهر بأنه كان أغنى ملوك آسيا، وخلفه على السلطة ابنه كرُويسوس Croesus (قارون)، فازدادت ليديا ثراء وقوة في عهده، وكانت ليديا تمتاز بموقع تجاري هام، إذ كانت صلة الوصل بين الغرب الأوربي والشرق بشكل عام، وقد اشتهرت بأنها أولى أقطار العالم في إنتاج النقود المسكوكة، وفي إعداد الخانات (الفنادق) للمسافرين والتجار. [هـ. ج. ولز: معالم تاريخ الإنسانية 2/345- 347].

4-  الدولة المصرية: موقعها في الزاوية الشمالية الشرقية من إفريقيا، وصحيح أن مصر تعدّ من الدول الإفريقية جغرافياً، لكن، بحكم موقعها المتاخم لقارة آسيا، كان حكامها مهتمين بالعلاقات السياسية والعسكرية مع دول غربي آسيا في جميع العهود، وكانت مصر تغزو مناطق غربي آسيا، ولا سيما سوريا الكبرى، وأحياناً آسيا الصغرى، حينما كانت تقوى، كما كانت تتعرض للغزو من ملوك غربي آسيا عندما كانت تضعف، ومثال ذلك: (احتلال مصر لسوريا الكبرى وآسيا الصغرى في عهد رمسيس الثاني، والغزو الآشوري لمصر، والغزو الفارسي لمصر)، وكانت مصر تعقد تحالفات سياسية مع هذه وتلك من الدول في معظم الأحيان، ومنها (التحالف المصري الميتاني ضد الحثيين).

توازنات إقليمية

مر بنا في حلقات سابقة أن الملك الميدي كَيْ خُسرو kai-Khosru (كي أخسار Cyaxares = اكزركيس= اكسركيس = سياشاريس) تحالف مع  الملك البابلي نبوبولاصّر، وتوطّد الحلف بزواج نبوخذ نصّر (بختنصّر) بن نبوبولاصّر من ابنة الملك الميدي وبنى لها الحدائق المعلقة (لعلها سميراميس)، وقضى الحليفان على عدوتهما الدولة الآشورية سنة (612 ق.م)، وتقاسما أملاكها، فكان النصف الشمالي والشرقي للميديين، والنصف الجنوبي والغربي للبابليين. وكانت الدولة الآشورية نفسها قد تحالفت حينذاك مع العدو المشترك لكل من الميديين والبابليين؛ أقصد الغزاة السكيث Scythians.

والسكيث (الإسكيذيون= الأشقوذيون) شعب بدوي محارب شرس، شديد المراس، كثير العدد، كان يمتهن الغزو مثل بقية الشعوب البدوية عبر التاريخ، وكانت مواطنه الشاسعة تقع في شمالي البحر الأسود، وتمتد بين نهر الدانوب غرباً ونهر الدُّون شرقاً، وقد خاض السكيث حرباً ضروساَ ضد شعب آري آخر اسمه السِمِّريون Cimmerians (الكِمِّريون)، ولما خسر السمّريون الحرب ضد السكيث فرّوا باتجاه الجنوب والشرق، وعبروا مضيق البوسفور، واتجهوا شرقاً داخل آسيا الصغرى (غربي تركيا حالياً)، ووصلوا إلى شمالي الأناضول، واستقروا حول ضفاف نهر هاليس (قيزيل إرماق) الواقع في وسط وشمالي تركيا حالياً، فطاردهم السكيث للقضاء عليهم.

ويبدو أن مكاسب الغزو طابت للغزاة السكيث، فبلادهم سهوب شديدة البرودة، قليلة الخيرات، بعيدة عن طرق المواصلات التجارية العالمية الفاعلة، وها قد وجدوا أنفسهم في بلاد أكثر دفئاً، وأوفر ثراء، وتقع على حافات أهم طريقين تجاريين عالميين حينذاك كانا يربطان أوربا بآسيا، هما: طريق الحرير، وطريق البخور، فتوغّلوا بغزواتهم شرقاً، وهاجموا أرمينيا، ثم انحدروا جنوباً، ووصلوا إلى شرقي كردستان، ودخلوا في صراع مرير ضد الميديين.

وكان من الطبيعي، والحال هذه، أن يتحالف السكيث مع الآشوريين، حتى إن أميرات آشوريات، من بينهن ابنة الملك الآشوري آسَرْحدون، تزوّجن من بعض رؤساء السكيث، ومر بنا سابقاً أنه حوالي سنة (632 ق.م) هاجم الميديون بقيادة كَيْ خُسرو دولة آشور، ونازلوا العاصمة نينوى، لكن السكيث استغلوا انشغال القائد الميدي بالحرب ضد آشور، فهاجموا ميديا من الخلف، ونشروا الدمار حيثما حلّوا، فاضطر الميديون إلى فك الحصار عن نينوى، والعودة بسرعة إلى ميديا، لرد الغزو السكيثي، وكان من مصلحة الآشوريين أن يثيروا الخلافات بين الشعوب الآرية المجاورة لهم، يقول هـ.ج. ولز: ” فإن ملوك دولة آشور يوقعون الشحناء طرفاً من الزمان بين مختلف هذه الشعوب ذوات القربى، ويُغرون الكمّريين والميديين والفرس والإسكيذيين بعضهم ببعض“. [هـ. ج. ولز: معالم تاريخ الإنسانية، 2/351].

وجملة القول أنه كان في غربي آسيا حينذاك قوتان كبيرتان متخاصمتان:

1 –  الإمبراطورية الآشورية المهيمنة، ومعها مصر باعتبار أن الآشوريين كانوا قد غزوها سنة (674 ق.م)، وأخضعوها لسلطانهم. ومعها أيضاً الغزاة السكيث، وليديا، باعتبار أن الملك الليدي جيجيس مؤسس أسرة مرمناداي، كان قد تحالف مع الملك الآشوري آشور بانيبال سنة (670 – 652 ق.م). [ديورانت: قصة الحضارة، 2/184. وليام لانجر: موسوعة تاريخ العالم، 1/85].

2 – الدولة الميدية الناهضة: ومعها عيلام وفارس باعتبارهما كانتا تابعتين لها، ومعها بابل باعتبارها حليفة لها، ومتضررة من التسلّط الآشوري مثل ميديا.

ولما انتصر الحلف الميدي البابلي على الإمبراطورية الآشورية سنة (612 ق.م)، وسقطت الدولة الآشورية سقوطاً نهائياً، اختل التوازن الإقليمي في غربي آسيا، وضاق الخناق على الغزاة السكيث تحت وطأة الدولة الميدية الناشئة، وكانوا ينتهزون الفرص للانقلاب على الميديين ثانية، فهاجمهم كَيْ خُسرو، وأنزل بهم الهزيمة، ففروا غرباً، ولجأوا إلى مملكة ليديا المجاورة لمملكة ميديا.

وطلب الملك الميدي كَيْ خُسرو من الملك الليدي إلياتس (إلياتتيس) تسليمه السكيث الفارين، لكن الملك الليدي رفض ذلك، وكان موقفه ذلك طبيعياً؛ إذ كيف يسلّم حلفاءه السابقين لدولة ناشئة قوية يمكنها أن تهدد حدودها الشرقية؟ وعلمنا سابقاً أن الحرب اندلعت بين ميديا وليديا، واستمرت ست سنوات، ثم تدخّل الملك البابلي نبوبولاصّر بين الفريقين، وأصلح ذات البين، وتعزّزت اتفاقية السلام بين مملكتي ميديا وليديا بزواج أستياجس بن كَيْ خُسرو من ابنة الملك الليدي إلياتس حوالي سنة (597 ق.م)،. وبعد أن تحالفت الدول الكبرى الثلاث في غربي آسيا (بابل، ميديا، ليديا) ساد السلام في المنطقة، ونشطت الحركة التجارية بين الممالك الثلاث، ولا سيما أنها كانت تقع متجاورة في أكثر مناطق غربي آسيا أهمية من حيث حركة التجارة العالمية آنذاك، ونعمت شعوب تلك الممالك بالأمن والاستقرار، وشاع بينها الثراء والازدهار. [تاريخ هيرودوت، ص63- 64].

عبقرية هارپاك الحربية

لكن مع وقوع الملك الميدي أستياج، زوج أخت كرُويْسوس ملك ليديا، أسيراً في يدي كورش الأخميني، وسقوط الدولة الميدية، وحلول الدولة الفارسية محلها، اختل التوازن الإقليمي في غربي آسيا، فدبّ الخوف في نفس كرويسوس من القوة الفارسية الناهضة، وكانت ليديا قد وصلت إلى قمة مجدها في عهده، ” وأخذ يعمل بكل ما أوتي من وسيلة على تقويض قوة الفرس وهي ما تزال في طور النمو، وقبل أن تبلغ غاية العظمة “، فعقد تحالفاًَ دفاعياً مع اللاكيديمونيين Lacedemonians الإغريق  ومع المصريين، واجتاز نهر هاليس (قيزيل إرماق) الفاصل بين ميديا وليديا، وهاجم ممتلكات الإمبراطورية الفارسية، والتقى جيشا كورش وكرويسوس في منطقة تدعى (بتريا أو بتيريا)، قال هيرودوت: ” وكان القتال ضارياً، سالت الدماء غزيرة، وسقط من القتلى العدد الكبير، وما زالت رحى الحرب دائرة حتى حلّ الليل، وليس هناك منتصر“.[ تاريخ هيرودوت، ص 65.  وانظر هـ. ج. ولز: معالم تاريخ الإنسانية، 2/352، 253، 353. وليام لانجر: موسوعة تاريخ العالم، 1/86].

وأرجع كرويسوس فشله إلى قلّة عدد جنوده، وفي اليوم الثاني لم يعاود كورش الهجوم، فعاد كرويسوس ببقية جنوده إلى العاصمة سارديس في غربي البلاد، بغرض حشد الحلفاء، ولا سيما حلفاءه المصريين بحسب اتفاقية كان قد عقدها مع الملك المصري أمازيس، كما اتصل بالبابليين وملكهم نبونيد (نبونئيد)، واتصل بالأسبارطيين في بلاد اليونان، وفي الوقت نفسه سرّح جيشه، وكان معظمه من المرتزقة، وكان قد قرر أن يحشد جيشه وقوات حلفائه في فصل الربيع، ويستأنف القتال ضد الفرس، “دون أن يراود خياله أنه يمكن لكورش أن يغامر بالمسير إلى سارديس، بعد معركة استحال عليه النصر فيها” [تاريخ هيرودوت، ص 66].

لكن كورش كان على علم بخطط كرويسوس، وكان قد قرر القضاء على مملكة ليديا حليفة ميديا، والسيطرة على آسيا الصغرى، والوصول إلى سواحل بحر إيجا، وبذلك يكون قد سيطر على جميع الطرق التجارية في غربي آسيا، وبات على تواصل مباشر مع القارة الأوربية، فأسرع إلى مهاجمة العاصمة سارديس قبل أن يحشد كرويسوس حلفاءه، قال هيرودوت:” ومضى مستعجلاً في سبيله، حتى كان أول المعلنين لملك ليديا عن حضوره“. [تاريخ هيرودوت، ص 67].

وفوجئ كرويسوس بالهجوم الفارسي، ومع ذلك استنفر قواته، وخاض القتال ضد كورش، وكان الليديون معروفين بالبسالة والبأس والاندفاع إلى القتال، والتقى الجيشان في سهل قرب سارديس، ولما رأى كورش الليديين ينظمون صفوفهم، لخوض المعركة في ذلك السهل، راعه مشهد فرسان ليديا، ولا ريب في أن المعركة السابقة بين الفريقين أكدت له أن تحقيق النصر على هؤلاء الفرسان ليس بالأمر السهل، والحقيقة أن أهمية سلاح الفرسان في الجيوش القديمة كانت تماثل أهمية سلاح الدبابات في العصر الحديث، وكان سلاح الفرسان هو الذي يرجّح كفّة هذا الطرف أو ذاك على أرض المعركة، وهو الذي يحقق النصر معظم الأحيان، وهل كان من الممكن للآشوريين، ذلك الشعب القليل العدد، أن يؤسس إمبراطورية ضخمة لولا ما كان يمتاز به سلاح الفرسان في جيشه من القوة وسرعة الحركة؟ وهل كان الملك الميدي كَيْ خُسرو يستطيع أن يلحق الهزيمة بالجيش الآشوري لولا أنه طوّر سلاح الفرسان الميدي، مستفيداً من أعدائه الغزاة السكيث في هذا المجال؟

 وأخذ كورش يمعن الفكر فيما ينبغي عليه عمله ليتغلّب على الخصم الليدي، ويبطل فعالية الفرسان الليديين في أرض المعركة، وكان من عادته أن يعقد اجتماعاً خاصاً لكبار قادة جيشه، ويستمع إلى آرائهم في الأمور الحربية الشائكة، وقد وجد الحل في الخطة الحربية التي اقترحها هارپاگ الميدي، إذ اقترح أن يعمد كورش إلى حشد ما في جيشه من الجمال التي كانت تحمل المؤن والعتاد، فيأمر بإراحتها، ثم يجعل على ظهورها جماعة من جنوده كالفرسان، ويدفع بهم إلى المقدمة في مواجهة الفرسان الليديين، ويضع المشاة من وراء راكبي الجمال، ويكون الفرسان على ظهور الخيل من وراء المشاة، يقول هيرودوت: ” أما السبب في أن كورش جعل الجمال مقابل جياد الليديين فهو نفور الحصان من منظر الجمل ورائحته، فيتمكّن باستغلال هذا النزوع أن يبعد الخيالة عن المعركة، وتكون له الغلبة ” [تاريخ هيرودوت، ص 67].

 وحققت خطة هارپاگ أهدافها كاملة، فحينما بدأت المعركة أحجمت خيول الليديين عن التقدم وهي ترى منظر الجمال الغريب عليها، وتنفر من رائحتها غير المألوفة عندها، وهكذا تعطل سلاح الفرسان الليدي، وكان يشكّل القوة الضاربة في الجيش الليدي، وصار عاجزاً عن مواجهة الجيش الفارسي، فترجل الفرسان الليديون، وخاضوا القتال مع الفرس على الأرض، في حين كان سلاح الفرسان الميدي ما يزال محتفظاً بكافة قدراته، فزجّ به كورش في المعركة، وكان من الطبيعي أن يخسر الليديون المعركة، إذ كيف يمكن لجيش من المشاة فقط أن يردّ هجوم الفرسان الكاسح؟ واستدار الجنود الليديون على أعقابهم هاربين من أرض المعركة، ومتحصنين بأسوار العاصمة المحصّنة سارديس، وبعد حصار دام أربعة عشر يوماً سقطت سارديس في أيدي الفرس، ووقع كرويسوس أسيراً بين يدي كورش، وكان ذلك سنة (547 ق.م). وأصبح كورش سيد غربي آسيا جميعها بلا منازع. [تاريخ هيرودوت، ص، 68].

معارك هارپاك الأخرى

ويبدو من سير الأحداث أن كورش كان معجباً بعبقرية هارپاگ العسكرية، وكان شديد الثقة بإخلاصه له وللدولة الأخمينية، والدليل على ذلك أنه أسند إليه، بعد فتح سارديس، مهمات حربية تماثل المهمات التي كان يقوم بها هو نفسه، فبعد أن فتح كورش العاصمة الليدية سارديس، قرر استئناف فتوحاته في الشرق الأدنى (غربي تركيا حالياً) والوصول إلى سواحل بحر إيجا جنوباً، وإلى سواحل البحر الأسود ومضيق البوسفور شمالاً، فأسند مهمة اجتياح الأجزاء الجنوبية من الشرق الأدنى إلى هارپاگ، وقام هو بإخضاع الأقاليم العليا (الشمالية). [تاريخ هيرودوت، ص، 113 – 114].

وقد قام هارپاگ بالمهام الموكولة أفضل قيام، وكانت أولى تلك المهام أنه حلّ محلّ قائد ميدي آخر توفّي يسمى (مازاريس الميدي)، في استكمال فتح جنوبي آسيا الصغرى (تركيا حالياً)، ” وكان أول ما قام به بعد تولّي قيادة الجيش أن زحف إلى أيونيا، وشرع في الاستيلاء على مدنها، وسيلته في ذلك محاصرة المدافعين داخل الأسوار، ثم بناء تلال من التراب ليعتليها الجنود، وبذلك يتمكّنون من المدينة “. [تاريخ هيرودوت، ص، 10].

ثم زحف هارپاگ بجيشه إلى مدينة فوكاي الإغريقية، وكانت أسوارها في الغاية من القوة والمنعة، كتب هيرودوت: ” وبدأ هذا القائد في حصار المدينة، معلناً أنه يرضى من أهلها تهديم برج واحد وجزء من تحصيناتهم ليفكّ عنهم حصاره، فما كان منهم عندئذ، وهم على كراهيتهم أن يصبحوا أرقّاء، إلا أن طلبوا منه إمهالهم يوماً ليتدارسوا هذا العرض، شرط أن يسحب قواته مسافة مناسبة من مواقعها. فقبل هارپاجوس هذا الطلب، ولو أنه زاد بأنه يدرك حقيقة نواياهم كل الإدراك، ولما انسحبت القوات عمد الفوكيون إلى إنزال سفنهم إلى البحر، ودفعوا إليها بنسائهم وأطفالهم وكل ما يمكن حمله، … ومن ثم أقلعوا إلى خيوس، وهكذا كان دخول الفرس إلى المدينة واستيلاؤهم عليها وهي خاوية على عروشها “. [تاريخ هيرودوت، ص، 107].

وبعد فتح فوكاي استمر هارپاگ في استكمال غزو بقية المدن الأيونية، وإخضاعها للسلطة الفارسية، وقد قاتل الأيونيون ببسالة وإقدام دفاعاً عن أوطانهم، لكنهم لم يستطيعوا الصمود طويلاً أمام قوات هارپاگ وتكتيكاته الحربية ومفاجآت خططه، وتم إخضاع أيونيا للفرس، وسيطر الذعر على سكان الجزر حين وجدوا المدن على البر تسقط تحت ضربات هارپاگ وجنوده، فاستسلموا جميعاً للسلطات الأخمينية. [تاريخ هيرودوت، ص 109].

  وبعد أن أخضع هارپاگ أيونيا قام بمهاجمة الكاريين والكاونيين والليسيين في الجنوب، وكان جيشه يضم خليطاً من أهالي البلاد المفتوحة في غربي آسيا الصغرى، وأخضع الكاريين، ولم يستطع أحد من الإغريق الصمود في وجهه، ثم أخضع شعب الكنديان في المنطقة نفسها، وتوجّه بعدئذ بقواته إلى سهل زانثوس، وخاض معارك عديدة ضد الليسيين سكان ذلك السهل، قال هيرودوت: ” وكان جيشه يفوقهم عدداً، ومع ذلك فقد أبدوا من الشجاعة الشيء الكثير، ولكنهم بعد قتال طويل انتهوا بالهزيمة، فاضطرهم هارپاجوس للانسحاب والتحصن خلف أسوار مدينتهم، وهناك جمعوا النساء والأطفال والرقيق وما ملكوا، وحشروهم في القلعة، ثم أشعلوا فيها النيران، حتى أصبحت أثراً بعد عَين، ومضوا بعدئذ فأقسموا أغلظ الأيمان بأن يقاتلوا إلى أن يكون لهم النصر أو يقضوا، وخرجوا للقاء العدو، فكانت مقتلة عظيمة نزلت بهم، فأُفنوا عن بكرة أبيهم، ولم يبق منهم أحد ” [تاريخ هيرودوت، ص، 113].

–   –   –   –

خدمات حتى النهاية

ويبدو أن فترة خدمات هارپاگ للإمبراطورية الفارسية كانت طويلة، ويبدو أيضاً أن الرجل كان قد حاز على ثقة الحكام الأخمينين بشكل مطلق، إلى درجة أن موقعه القيادي لم يتزعزع في عهد قمبيز بن كورش، ولم يتأثر بالحركة الانقلابية الفاشلة التي قام بها الكاهنان الميديان الأخوان پيرتزيثيس (باتيزيثيس) وسمرديس (غوماتا)، في أواخر عهد قمبيز حوالي سنة (521 ق.م)، ولا شك في أن عدم تأثر موقع هارپاگ بالحركة الانتقامية ضد الميديين كان نتيجة إخلاصه الشديد لسادته الأخمين، ووقوفه ضد كل معارضة أو تمرد أو ثورة قام بها الميديون لتحرير أنفسهم واسترداد ملكهم، وهذا أمر طبيعي بالنسبة إلى رجل كان أول من عمل بكل دهاء وإصرار لتهديم أركان الدولة الميدية.

وظل هارپاگ يعمل ضمن الفريق القيادي العسكري الأخميني إلى أوائل عهد الملك الثالث دارا الأول (داريوس)، فبعد أن قضى دارا على الثورات التي اندلعت ضد الحكم الفارسي في أنحاء الإمبراطورية، ولا سيما في بابل، قرر غزو بلاد السكيث في شمالي البحر الأسود، ” فبعث رسله إلى جميع البلدان التابعة له، حاملين معهم الأوامر من الملك، يطلب من بعضهم تجهيز الجيوش بالجنود، ومن بعضهم تزويده بالسفن، ومن بعضهم الآخر تأمين العمال لبناء جسر فوق البوسفور” [تاريخ هيرودوت، ص 325]، ولا نجد ذكراً لهارپاگ في تلك الحملة، والأرجح أن دارا كان قد أوكل إليه الحفاظ على الاستقرار في ليديا والمناطق المجاورة لها في آسيا الصغرى (غربي تركيا حالياً)، باعتبارها كانت مناطق حيوية  ستراتيجياً، وخروجها من قبضة الفرس يعني وقوع دارا وجيشه في الحصار بين جيش السكيث في الشمال والإغريق الثائرين في الجنوب، وقطع طريق العودة إلى بلاد فارس.

والأمر الذي حملنا على الأخذ بهذا الترجيح أننا نجد لهارپاگ ذكراً في أخبار حملة القمع التي قامت بها السلطات الفارسية لإخماد ثورات الإغريق في آسيا الصغرى، وكان يقودها زعيم إغريقي يدعى هستيايوس الملطي (الميليسي)، وكان سبق له أن قدّم للملك دارا خدمات هامة خلال غزو بلاد السكيث، ولا سيما أثناء تقهقر الجيش الفارسي، والتراجع إلى آسيا بعد فشل الحملة، وقد اصطحبه دارا معه إلى العاصمة سوسا بما يشبه الإقامة الجبرية، لكن هستيايوس لم يكن مرتاحاً للاستمرار في خدمة الإمبراطورية الفارسية، وكان يبحث عن طريقة للخلاص من قبضة دارا، فأرسل رسالة سرية إلى بعض قادة الإغريق يحثهم على الثورة، ثم أقنع دارا بأنه الوحيد القادر على إخماد تلك الثورة، فأرسله دارا للقيام بتلك المهمة، وما إن وصل هستيايوس إلى بلاد الإغريق حتى قاد الثورة ضد الفرس بنفسه.

ونجد أن هارپاگ يحتل موقعاً قيادياً عالياً حينذاك، إلى درجة أنه كان يماثل أرتفرنيس حاكم سارديس والأخ غير الشقيق لدارا، وكان هستيايوس قد حشد قواته في منطقة تسمى كيكوس الميسية (على بحر إيجه)، يقول هيرودوت:

” لكن شاء القدر أن يتواجد القائد الفارسي هارباجوس على رأس جيش كبير في نفس المنطقة، فاشتبكت قواته بقوات الإغريق بقيادة هستيايوس، ونشب القتال بين الجيشين في مالينا من أعمال أتارنيوس، واستمر القتال بينهما متكافئاً لفترة طويلة من الزمن، لغياب الفرسان الفرس عن ساحة المعركة، لكن لما وصلوا رجحت كفة الفرس، وتم لهم الانتصار على الإغريق، وقتلوا معظمهم وفرّ البقية. أما هستيايوس الذي لم يكن يتوقع أن يأمر داريوس بإعدامه فقد حاول للمرة الأخيرة إنقاذ حياته، إذ بينما كان يحاول الهرب انقضّ عليه أحد الفرس، وهمّ برميه برمح، فصرخ بالفارسية: إنني هستيايوس الملطي“. [تاريخ هيرودوت، ص 439].

ووقع هستيايوس في الأسر، ورجّح هيرودوت أن الملك دارا كان سيعفو عن هستيايوس، ويضيف قائلاً: ” لكن الواقع أن أرتفرنيس مَرْزبان [حاكم] سارديس وهارباجوس القائد الذي اعتقله، كانا قد عقدا العزم على قتله، لمنعه من استعادة حظوته ونفوذه في قصر داريوس، وما إن وصل إلى سارديس حتى أُعدم بالخازوق، وقُطع رأسه، وحُنّط وأُرسل إلى داريوس في سوسا “. [تاريخ هيرودوت، ص 439].

إن الانتصارات التي حققها هارپاگ في جنوب غربي آسيا لا تدع مجالاً للشك في عبقريته العسكرية، وفي مهاراته القتالية، ولعل أبرز جانب في تلك العبقرية هو قدرته على اختراع الآلية التي يتمكن بها من إبطال مفعول القوة القتالية الأهم في  جبهة الخصم، وتحويلها إلى ما يعادل الصفر في ميدان القتال، وهذا واضح في إبطال مفعول سلاح الفرسان الليدي، وفي بناء أكوام من التراب تماثل القلاع التي كان يحاصرها ارتفاعاً، فيُفقدها ميزة التحصن خلفها.

وبعد هذه الإنجازات الحربية الكبرى في أقصى جنوب غربي آسيا، انقطعت أخبار هارپاگ، ولم نجد له ذكراً في الأحداث التالية، وإذا أخذنا بالحسبان أن دارا الأول تولّى الملك حوالي سنة (521 ق.م)، وأنه أمضى ثلاث و أربع سنوات في القضاء على ثورة بابل، وفي غزو بلاد السكيث والعودة إلى سوسا، فالأرجح أن هارپاگ توفي بعد سنة (515 ق.م).

المراجع

  1. هـ. ج. ولّز: معالم تاريخ الإنسانية، ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد، لجنة التأليف و الترجمة والنشر، القاهرة، 1967-1972م.
  2. هارڤي بورتر: موسوعة مختصر التاريخ القديم، مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة الأولى، 1991 م.
  3. هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ترجمة عبد الإله الملاح، المجمّع الثقافي، أبو ظبي، 2001م.
  4. ول ديورانت: قصة الحضارة، ترجمة محمد بدران، الإدارة الثقافية، جامعة الدول العربية، 1968م.
  5. وليام لانجر: موسوعة تاريخ العالم، أشرف على الترجمة الدكتور محمد مصطفى زيادة، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1959 م.

وإلى اللقاء في الحلقة السابعة والأربعين.

د. أحمد الخليل   في 17 – 11 –  2007

شارك هذه المقالة على المنصات التالية

تابعونا على غوغل نيوز
تابعونا على غوغل نيوز