نحن نقرأ… إذًا نحن موجودون

كورد أونلاين |
عبد الله رحيل_
مضى الشاعر الشهير، أبو تمام حبيب بن أوس الطائي، الذي دانت له الأشعار طرًّا إلى خراسان، وبينما هو في طريق العودة إلى بغداد، دخل مدينة همذان؛ فاستضافه أبو الوفا بن سلمة.
فحينما كان في استضافته، ساء الطقس، فكثرت أمطاره، ونزلت ثلوجه، فآثر البقاء عنده، واضطره ذلك إلى الإقامة عنده ليالي عدة، إلى أن تقف السماء عما تجود به من أمطارها، وثلوجها؛ ليستطيع متابعة عودته نحو بغداد، فكان لأبي الوفا بن سلمة مكتبة كبرى في بيته، فاستغل أبو تمام ذلك؛ فعمد إلى قراءة الكتب، وتصفح ما فيها، حتى انتهى من كتابة كتابين كبيرين، كانا عمدة في الكتب المرجعية في المكتبة العربية، وكانا هذان الكتابان، هما، كتاب “الحماسة”، وكتاب “الوحشيات”.
تقودني هذه الحكاية إلى منهجية استثمار العقل بالقراءة، وتجويد النفس بالكلمات، وتقويم اللسان بالتأليف، لألزمها في حالة الضعف القرائي في مجتمعاتنا، والمثقفة منها المعنية، هذه الحالة، التي وصلت إلى حضيضها في صنوف أنواع المعرفة والقراءة بين الناس، حتى صارت مهنة القراءة مهنة لا أحد يسعى إليها، ولا أحد يعرفها، فساد الجهل، وارتفعت خصائصه بين أبناء الجيل الواحد، فلم يعد الكتاب خير جليس، ولم تعد رائحة الأوراق الصفراء تستهوي الجمهرة من المثقفين، ومن النشء، الذي راح لاهثا وراء أروقة الجهل، والتخلف العلمي للمعرفة، فنُبِذ القلم في العراء، وبقي القِرطاس نظيفاً مبهرًا بياضُه.
لا شك إن الإنسان عبر التاريخ استطاع أن يوجد ما يتواصل به مع محيطه الذي تأقلم فيه، في طريق المعرفة وعلمه بمنهجية البحث فاخترع الرسوم والرموز التي يمكن له أن يعي العالم من حوله، ثم بفضل بحثه عن العلم الفطري عنده تطورت هذه الرموز إلى ما يشبه القراءة والكتابة، يدلنا هذا الحديث إلى السعي الحثيث للتعلم منذ القدم، وبذلك استطاع أن يسن لنفسه طريقة التواصل بفضل الكتابة والقراءة، وفي منهجية علم الاجتماع، يُقاس تقدم الأمم في مستوى دخل أفرادها، وفي مستوى التعليم، لكن الأهم من ذلك يُقاس تقدمها بإقبال بنيها على القراءة، فعنـدما سُـئل فـولتير: مـن سـيقود الجـنس البشـري؟ قـال: «الذين يعرفون كيف يقرؤون ويكتبون»، وعقد رأيه الفيلسوف، ورجل الدولة الانكليزي فرانسيس بيكون المتوفى 1626م إلى أن: «القراءة تصنع الإنسـان الكامـل»، أديسون يقول: «المطالعة للعقل كالرياضة للجسم»، جيفرسون الرئيس الأمريكي الثالـث يقـول: «إن الـذين يقـرؤون هـم الأحـرار فقـط، ذلـك لأن القراءة تطرد الجهل والخرافة معاً، وهما من ألدّ أعداء الحرية».
فالقراءة والكتابة عند المخلوقات غاية الإدراك وبيان حقيقة الأشياء، فعندما اكتُشفت أبجدية أوغاريـت، التي أرّخت الكتابة عبر التاريخ الموغل في القدم، وقـف أمامهـا ذات يوم الشــاعر الإســباني أنطونيــو، وقــال: «إنــني أقــف أمــام حضرة التاريخ، وإنني مدين لكِ يا أوغاريت بأنني كاتب».
وقد كُتب على أول مكتبة مصرية عُرفت في العصر الحديث، «هنا غذاء العقول وطب النفوس».
فمن هذه الأهمية للقـراءة، والتي تكون عمليـةً فكريـةً نفسـيةً لغويـةً، يقـوم القارئ من خلالها باستخلاص معنى من الرموز اللفظية، التي استخدمها الكاتب، وتفسير الرموز، التي يتلقاها القارئ عن طريق عينيه، وبهذا الفهم للقراءة، فهي تسـهم في النمـو العقلـي للفـرد، وتسـاعده في حـل المشـكلات، وهي نافذة لتشبع الحاجات، وإرضاء الميول، الرامية إلى التكيف النفسي، والتمازج الاجتماعي.
فعندما أطلقت روسيا القمر الصناعي عـام 1957، رأى رجـالات التربيـة في أمريكـا، أنـه لابـد لنـا مـن إعـادة النظـر في نظامنـا التربـوي، وقـال أحـدهم: لابـدّ مـن أن يكـون الناشـئ لـدينا قارئا في السبعينات، وأشار إلى أهمية القراءة والقارئ الجيد في تقدم البلاد.
وفي المثل الإسباني “ومـن السـهولة بمكان أن تقف في وجه ثورٍ هائج على ألاّ تقف في وجه عاشق”، وبهذا التأطير لمفهوم العشق والهوى، إذا كان الإنسان يتحول إلى هاو، وعاشق للقراءة، فلا يمكن أن تقف أمامه حدود أو حواجز يمكن أن تحول دون بلوغه الغاية المثلى في التعلم، والتقدم، وبناء الحياة، والمجتمعات، وهنا تتبدى الأهمية القصوى في القراءة.
العزوف عن القراءة
عزوف كبير، وعظيم عن ممارسة القراءة بمختلف جوانبها، وهذا العزوف المذهل في عالمنا الحاضر، مردود إلى اللبنة الأولى في المجتمعات، وهي الأسرة، فغيابها عن توجيه الأبناء للقراءة، هو السبب الأول لهذا العزوف، ثم تأتي المدارس التي أهملت توجيه الطلاب للقراءة الخارجية، وأهملت وجود المكتبات في المدارس، وتزويدها من الدولة المعتمدة بالكتب المفيدة الهامة والمشوقة، التي يقبل إليها النشء، ويأتي الإعلام بالدرجة الثانية لما حل بالقراءة من ضعف، فقد غاب عن وسائله تحفيز النشء للقراءة، وإقامة المهرجانات، التي تدعم القراءة، أو إقامة مسابقات فصلية بجوائز قيمة للقارئين.
لكن ربما يأتي الأهم مذ ذلك كله في نوعية المعروض مما يُكتب، أو يُؤلّف، فهذه نقطة جوهرية في تأخر نمو القراءة وممارستها، فتعرض نصوص غير شيقة، وغير جذابة، ولا توائم أهواء النشء، أو الباحثين عن التميز، فهي موضوعات سطحية لا تتوفر فيها عناصر الجذب، والشد، والتشوق للكتاب المقروء، وغالبا ما تكون بأسلوب سوقي مبتذل، أو مليئة بالألفاظ الحوشية، التي ينفر منها الشباب.
وهنا لا بدّ لنا من أن نعول في هذا العزوف الكبير عن القراءة إلى أجيال المجتمع، التي أصبحت تنظر إلى القراءة والثقافة العامة نظرة الازدراء، والبحث عن أسباب العيش والرفاه بعيدا عن الثقافة، وعن تتبع القراءة، وهذه النظرية الهدامة فيما يتعلق بالشباب الدارس ساندتها إلى حد ما الجامعات، والمعاهد، والمدارس، ودور العلم المختلفة، التي باتت تعتمد سياسة التلقين، واتباع طرائق تدريس القراءة، والنصوص بالطريقة التقليدية المعروفة، أحدهم يقرأ النص، والبقية تنصت دون أن يكون للقراءة الأهداف التفسيرية للنص، والتحليل، والنقاش حول ما يُقرأ، وأخذ آراء الدارسين في تكوين نقد بناء للنص، وكثيرا ما تلجأ الجامعات، والمعاهد إلى تقييد الدارس في قالب واحد، وجعله يكرر الأسلوب نفسه، وقراءة ما تصدره الجامعة، أو المعهد والالتزام فيه بدل أن يحلّق بجناحيه كالنسر الأشم في فضاءات الكتب التراثية الكبيرة والقيمة، واتباع سياسة البحث العلمي في إلزام الطلبة الدارسين بها؛ ما يقودهم أكثر إلى الطريق الصحيح نحو القراءة، وتعرفهم إلى الكتب التراثية المختلفة، التي تقودهم إلى اتباع طريقة المؤلفين، والمفكرين، والكتاب، والشعراء في القراءة، والتأليف، والسير على منهجهم، ففي تراثنا الأدبي ما يشبع الدارسين، والمهتمين بالثقافة، والقراءة التحليلية المعمقة، من آلاف الكتب المكتوبة بعناية ودقة وفي الفنون كلها.
ويمكن لي أن أورد إحصائية بسيطة، لما يكتب، ويقرأ في عالمنا، الذي نحن فيه، فحصة العرب مـــن الطباعـــة في الســـنة، ما يقارب عشـــرة آلاف كتاب، مقابـــل ثمانية وعشرين ألف كتاب في اليابان، وفي إحصاءات لمنظمة اليونسكو تشير إلى أن خمسة وثلاثين كتاباً سنوياً، هـي حصـة الفـرد في أوروبـا، أمـا في السنغال ثمانية كتب للشخص الواحد، وفي العالم العـربي كتـاب واحـد لكـل ثمـانين شخصـاً.
وقد جاء التعبير القرآني في بداية رسالة الإسلام بكلمة، اقرأ، فهي البداية لمدخل المعرفة، والنبوغ في عالم واسع فسيحة جوانبه، ورحيبة مداخله، وبذلك قال الناس قديما: “مجد التاجر في كيسه، ومجد العالم في كراريسه”، بل أكثر من هذا فقد جعل الحكيم سقراط ميزان الحكمة في المرء من خلال القراءة، «إذا أردت أن أحكم على إنسان، فإني أسأله: كم كتاباً قرأت، وماذا قرأت؟!» ومن هذا المنطلق في التمايز بين البشر في أهمية القراءة، فهي في عيون الشعراء مهوى الأفئدة، وسلطة العقل في العبث بالكتب، والتفرد بمحبتها، ونهم العين والقلب لصفحات هي الصحبة، والأنس عن الناس كلهم. فالأديب الجاحظ يتخذ من الكتاب صديقا أبديا، فهو الذي لا يخونه:
 أوفى صديقٍ إنْ خلوتُ كتابي
ألهُو بهِ إنْ خانني أصحابي
 لا مُفشياً سرّاً إذا أودَعْتُهُ
 وأفوزُ منهُ بحكمةٍ وصوابِ
وبهذا التفاني وراء صفحات كتاب نافع، وضمن إشراقة الحروف والكلمات، يتعاظم الكتاب بالأخلاق الحميدة المغروسة بين ألفاظه، فهو لا ينافق، ولا يمل من الأصحاب، إذا جفوه، ولا يفشي الأسرار، وهو الصديق الحميم النافع دون غاية أو ترغيب، وشوقي يقول:
أنا من بدّل بالكتب الصحابا
لم أجد لي وافياً إلا الكتابا
صالح الإخوان يبغيك المنى
ورشيد الكتب يبغيك الصوابا
فالكتب هي لذة العقول، وهي جليلة النفع، وحلوة المذاق، وخير ما جنته الأنام والزمان، وقد أجمع ذلك بهاء الدين محمد بن الحسن البغدادي المعروف بابن حمدون الكاتب: «وجدت الكتاب خير صاحب وقرين، وأفضل رفيق وخدين، لا يخون، ولا يمين، ولا يماكر، ولا يناكر، ولا يعصي، ولا ينافر».

​الثقافة – صحيفة روناهي

شارك هذه المقالة على المنصات التالية