“أعيش بين الأمل والخوف”: شهادات توثق استمرار الاختفاء القسري في سوريا ما بعد الأسد

1. ملخص تنفيذي:

يوثق هذا التقرير نماذج من حالات اختفاء قسري وقعت بعد سقوط النظام في كانون الأول/ديسمبر 2024، ما يشير إلى أن هذا الانتهاك لم يتوقف مع انتهاء حقبة الأسد، بل استمر في المرحلة الانتقالية وإنْ بأشكال مختلفة ونسب أقل. واستناداً إلى روايات الشهود وذوي المختفين، فقد حدثت تلك الممارسات على أيدي الأجهزة الأمنية التابعة للحكومة الجديدة بشكل أساسي، وعلى رأسهم جهاز الأمن العام (الأمن الداخلي).

لاحظ فريق البحث، من خلال تحليل الشهادات التي جمعتها “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” (11 شهادة لغرض هذا التقرير) إضافة إلى مصادر أخرى، عدّة أنماط رئيسية حدثت خلالها حالات اختفاء قسري خلال الأشهر الماضية، منها:

  1. أثناء المداهمات المنزلية/عمليات التمشيط: على سبيل المثال اقتحمت قوات عسكرية وأمنية منازل في جبلة وحمص ودمشق، واعتقلت أفراداً من عائلات بأكملها دون مذكرات قضائية أو تهم واضحة، لتبقى أخبارهم منقطعة تماماً عن ذويهم.
  2. على الحواجز الأمنية: في حالات أخرى، تحوّلت نقاط التفتيش في ريف اللاذقية وحمص وطرطوس إلى مصائد للاختفاء، حيث أوقف مدنيون في وضح النهار، ثم أنكرت الجهات الأمنية وجودهم أو قدمت روايات متناقضة عن مصيرهم.
  3. من قبل المراكز الأمنية/الأجهزة الأمنية الجديدة: بدأت بعض الحالات باستدعاءات رسمية “للاستجواب”، لكنها تحولت إلى اختفاء كامل، كما في حالة موظف مدني في حمص، حيث أنكرت الجهة نفسها التي استدعته بمعرفتها بمكان وجوده لاحقاً.
  4. في الأماكن العامة: لم تقتصر الممارسة على المراكز المغلقة، بل شملت اعتقالات علنية في شوارع عامة، ثم تبعها اختفاء قسري، كما في ساحة تشرين باللاذقية، ما يعكس العلنية والاطمئنان لعدم المحاسبة.

تدعو “سوريون”  إلى تفعيل الهيئة الوطنية للمفقودين بكامل صلاحياتها؛ بما يشمل حالات الاختفاء بعد سقوط النظام، والتعاون الكامل مع المؤسسة الدولية المستقلة المعنية بالمفقودين في سوريا التي أنشأتها الأمم المتحدة عام 2023.

تكشف هذه الشهادات عن فجوة خطيرة بين النصوص القانونية والواقع الميداني. فالإعلان الدستوري الصادر في المرحلة الانتقالية (مادة 18) والمرسوم التشريعي رقم 19 القاضي بإنشاء هيئة وطنية للمفقودين، لم ينعكسا بعد على حماية فعلية من الاختفاء القسري. كما أن السلطات، وبحسب الشهادات، لم تبادر إلى التحقيق في جميع الحالات الموثقة أو الكشف عن مصير الضحايا، ولم تأخذ مناشدات الأهالي على محمل الجدّ، ما يعمّق مناخ الإفلات من العقاب.

تؤكد “سوريون” أن مسؤولية الحكومة لا تقتصر على الانتهاكات التي ترتكبها قواتها مباشرة، بل تمتد أيضاً إلى الانتهاكات التي تنفذها مجموعات مسلّحة أخرى ترتبط بها أو تتحرك بعلم منها، إذ يقع على عاتق الدولة واجب حماية جميع المواطنين/ات، والتحقيق في كل واقعة، وضمان محاسبة المرتكبين.

إلى جانب الشهادات من مصادر محلية، يستعرض التقرير تقارير دولية وأممية حديثة تشير إلى اتساع نطاق الظاهرة. فقد وثقت لجان خبراء الأمم المتحدة اختطاف مئات الأشخاص، بينهم نساء من الطائفتين الدرزية والعلوية، على أيدي جماعات مسلّحة مرتبطة بالسلطات السورية الانتقالية بشكل أساسي، مؤكدة استمرار غياب الاستجابة الفعالة من الدولة. بناءً على ذلك، يشدد التقرير على أن معالجة ملف الاختفاء القسري تمثل اختباراً حاسماً لالتزام الحكومة الانتقالية/المؤقتة بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان.

وعليه، فإنّ “سوريون” تدعو إلى تفعيل الهيئة الوطنية للمفقودين بكامل صلاحياتها؛ بما يشمل حالات الاختفاء بعد سقوط النظام، والتعاون الكامل مع المؤسسة الدولية المستقلة المعنية بالمفقودين في سوريا التي أنشأتها الأمم المتحدة عام 2023.

2. المنهجية:

يستند هذا التقرير إلى شهادات مباشرة جُمعت في إطار عمل سوريون من أجل الحقيقة والعدالة خلال الأشهر الماضية، وإلى تراكم خبرتها في توثيق هذه الجريمة. فقد سبق للمنظمة أن نشرت تقارير عدّة توثق حالات مشابهة، من بينها تقرير عن الاختفاء القسري الذي طال أبناء من الطائفة العلوية في ريف دمشق، بعنوان “سوريا: توثيق حالات اختفاء قسرية واعتقالات تعسفية في حي القدم الدمشقي“، وهو ما يبرز أن الظاهرة تتكرر في أماكن مختلفة من البلاد.

لأجل هذا التقرير، أجرت “سوريون” 11 مقابلة معمّقة عبر الإنترنت، عن طريق تطبيقات تواصل آمنة. وخلال أخذ موافقاتهم المستنيرة، اطلع جميع من قابلناهم على الطبيعة الطوعية للمقابلة وسبل استخدام المعلومات التي شاركوها، بما في ذلك نشر هذا التقرير، فآثر العديد منهم إخفاء هوياتهم أو أي معلومات قد تدل عليها، خوفاً من أية أعمال انتقامية قد تطالهم أو تطال عائلاتهم. وعليه تم استخدام أسماء مستعارة للدلالة على عدد من الأشخاص الذين يقتبس التقرير أجزاء من إفاداتهم. كما امتنع التقرير عن ذكر أسماء بعض الضحايا للأسباب ذاتها، غير أن بياناتهم مسجّلة في قاعدة بيانات المنظمة وفق الأصول المعتمدة.

لا يدّعي هذا التقرير الإحاطة بجميع حالات الاختفاء القسري التي وقعت في سوريا بعد كانون الأول/ديسمبر 2024. فعدد الحالات الموثقة يفوق بكثير ما نورده هنا، وما يتضمنه هذا التقرير ليس سوى نماذج مختارة هدفها إلقاء الضوء على حوادث محددة، وخصوصاً تلك التي ارتكبها أو شارك فيها الأمن العام والقوات التابعة للحكومة الانتقالية.

لقد ارتأينا التركيز على هذا الجانب نظراً لخطورة استمرار أجهزة رسمية في ممارسة جريمة نصّ الإعلان الدستوري صراحةً على حظرها.

علماً أن بعض الحالات التي وثقناها تشير أيضاً إلى تورط جهات أخرى أو مجموعات مسلّحة غير حكومية في عمليات اختفاء. ورغم أن المسؤولية المباشرة تقع على مرتكبي هذه الانتهاكات، إلا أنّ المسؤولية النهائية تقع على عاتق الحكومة التي يفرض عليها القانون الدولي واجب حماية المواطنين/ات من الاختفاء القسري، والتحقيق في جميع الوقائع، ومحاسبة المسؤولين عنها، ومنع تفشي ظاهرة الإفلات من العقاب.

3. المقدمة:

بعد أكثر من ثلاثة عشر عاماً من النزاع المسلّح، لا يزال العديد من السوريين والسوريات يعيشون تحت وطأة جريمة الاختفاء القسري التي استخدمها النظام السابق على نطاق واسع كوسيلة للسيطرة السياسية وإرهاب المجتمع، في ظل غياب سيادة القانون وانتشار الإفلات من العقاب. ورغم سقوط النظام في كانون الأول/ديسمبر 2024، لم تتوقف هذه الجريمة، بل استمرت في المرحلة الانتقالية بصور متعددة، ولكن بوتيرة أقل. فمنذ ذلك التاريخ، برزت شهادات ومناشدات عديدة عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي حول حالات اختفاء جديدة في مناطق مختلفة من البلاد، كثير منها على أيدي أجهزة أمنية أو جماعات مسلحة تابعة للحكومة الانتقالية، وبدا أنّ هنالك دوافع طائفية وراء العديد من حالات الاختفاء القسري.

إن تكرار هذه الوقائع يثير قلقاً بالغاً من احتمال تحوّلها إلى نمط يعيد إنتاج أخطر الانتهاكات التي شهدتها سوريا في العقود الماضية.

في هذا السياق، تصدر سوريون من أجل الحقيقة والعدالة هذا التقرير بمناسبة اليوم الدولي لضحايا الاختفاء القسري (30 آب/أغسطس 2025)، لتسليط الضوء على استمرار هذه الجريمة في المرحلة الانتقالية، والمطالبة بكشف مصير جميع المختفين/ات وضمان محاسبة المسؤولين عنها، تأكيداً على أن أي عملية انتقال سياسي لن تكتمل من دون الحقيقة والعدالة.

4. الاختفاء من المنازل: عندما تتحول البيوت إلى مسرح لجريمة الاختفاء القسري:

تُعدّ المداهمات الأمنية للمنازل وما يليها من عمليات اختفاء قسرية، من أخطر أشكال الممارسات الحالية في سوريا، لأنها تنتهك المكان الذي يُفترض أن يكون مأمناً للأفراد والعائلات. وقد وثّقت سوريون بعد سقوط النظام السابق حالات عديدة اقتحمت فيها قوات عسكرية أو مجموعات مسلّحة المنازل، وأخذت أفراداً دون مذكرات قضائية أو أوامر قانونية، ثم أنكرت وجودهم لاحقاً. هذه الممارسات تذكّر بأكثر أنماط الانتهاكات رسوخاً في الحقبة السابقة، وتكشف استمرار الخطر على السكان حتى داخل بيوتهم.

في 8 آذار/مارس 2025، تحوّل حيّ الرميلة في مدينة جبلة إلى ساحة مداهمات عسكرية واسعة نفذتها قوات تابعة لوزارة الدفاع خلال مجازر الساحل. يصف “إسماعيل” (45 عاماً، مدرس من جبلة)، ما جرى عند اعتقال 6 من أفراد أسرته بينهم طفل، قائلاً:

“دخلت القوات العسكرية التابعة للسلطة في دمشق، إلى جبلة واللاذقية وبانياس وغيرها من المناطق. كنا أنا وأهلي في المنزل، في حي الرميلة بمدينة جبلة. دخلوا إلى المنطقة وقاموا بتمشيطها بحثاً عن مسلحين. كانوا من القوات التابعة لوزارة الدفاع في دمشق، ويلبسون لباس عسكري كامل مع ربطات صفراء.”

لم تغادر العائلة المنزل، ظناً منها أنها ليست مهددة:

“كنا أنا وأهلي في البيت… لم نهرب لأننا لم نرتكب شيئاً. فجأة طرقوا الباب، سألونا من في الداخل، ثم اقتحموا المنزل. اعتقلوا والدي، وهو رجل مسن عمره 68 سنة، وإخوتي الثلاثة، بينهم طفل قاصر في الصف الحادي عشر، وكذلك خالي وابن خالي.”        

لم تقتصر الواقعة على الاعتقال، بل رافقها شتائم وعبارات طائفية موجّهة ضد العائلة العلوية. يقول إسماعيل:

“أخذوهم جميعاً بالقوة دفعة واحدة… كانوا يصرخون ويشتموننا بلغة طائفية.”

منذ تلك اللحظة، انقطعت أخبار ستة رجال من عائلة واحدة. حاولت الأسرة التواصل مع مسؤولين، واللجوء إلى وسطاء، لكن الجميع طلب مبالغ مالية كبيرة مقابل تقديم معلومة. يقول إسماعيل:

“حاولنا الوصول إلى مسؤولين، ولم نستطع، وحاولنا تشغيل واسطات. كلهم يريدون مقابل مالي. عرفنا أنهم معتقلين، ولكن لا ندري أين. والحكومة لا تعترف بوجودهم.”

بعض العناصر استخدموا هواتف المعتقلين لابتزاز النساء عبر رسائل. ورغم كل ذلك، لم يصدر أي اعتراف رسمي بوجودهم أو بمكان احتجازهم

يضيف المصدر أن بعض العناصر استخدموا هواتف المعتقلين لابتزاز النساء عبر رسائل. ورغم كل ذلك، لم يصدر أي اعتراف رسمي بوجودهم أو بمكان احتجازهم. سمع إسماعيل إشاعة عن وجود عائلته في سجن ادلب المركزي، ولكن لم يتسنَ له التحقق من المعلومة من مصدر رسمي حتى تاريخ إعداد التقرير.

تكشف هذه الحادثة كيف يمكن أن تتحول المداهمات الرسمية مباشرة إلى اختفاء قسري، إذ نُفذت على يد قوة حكومية وبقيت العائلة محرومة من أي سبيل قانوني لمعرفة مصير أحبائها.

في شهادة أخرى، وثقت “سوريون” تعرّض منزل في حي بساتين الوعر بحمص بتاريخ 18 أيار/مايو 2025 لمداهمة نفذتها مجموعة مسلّحة، تلاها اعتقال ثلاثة أخوة. تروي عن ذلك المحامية “زينة” (27 عاماً)، وهي إحدى قريبات الرجال الثلاثة المفقودين:

“جاؤوا بسيارة سانتافيه وفان، فضيتي اللون، إحداهما تحمل لوحة إدلب والأخرى حلب. كانوا يرتدون الزيّ الرسمي للأمن، وبحوزتهم بطاقات تعريف تشير إلى أنهم من الأمن. جمعوا النساء والأطفال في غرفة واحدة مع شقيق المفقودين الثلاثة وهو شاب من ذوي الإعاقة، ثم أخذوا الإخوة الثلاثة للتحقيق معهم. حاولوا أخذ الأخ المقعد على كرسي، لكنه لم يكن قادراً على الوقوف، فتركوه خلفهم.”

وبحسب المصدر، لم يقتصر الأمر على الاعتقال، بل استولى العناصر على مصاغ ذهبي، ومبالغ مالية، وخزنة تحوي ملايين الليرات، إضافة إلى الهواتف المحمولة. تتابع زينة:

“أبلغنا الأمن العام في المنطقة، فقالوا إن هؤلاء لا يتبعون لأي جهة رسمية، وإن البطاقات مزورة. ومع ذلك لم نرَ أي تحرك لاحق للتأكد أو للتحقيق.”

كما تلقت العائلة لاحقاً رسالة نصيّة من رقم مجهول تطالب بدفع مبلغ مالي، لكن عند إعادة الاتصال بالرقم لم يرد أحد، وباءت محاولات التتبع بالفشل. وإلى اليوم، ما يزال مصير الأشقاء الثلاثة مجهولاً. تقول زينة:

“تم تقديم شكاوى لدى عدة أقسام. وبحثنا عنهم في جميع أقسام الشرطة والمشافي، دون أن نتمكن من معرفة شيء عن مصيرهم”.

وتجدر الإشارة إلى أن ادعاء السلطات أن البطاقات مزورة لا يعفيها من مسؤولية التحقيق وضمان حماية السكان، حيث أن غياب المتابعة الرسمية يرسّخ مناخ الإفلات من العقاب ويترك الأسر بلا حماية.

وفي منطقة أخرى، في سياق الانتهاكات التي طالت مدنيين عقب سيطرة قوى الأمن العام على ناحية أشرفية صحنايا في ريف دمشق، أدلى “حسن” وهو والد أحد الضحايا، بشهادة لـ”سوريون” حول اختفاء ابنه بعد اعتقاله من قبل رجال يرتدون زي الأمن العام، ثم معرفته أنه قتل تحت التعذيب. قال حسن:

“بتاريخ 30 نيسان/أبريل، داهمت قوة من الأمن العام منزلنا، وكان عددهم يفوق العشرة أشخاص. أخذوا ابني، وقالوا أن الإجراء روتيني، وسيعود خلال ساعات قبل حلول الليل، لكننا لم نسمع عنه شيئاً بعد ذلك، ولم يخبرنا أحد بمكان احتجازه أو مصيره”.

بعد عدة أيام، في 9 أيار/مايو، عرف حسن أن جثة ابنه في إحدى مشافي دمشق، وكان قد نقل إليها بعد التحقيق معه في أحد مراكز الأمن العام. وقد صرح حسن لـ”سوريون” أنه قد رأى بوضوح آثار كدمات وكسور متفرقة في جسد ابنه نتيجة تعرضه للضرب والتعذيب.

ويُظهر ما رواه حسن أن جريمة الاختفاء القسري قد وقعت بالفعل، إذ حُرم الابن من حريته على يد جهة رسمية، وأخفي مكان احتجازه ومصيره عن عائلته طوال فترة احتجازه وحتى وفاته. ويعكس هذا مثالاً عن تلازم جرائم الاختفاء القسري مع غيرها من الانتهاكات الجسيمة كالقتل خارج نطاق القانون والتعذيب، بما يضاعف من معاناة الأسر التي تبقى عاجزة عن معرفة الحقيقة أو تحقيق العدالة.

5. الاختفاء على الحواجز: حواجز أمنية تتحول لنقاط تبدأ منها رحلة الاختفاء:

لم تقتصر حالات الاختفاء القسري على المداهمات، بل امتدت إلى الحواجز الأمنية المنتشرة على الطرقات، التي يفترض بها تنظيم المرور وحماية المدنيين/ات. في العديد من الحالات، تحوّلت هذه الحواجز إلى نقاط اختفاء، حيث يُوقف الأفراد ثم ينقطع أثرهم، بينما تلتزم الجهات الأمنية بالصمت أو تقدّم روايات متضاربة تزيد من معاناة الأسر. إن اختفاء الأشخاص عند الحواجز يبرز مدى هشاشة الحق في حرية التنقل والأمان الشخصي، ويحوّل الحياة اليومية إلى تجربة محفوفة بالخوف والشك.

في صباح 7 آذار/مارس 2025، أوقف عناصر حاجز يتبع لفصيل “الحمزات” رجلاً مدنياً من قرية برابشبو في اللاذقية، بعد أن طُلب منه الحضور لمقابلة قائد الحاجز. وما إن وصل حتى تم تعصيب عينيه واقتياده إلى جهة مجهولة. قال والده “حسين” لـ”سوريون” في مقابلة معه:

“قدمنا عدة شكاوى رسمية في مراكز الجهات المختصة، وسجّلنا اسمه ضمن قوائم المفقودين، ولكن حتى اليوم لم نتلقَ أي رد، ولم نحصل على أي معلومة توضح مصيره. لا نعرف إن كان حيّاً أم ميتاً، وكل ما نريده الآن هو معرفة الحقيقة.”

في اليوم نفسه، فقد “هاني” ابنه عند حاجز آخر تابع للفصيل ذاته في قرية زوبار. يروي الأب:

“خرج ليجلب الخبز للمنزل… وبعد ساعات علمنا أنه أُوقف عند الحاجز ولم يعد. أنا كأب أعيش يومياً في حالة انتظار مؤلمة. لا أعلم إن كان ما زال حياً أو أنه قد فارق الحياة. أعيش بين الأمل والخوف، ولا يمر يوم دون أن أتخيله واقفاً أمامي. أمنيتي الوحيدة أن أعرف الحقيقة، مهما كانت، لأن هذا الغموض يثقل قلبي ويأكل من عمري.”

كلا العائلتين لجأتا إلى الأمن العام وقدمتا شكاوى رسمية تؤكد أنّ عناصر “الحمزات/الحمزة” المدعومة من تركيا، هم من أوقفوا أبناءهم، لكن لم يتلقوا أي رد أو توضيح رسمي. ورغم أن عمليات التوقيف جرت في وضح النهار، بقي مصير الشابين مجهولاً، في وقت التزمت فيه السلطات بالصمت.

وفي قضية أخرى حدثت يوم 5 نيسان/أبريل 2025، اختفى شاب من ريف طرطوس أثناء محاولته عبور مدينة حمص في طريقه إلى لبنان. وبحسب شهادة قريبه “سميح”، أنزله السائق عند حاجز المشيرفة، ولكن آخر اتصال أجراه مع أسرته كان من حاجز أريزونة على طريق حمص–طرطوس. بعد ساعات تلقّت العائلة اتصالاً من رجل استخدم هاتف الشاب. يقول سميح:

“اتصلوا من هاتفه وتلفظوا بإساءات، ثم طلبوا مبلغاً مالياً. قالوا بوضوح إن الشاب موجود لديهم. لكن في اليوم التالي تراجعوا وقالوا أنهم سلّموه إلى فرع الأمن السياسي في تلكلخ.”

ورغم مراجعة الأسرة جميع الفروع الأمنية والسجون المعروفة في المنطقة، لم تعثر على أي أثر للشاب، وبقي مصيره مجهولاً.

تضيء هذه الشهادة على بعد إضافي في ظاهرة الاختفاء القسري المرتبطة بالحواجز، ليس فقط التوقيف التعسفي والإنكار الرسمي، بل أيضاً تضارب الروايات بين الخاطفين والجهات الأمنية، واستخدام ذوي المفقودين وسيلة للابتزاز. وهنا يتأكد النمط ذاته: مدني يُقتاد من الحاجز إلى جهة غير معلومة، بينما تظل العائلة بلا وسيلة قانونية لمعرفة مصيره أو حتى تأكيد أنه محتجز لدى جهة رسمية.

مدني يُقتاد من الحاجز إلى جهة غير معلومة، بينما تظل العائلة بلا وسيلة قانونية لمعرفة مصيره أو حتى تأكيد أنه محتجز لدى جهة رسمية

6. المراكز الأمنية: من مقرات رسمية إلى فضاءات للاختفاء:

تُظهر بعض الحالات أن مجرد استدعاء رسمي إلى مركز أمني يمكن أن يكون بداية لمسار اختفاء قسري. إذ يُستدعى المواطنون/ات إلى مخافر الشرطة أو الأفرع الأمنية للتحقيق أو للاستجواب، ليجد ذووهم أنفسهم بعد ذلك محرومين من أي وسيلة لمعرفة مكانهم أو وضعهم القانوني. هذا الأمر يحمل خطورة مضاعفة لأنه يتم تحت غطاء “إجراءات رسمية”، في حين أن الجهة التي نفّذت الاستدعاء هي نفسها التي تنكر لاحقاً وجود المحتجز.

في 15 كانون الثاني/يناير 2025، تمّ استدعاء موظف مدني في معمل الحديد في حسياء إلى “فرع الجنائية” في حمص، يعاني من إعاقة حركية مثبتة ببطاقة رسمية. تحدثت “سوريون” مع قريبته “سارة” والتي كانت على اطلاع مباشر على مجريات ما حدث:

“تم توقيفه من قبل الأمن العام في محافظة حمص، بعد استدعائه إلى الأمن الجنائي بحجة التحقيق وسؤال وجواب، ومنذ تلك اللحظة انقطعت أخباره تماماً، دون وجود أي مذكرة توقيف صادرة بحقه أو توجيه تهمة رسمية إليه.”

وتضيف:

“رغم أن عدداً من الأشخاص العاملين في الجهاز الأمني أكدوا لعائلته أنه محتجز في السجن المركزي في حمص، فقد تم نفي وجوده من قبل العاملين في السجن. وعند الاستفسار مجدداً، أُبلغت العائلة بعدم إمكانية رؤيته إلا بعد توكيل محامٍ.”

أما مدير المعمل الذي أوقف معه، فقد أُفرج عنه لاحقاً. تقول سارة:

“لقد سمعنا لاحقاً بأن مبالغ طائلة تم دفعها لتسهيل إطلاق سراح المدير نظراً لانتمائه إلى عائلة معروفة وذات نفوذ، بينما بقي الموظف المتواضع مغيّباً حتى هذه اللحظة، ولا يعلم أحد إن كان لا يزال على قيد الحياة أم لا.”

وفي قضية أكثر تعقيداً، لم تلجأ السلطات إلى النفي التام، بل أصدرت بعد أسابيع بيانات إعلامية أعلنت فيها عن توقيف شخصين. غير أنّ هذه البيانات لم تتضمّن أي معلومات أساسية عن مكان الاحتجاز أو تاريخه، كما لم تُمكّن الأسر من التواصل مع أبنائها أو توكيل محامين لهم. وبذلك يبقى جوهر الجريمة قائماً، إذ لا يكفي الإعلان الإعلامي لرفع صفة الاختفاء القسري ما لم يقترن بالشفافية الكاملة والضمانات القانونية. ويزداد الوضع إشكالية عندما تكون العائلات قد راجعت بالفعل المخافر والفروع الأمنية والسجون في المحافظة التي جرى فيها التوقيف، ولم يعترف أي منها بوجود الشخص لديها. عندها يبدو الإعلان الإعلامي وكأنه مجرد وسيلة دعائية، لأنه لا يجيب على السؤال الأساسي للعائلات: أين هو الشخص الموقوف، وهل يتمتع بحقوقه القانونية؟ وبدل أن يخفف معاناة الأسر، يضاعف قلقها من احتمال حرمان أحبائها من المحاكمة العادلة.

في 14 تموز/يوليو 2025، تلقّى “منذر علي عيسى” (مدني من قرية من قرية دير حباش في طرطوس) اتصالاً من شخص يعرفه طلب منه الحضور على وجه السرعة إلى منطقة النقيب. ذهب منذر للقائه، ومنذ تلك اللحظة انقطعت أخباره. يروي “رامي” أحد المقربين من منذر لـ”سوريون”:

“كان منذر مع زوجته في نزهة على الكورنيش حين اتصل به شخص يُدعى علي وطلب أن يراه فوراً. ذهب وقال أنه سيعود للبيت بعد قليل… لكن الاتصال معه انقطع، ومنذ ذلك اليوم لم تعرف أسرته شيئاً عن مكانه.”

بقيت العائلة تبحث في جميع المخافر والفروع الأمنية في طرطوس دون جدوى، حتى انتشرت بعد أسابيع أخبار على وسائل التواصل الاجتماعي عن توقيفه بتهمة محاولة تفجير كنيسة في الخريبات، صافيتا. يقول المصدر:

“تفاجأنا يوم 6 آب/أغسطس 2025 بأن وسائل التواصل تتداول صورة منذر مع خبر إلقاء القبض عليه من قبل الأمن العام. منذ اختفائه وحتى اليوم تسأل عائلته عنه في كل المخافر والفروع، لكن لا أثر له.”[1]

وبحسب رامي، تقدّمت العائلة بطلب رسمي لزيارته في سجن طرطوس المركزي أملأ أن يكون هناك، لكن جاءها الرد بعدم وجود اسمه في سجلات السجن. تبرز هذه الواقعة إشكالية خاصة في ممارسات السلطات؛ فحتى بعد صدور بيان من وزارة الداخلية وانتشار خبر توقيف المواطن على وسائل الإعلام ومواقع التواصل، لم يتم إبلاغ أسرته بالطرق القانونية الواجبة، ولم يُكشف لها عن مكان احتجازه، ولم يُسمح لها بالتواصل معه أو توكيل محامٍ. وبذلك ظلّت حالة الاختفاء القسري قائمة، إذ إن مجرّد إصدار بيان إعلامي لا يعفي السلطات من التزاماتها الجوهرية في تمكين الأسرة من الحصول على معلومات رسمية ودقيقة وضمان حقوق المحتجز الأساسية. كما أن غياب التواصل مع الأسرة وحرمانه من الاستعانة بمحامٍ يثير مخاوف جدية بشأن تعرضه لانتهاكات أخرى، بما فيها الحرمان من الحق في محاكمة عادلة وفق المعايير الدولية.

في رواية أحد الأهالي ممن قابلتهم “سوريون” للتحدث عن قضية أخرى وقعت يوم 16 كانون الثاني/يناير 2025، حيث تحول مخفر الرستن من مكان يفترض أن يحمي المواطنين إلى نقطة اختفاء، تروي “فاتن” (49 عاماً، من حمص) قصة ابنها علاء الذي أوقف من دون مذكرة قضائية أو تهمة واضحة:

“تم اعتقال ابني، علاء، من قبل عناصر مخفر الرستن، دون أي مذكرة توقيف أو تهمة رسمية، وذلك في أعقاب نزاع قديم بين عائلتي وأحد الجيران في غور العاصي.”

وبحسب الشاهدة، رافق علاء عمته إلى المخفر لتقديم إفادتها في شكوى عائلية، لكن أثناء مغادرتهما، تدخّل أحد أفراد العائلة الخصمة وقدّم بلاغاً اتهم فيه علاء زوراً بموالاته لنظام الأسد:

“اتهموه أنه فلول نظام، دون أي دليل مادي أو سجل جنائي ضده.”

منذ ذلك اليوم، لم تعد العائلة تعرف شيئاً عن مصيره. تقول فاتن:

“راجعنا عدة سجون، منها سجن حمص وسجن حماة ومخفر الرستن، دون أن نحصل على أي معلومة رسمية عن مكان احتجازه أو وضعه القانوني.”

انتشرت لاحقاً شائعات عن نقله إلى سجن إدلب المركزي، ولكن لم تتمكن العائلة من التأكد من صحتها، وكانت قد سمعت سابقاً أنه محتجز في السجن المركزي في حمص، لكن تبيّن أن ذلك غير صحيح، ما ضاعف حالة القلق واللا يقين لدى العائلة.

7. اختفاء في قلب المدينة: من قلب المدينة إلى المجهول:

في 7 آذار/مارس 2025، وأثناء المجازر التي شهدتها مناطق الساحل، تحوّل شارع رئيسي في مدينة اللاذقية إلى مسرح اختفاء علني. يروي “سمير” من اللاذقية، قصة قريبه “جهاد” (44 عاماً) وهو شرطي أنهى خدمته وأجرى تسوية بعد سقوط النظام ثم اختفى بتهمة استخدام هاتفه الجوال للتصوير:

“كان جهاد يتكلم على الهاتف قرب ساحة تشرين، فجأة جاء عناصر من الفصائل وقاموا باعتقاله بتهمة قيامه بالتصوير.”

منذ لحظة الاعتقال، انقطعت أخباره رغم بحث العائلة المستمر:

“سألنا عنه كل الأفرع الأمنية والأقسام في اللاذقية، لكن أخبرونا بأنه ليس لديهم.”

بعد ثلاثة أيام من اختفائه، سلّم أحد عناصر الأمن العام هاتف جهاد لشقيقه دون أي تفسير، ما عمّق الشكوك لدى الأسرة. ورغم أن العائلة تواصلت مع قيادات الشرطة والسجون، إلا أنها لم تحصل على أي معلومة رسمية عن مصير جهاد.

إن وقوع الحادثة في مكان عام، وفي سياق مجازر واسعة شهدها الساحل، يبرز مدى العلنية التي تمت بها الممارسة وخطورة الرسالة التي تحملها: أن الاعتقال التعسفي والاخفاء القسري يمكن أن يحدثا في أي لحظة ومن أي مكان دون أن تترتب عليه مساءلة أو إجراءات قانونية.

وفي شهادة أخرى، وثقت “سوريون” اختفاء “أيهم” (36 عاماً، من مدينة السلمية) بتاريخ 8 كانون الأول/ديسمبر 2025، وهو اليوم الذي شهد سقوط النظام. يروي “أمين”، قريب الضحية:

“كان أيهم يؤدي خدمته العسكرية في حمص. وكان آخر اتصال معه يوم سقوط النظام، وبعدها لم نعرف عنه شيئاً.”

منذ اختفائه، سعت العائلة بكل الوسائل لمعرفة مصيره. يقول أمين:

“قام الأمن العام بإبلاغنا أنه محتجز في سجن عدرا، لكن عندما ذهبنا إلى السجن لم نعثر له على أي أثر، ولم يتم تأكيد وجوده رسمياً.”

مرّ أكثر من ثمانية أشهر على غياب أيهم، دون أن تحصل الأسرة على أي توضيح رسمي أو تأكيد حول مكان احتجازه. وتجدر الإشارة هنا أنه وإن كان أيهم يؤدي خدمته العسكرية في صفوف النظام السابق، فهذا لا يبرر إخفاءه قسراً أو حرمانه من حقوقه الأساسية. فالأسر تبقى لها الحق في معرفة الحقيقة عن مصير أحبائها، والضحايا أنفسهم لهم الحق في محاكمة عادلة وفق المعايير الدولية. إن اللجوء إلى الإخفاء والانتقام بدل المحاسبة العادلة لا يؤدي إلا إلى إعادة إنتاج دوامة العنف، بينما يشكّل الالتزام بالمساءلة القانونية السبيل لبناء سلام حقيقي ومستدام.

8. تقارير دولية حول استمرار الخطف والاختفاء القسري بعد سقوط النظام:

إلى جانب الشهادات التي يوثقها هذا التقرير، وثّقت هيئات أممية في عام 2025 وقوع عمليات اختطاف واختفاء واسعة، ما يعكس اتساع نطاق الظاهرة وخطورتها.

فبحسب بيان لجنة خبراء الأمم المتحدة حول “الهجمات المسلحة على المجتمعات الدرزية في محافظة السويداء وما حولها منذ 13 تموز/يوليو 2025″، فقد تعرض للخطف “ما لا يقل عن 105 امرأة وفتاة درزية على أيدي جماعات مسلحة تابعة للسلطات السورية المؤقتة ، وما زال 80 منهن مفقودات“. كما نص البيان على فقدان 763 شخصاً حتى تاريخ إصداره في 21 آب/أغسطس 2025.

أما تقرير لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا حول أحداث الساحل في آذار/مارس 2025، فقد أشار إلى أنها أعمال عنف منهجية وواسعة النطاق، شملت الاختطاف والاختفاء القسري. تلقت اللجنة تقارير موثوقة حول “اختطاف عشرات النساء العلويات”، وهو ما أكدته تقارير أخرى، منها تقرير لجنة خبراء الأمم المتحدة الصادر في 23 تموز/يوليو 2025 الذي وثّق خطف 38 امرأة من الطائفة العلوية. كما رصد التقرير أنماطاً من الانتهاكات القائمة على النوع الاجتماعي في ظل غياب استجابة فعّالة من الحكومة الانتقالية.[2]

تشير هذه التقارير إلى أن جريمة الاختفاء القسري لم تتوقف مع سقوط النظام السابق، بل استمرت على يد جهات مختلفة منها القوى الأمنية والجماعات المسلحة المرتبطة بالحكومة الجديدة.

9. الإطار القانوني للاختفاء القسري: الفجوة بين النصوص والواقع:

9.1. المستوى الدولي:

يُعرّف القانون الدولي الاختفاء القسري باعتباره جريمة مركّبة تنطوي على حرمان الشخص من حريته على أيدي سلطات الدولة أو جماعات تعمل بموافقتها أو دعمها، ثم رفض الاعتراف بهذا الحرمان أو إخفاء مصيره أو مكان وجوده، بما يضع الضحية خارج حماية القانون. وقد كرّست الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري (2006) هذا التعريف، وأكدت على ان فترة التقادم على هذه الجريمة تبدأ عند نهاية الاختفاء القسري، نظراً للطابع المستمر لها، حتى أن اللجنة المعنية بحقوق الانسان قد أكدت على أن من واجب الدول حماية الأفراد من الاختطاف او الاحتجاز من قبل المجرمين الأفراد أو المجموعات غير النظامية، بما في ذلك الجماعات المسلحة أو الإرهابية، الناشطة داخل اقاليمها، إذاً، واجب الدولة ليس فقط سلبياً بأن تمتنع هي عن ممارسة الاختفاء القسري، بل هو إيجابي أيضاً، ويتمثل في حماية الأشخاص الموجودين على اقليمها من الاحتجاز التعسفي أو الاختفاء القسري.

فيما نصّ نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية على أن الاختفاء القسري يُشكّل جريمة ضد الإنسانية متى ارتُكب على نطاق واسع أو بطريقة ممنهجة. وتجدر الإشارة إلى أن سوريا لم توقّع على الاتفاقية الدولية المذكورة، كما أنها ليست طرفاً في نظام روما الأساسي، الأمر الذي يفاقم من فجوة الحماية القانونية ويزيد من أهمية التزامات الحكومة الانتقالية بالتصديق على هذه الصكوك الدولية والانضمام إليها.

وبحسب اللجنة المعنية بحقوق الإنسان، يشكّل الاختفاء القسري تهديداً خطيراً للحياة، إذ يحرم الضحية من حماية القانون ويُعرضه لخطر جسيم ودائم. وهو ما يشكل انتهاكاً مباشراً للحق في الحياة (المادة 6 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية)، والحق في الحرية والأمان الشخصي (المادة 9)، والحق في الاعتراف بالشخص أمام القانون (المادة 16).

إضافة إلى ما ذكر، فإن من حق ضحايا الاختفاء القسري ومن حق أحبائهم معرفة مكان الاحتجاز وسببه، وهو ما يندرج تحت بند الحق في معرفة الحقيقة، وقد خلصت دراسة أجرتها مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان في عام 2006 إلى أن الحق في معرفة الحقيقة بشأن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والانتهاكات الخطيرة لقانون حقوق الإنسان هو حق غير قابل للتصرف ومستقل، ويرتبط بواجب الدولة بحماية وضمان حقوق الإنسان وإجراء تحقيقات فعالة وضمان الانتصاف والتعويض الفعالين.

اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في حزيران/يونيو 2023 قراراً بإنشاء المؤسسة الدولية المستقلة المعنية بالمفقودين في سوريا (IIMP)، كآلية دولية تهدف إلى توحيد الجهود لكشف الحقيقة وضمان حق العائلات في معرفة مصير أحبائها. ويضع ذلك على عاتق الحكومة الانتقالية مسؤولية مضاعفة: مواءمة تشريعاتها مع الاتفاقيات الدولية، والتعاون الجاد مع هذه المؤسسة والآليات الأممية ذات الصلة والسماح لها بالوصول الفوري لجميع أراضي الجهورية، بما يعكس التزامها بمنع تكرار الجريمة.

9.2. المستوى الوطني:

حمّل الإعلان الدستوري الصادر بعد سقوط النظام السابق تقدّماً نوعياً من خلال النص في مادته (18) على حظر الاختفاء القسري والتعذيب وتجريم هذه الأفعال وعدم سقوطها بالتقادم.

عدا عن ذلك، لم يسنّ المشرّع السوري أي نص خاص يتعلق بالاختفاء القسري، باستثناء المادتين 555-556 من قانون العقوبات السوري اللتين جرمتا حجز الحرية بدون وجه حقّ وشددتا العقوبة اذا ما تجاوزت مدة الحرمان من الحرية الشهر أو ترافق حجز الحرية مع تعذيب جسدي أو معنوي أو إذا وقع الجرم على موظف، وكذلك المرسوم التشريعي رقم 20 لعام 2013 الذي نص على أن “كل من خطف شخصاً حارماً إياه من حريته بقصد تحقيق مأرب سياسي أو مادي أو بقصد الثأر أو الانتقام أو لأسباب طائفية أو بقصد طلب الفدية يعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة”، ولم يتم ذكر الاختفاء القسري كجريمة قائمة بذاتها.

كذلك اكتفى قانون الأحوال الشخصية السوري بذكر تعريف المفقود وكيفية تنصيب وكيل قضائي عنه وشروط الحكم بوفاته، دون أن يعالج الجريمة بحد ذاتها. إضافة إلى ذلك، لا توجد آليات رسمية متبعة أو جهات حكومية خاصة مسؤولة عن البحث عن المفقودين/ات وعن تقديم المعلومات لذويهم مع غياب النص الصريح الذي يوجب عدم إنكار الحرمان من الحرية أو رفض الإبلاغ عن مكان أو مصير الشخص المحتجز.

أضف إلى ما سبق، عدم تفعيل نص المادة 425 من قانون أصول المحاكمات الجزائية السوري التي تلزم النائب العام او قاضي التحقيق أو قاضي الصلح (حسب الحال) بالتوجه إلى المكان الحاصل فيه التوقيف أو الاحتجاز، وإطلاق سراح الموقوف بصورة غير قانونية. أما إذا تبين له وجود سبب موجب للتوقيف أرسل الموقوف في الحال إلى النائب العام او قاضي الصلح المختص، وكذلك المادة 422 التي تلزم قضاة التحقيق والصلح ورؤساء المحاكم الجزائية بتفقد الأشخاص الموجودين في محال التوقيف والسجون بشكل دوري.

كما أن المرسوم 55 لعام 2011، الذي أتاح للضابطة العدلية أو المفوضين بمهامها احتجاز المشتبه بهم لفترات تصل إلى ستين يوماً، أسهم في شرعنة ممارسات الإخفاء بدل ردعها. وبحسب المادة 51 من الإعلان الدستوري فإن هذا المرسوم لا يزال ساري المفعول في سوريا كونه لم يصدر أي مرسوم او قانون يشير إلى الغائه او وقف العمل به، ومع غياب أي نصوص جزائية واضحة تُعرّف الاختفاء القسري كجريمة قائمة بذاتها يبقى الباب مفتوحاً أمام استمرار الانتهاكات دون مساءلة.

وفي أيار/مايو 2025، أصدرت السلطات الانتقالية المرسوم التشريعي رقم 19 القاضي بإنشاء هيئة وطنية معنية بكشف مصير المفقودين والمخفيين قسراً. مثلت هذه الخطوة إقراراً رسمياً بحجم الجريمة وضرورة معالجتها، لكنها تبقى مرهونة بمدى استقلالية اللجنة وصلاحياتها الفعلية للوصول إلى الأرشيفات الأمنية وضمان مشاركة الضحايا وذويهم في عملها، ومدى اتساع ولاية عملها لتشمل جميع الحالات من باقي أطراف النزاع، و/أو تلك الحالات التي وقعت بعد سقوط النظام السوري.

10. التوصيات:

تبين الحالات الموثقة في هذا التقرير أن جريمة الاختفاء القسري لا تزال قائمة في سوريا، رغم النصوص القانونية التي تحظرها. ومن أجل مواجهة هذه الظاهرة وضمان حقوق الضحايا وأسرهم، توصي “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” بما يلي:

10.1. إلى الحكومة السورية الانتقالية/المؤقتة:
  • فتح تحقيقات مستقلة وفورية في جميع حالات الاختفاء القسري الموثقة بعد كانون الأول/ديسمبر 2024، بما يشمل التحقيق مع العناصر والمسؤولين المباشرين عن التوقيفات غير القانونية ومحاسبتهم.
  • تمكين الهيئة الوطنية المعنية بكشف مصير المفقودين والمخفيين قسراً (المرسوم رقم 19 لعام 2025) من العمل باستقلالية كاملة، وضمان أن تشمل صلاحياتها معرفة مصير جميع المفقودين حتى أولئك المفقودين بعد تاريخ سقوط الأسد، وتمكينها من الوصول إلى الأرشيفات الأمنية وأماكن الاحتجاز الرسمية وغير الرسمية.
  • المصادقة على الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، والانضمام إلى نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
  • إدراج جريمة الاختفاء القسري كجريمة قائمة بذاتها في قانون العقوبات، وإلغاء النصوص التي تسمح بالاحتجاز لفترات مطوّلة دون رقابة قضائية، وتفعيل نص المادتين 422-425 من قانون أصول المحاكمات الجزائية.
  • ضمان الحقوق الأساسية للمحتجزين وفقاً للمعايير الدولية، بما في ذلك الاتصال الفوري بأسرهم، وتوكيل محامين، وتقديمهم إلى القضاء خلال مهلة زمنية معقولة.
10.2. إلى المجتمع الدولي والآليات الأممية:
  • دعم عمل المؤسسة الدولية المستقلة المعنية بالمفقودين في سوريا (IIMP) وضمان تعاون الحكومة الانتقالية معها، والضغط على الحكومة السورية للسماح للمؤسسة للعمل في جميع الأراضي السورية بدون قيود.
  • ممارسة ضغوط دبلوماسية لضمان التزام السلطات السورية بالكشف عن مصير المختفين، وتنفيذ الالتزامات المطلوبة منها وفقا للعهود والمواثيق الدولية.
  • تقديم الدعم الفني والمالي للمنظمات السورية العاملة على توثيق الاختفاء القسري وتمكين الضحايا وذويهم من الوصول إلى العدالة.

[1] يؤكد الشاهد أن واقعة الاختفاء جرت بتاريخ 14 تموز/يوليو 2025، بينما ورد في البيان الصادر عن الكنيسة أن توقيف الشابين المتهمين وقع بتاريخ 13 تموز/يوليو 2025. أما بيان وزارة الداخلية بتاريخ 6 آب/أغسطس 2025، فقد اكتفى بالإعلان عن التوقيف دون تحديد تاريخه.

[2] كذلك نشرت وكالة “رويترز” تحقيقاً خاصاً وثق خطف 33 امرأة، وأصدرت منظمة العفو الدولية تقريراً أشارت فيه إلى تلقي المنظمة “تقارير موثوقة تفيد باختطاف ما لا يقل عن 36 امرأة وفتاة علويات، في مختلف أنحاء محافظات اللاذقية، وطرطوس، وحمص، وحماة”. أدان التقرير ما وصفه بـ”تقاعس السلطات عن التحقيق الفعال” وعدم أخذها بلاغات الأهالي على محمل الجد.

المصدر: سوريون من أجل الحقيقة والعدالة

Scroll to Top