الخميس, يناير 30, 2025

أكراد سوريا: بين الهوية المهددة والمستقبل المجهول

أزاد خليل

كاتب وباحث سياسي

يشكل الكورد أحد أكبر القوميات العرقية في الشرق الأوسط، من دون دولة موحدة تجمعهم إذ يتوزعون بين تركيا وإيران والعراق وسوريا، مع وجودهم التاريخي الراسخ في المناطق الشمالية الشرقية من سوريا. يقدر عدد الكورد في سوريا بأكثر من 4 ملايين نسمة، يشكلون نحو 15% من السكان. على الرغم من وجودهم القديم وأعدادهم الكبيرة، إلا أن الكورد عانوا من تهميش واسع النطاق عبر سياسات قمعية، عنصرية استهدفت هويتهم الثقافية واللغوية، وأجبرتهم على العيش بين مطرقة التهميش وسندان الاضطهاد.

يُعد الكورد من أبرز الشعوب التي حرمتها الاتفاقيات الدولية، خاصة اتفاقية سايكس بيكو (1916) ومعاهدة لوزان (1923)، من تحقيق حلمهم التاريخي في إقامة وطن يجمع شتاتهم. في سوريا تحديدًا، تعرض الكورد على مدى عقود لسياسات منظمة هدفت إلى طمس هويتهم، وتجريدهم من حقوقهم الثقافية والسياسية والاقتصادية، مما جعلهم يعيشون في حالة من القلق المستمر بشأن مصيرهم ومستقبلهم.

تاريخ طويل من التهميش
على الرغم من أن الكورد كانوا جزءًا أساسيًا من النسيج السوري منذ عصور قديمة، إلا أن الحكومات المتعاقبة لم تعترف بهويتهم الوطنية. بدأ التهميش الفعلي للكورد يتبلور بشكل ممنهج في منتصف القرن العشرين مع ظهور سياسات تهدف إلى نزع صفة “الأصالة” عن وجودهم في شمال وشرق سوريا.

1. الحزام العربي:
في ستينيات القرن العشرين، وتحديدًا عام 1962، نفذت الحكومة السورية مشروع “الحزام العربي”، الذي كان يهدف إلى تغيير التركيبة الديمغرافية للمناطق ذات الأغلبية الكردية. شمل هذا المشروع تهجير عشرات آلالاف من العائلات الكوردية من أراضيها، وتوطين عشائر عربية مكانها، في خطوة واضحة لتغيير الهوية العرقية لتلك المناطق. امتد الحزام العربي على طول الحدود الشمالية مع تركيا، حيث فُرضت قيود مشددة على الكورد، وأُجبروا على التخلي عن أراضيهم التاريخية.

2. تعريب أسماء المدن والقرى الكوردية:
ضمن سياسات طمس الهوية، عمدت الحكومات إلى تعريب أسماء المدن والقرى الكردية في شمال سوريا. تحولت أسماء مثل “قامشلو” إلى “القامشلي”، و”ديريك” إلى “المالكية”، وكوباني الى عين العرب في محاولة لإلغاء أي دلالة على الوجود الكوردي .

3. الإحصاء السكاني الجائر:
عام 1962، أجرى النظام السوري إحصاءً استثنائيًا في محافظة الحسكة، أدى إلى تجريد أكثر من 120 ألف كوردي من الجنسية السورية، ووضعهم في خانة “الأجانب”. ترك هذا القرار الكورد دون حقوق أساسية مثل التعليم، العمل، والملكية، مما دفعهم إلى العيش في ظروف صعبة على مدى عقود.

الهوية الكوردية : بين التهديد والمقاومة
تُعد الهوية الكوردية مزيجًا غنيًا من اللغة، والثقافة، والعادات، والتقاليد التي تعرضت لضغوط مستمرة من الأنظمة القمعية.

1. اللغة الكوردية:
تُعتبر اللغة الكوردية ركيزة أساسية للهوية الكوردية. ومع ذلك، واجه الكورد في سوريا حظرًا رسميًا على تعليمها واستخدامها في الأماكن العامة. لُقنت الأجيال الكوردية المناهج باللغة العربية فقط، في حين حُرمت اللغة الكوردية من الاعتراف بها رسميًا.

2. الثقافة والتقاليد:
حاول الكورد الحفاظ على تقاليدهم الغنية، بما في ذلك الاحتفال بـ”عيد نوروز”، الذي يُعد رمزًا للمقاومة والحرية. ومع ذلك، كانت هذه الاحتفالات تُقابل غالبًا بالقمع الحكومي.

3. الدين والتنوع:
معظم الكورد في سوريا مسلمون سُنّة، لكن هناك أيضًا أقليات يزيدية ومسيحية. على الرغم من التنوع الديني، إلا أن الكورد تمكنوا من الحفاظ على تماسكهم المجتمعي في وجه السياسات التمييزية.

دور الكرد في الثورة السورية
عند اندلاع الثورة السورية عام 2011، وجد الكورد أنفسهم أمام خيار معقد بين المشاركة في الثورة ضد النظام السوري، أو التركيز على قضاياهم القومية. اختار الشعب الكوردي الانخراط في الحراك الثوري، مطالبين بالحرية والكرامة.
وشاركوا في أولى التجمعات والكتل السياسية التي كانت تناهض نظام حزب البعث الحاكم ومنها

المجلس الوطني السوري الذي كان أول تجمع لقوى الثورة السورية والذي كان يضم ويمثل قوى وفعاليات الثورة السورية

1. عسكرة الحراك الكوردي:
مع تحول الثورة إلى صراع مسلح، شكل الكورد وحدات عسكرية لحماية مناطقهم، وأبرزها وحدات حماية الشعب (YPG). لعبت هذه الوحدات دورًا بارزًا في محاربة تنظيم “داعش” وتحرير مناطق واسعة من قبضته، ودفعوا نتيجة ذلك لأكثر من 12500. شهيد من أجل أن تبقى المناطق والقرى والبلدات التي خرج منها النظام السوري مناطق للعيش المشترك والسلام الدائم ما أكسب الكورد احترامًا دوليًا، لكنه أثار غضب تركيا التي رأت في هذه القوات تهديدًا لأمنها القومي.

2. الإدارة الذاتية:
مع انسحاب النظام السوري من بعض المناطق ذات الأغلبية الكوردية، أعلن الكورد مع المكونات الأخرى (عرب -سريان -أشوريين -أرمن ) الى إقامة إدارة ذاتية ديمقراطية في شمال وشرق سوريا. تضمنت هذه الإدارة محاولات لبناء نظام حكم قائم على التعددية والمساواة، لكنها واجهت تحديات سياسية واقتصادية كبيرة.

التحديات المستمرة
رغم الإنجازات التي حققها الكورد في سوريا، إلا أنهم يواجهون تحديات معقدة تهدد مستقبلهم:

1. التهديدات الإقليمية:
تتعرض المناطق الكوردية في شمال سوريا لتهديدات مستمرة من تركيا، التي شنت عدة عمليات عسكرية بذريعة محاربة الإرهاب. تسببت هذه العمليات في نزوح عشرات الآلاف من السكان الكورد وتدمير البنية التحتية.

2. التقسيم الداخلي:
يعاني المجتمع الكوردي من انقسامات داخلية بين القوى السياسية المختلفة، مما يضعف موقفهم التفاوضي ويعرقل تحقيق أهدافهم الوطنية.

3. الأوضاع الاقتصادية:
تعاني المناطق الكوردية من نقص الموارد والضغوط الاقتصادية، مما يجعلها تعتمد بشكل كبير على المساعدات الدولية.

المستقبل: أمل محفوف بالمخاطر
مستقبل الكورد في سوريا يظل مرتبطًا بالحل النهائي للأزمة السورية. إذا تحقق حل سياسي شامل يعترف بحقوق الكورد الكاملة في الدستور فقد يكون ذلك بداية جديدة للنضال والكفاح الكوردي في سوريا لكن
مع ذلك، فإن التهديدات المستمرة من القوى الإقليمية والانقسامات الداخلية تجعل هذا المستقبل محفوفًا بالمخاطر.

ختامًا
يمثل الكورد في سوريا نموذجًا لمعاناة الأقليات التي سُلبت حقوقها بسبب سياسات التهميش والاضطهاد. لكنهم، في الوقت نفسه، يشكلون رمزًا للصمود والتحدي. إن مصير الكورد في سوريا ليس مجرد قضية محلية، بل هو جزء من معضلة أكبر تتعلق بحقوق الإنسان والعدالة في الشرق الأوسط.

يبقى السؤال: هل ستتمكن القوى الدولية والإقليمية من تجاوز مصالحها الضيقة لدعم قضية عادلة؟ أم أن الكورد سيبقون عالقين في دوامة الصراعات الإقليمية؟

الإجابة على هذا السؤال ستحدد ما إذا كان الكورد سيستطيعون بناء مستقبل يليق بتاريخهم الغني ونضالهم المستمر.

شارك هذه المقالة على المنصات التالية