الإثنين, يوليو 8, 2024

أنقرة ودمشق؛ نحو جولة جديدة من مباحثات التطبيع… الأهداف والتداعيات والتحديات

آراء

بعد أن كشف رئيس الوزراء العراقي محمد شيّاع السوداني، بداية شهر يونيو/حزيران 2024، أنّ حكومته تجري اتّصالاتها وتحرّكاتها لإعادة إحياء ملفّ التطبيع بين أنقرة ودمشق، صدرت العديد من التّصريحات من قبل الرّئيسين التّركي والسّوري والتي يبديان فيها الانفتاح على مبادرات التطبيع، لتؤكّد مؤخّراً صحيفة «الوطن» السّورية الرّسمية أنّ اجتماع بغداد “سيكون خطوة البداية في عملية تفاوض طويلة قد تفضي إلى تفاهمات سياسية وميدانية”، مع الإشارة إلى أنّ الجانب التّركي كان قد طلب من موسكو وبغداد “أن يجلس على طاولة حوار ثنائية مع الجانب السّوري، من دون طرف ثالث، وبعيداً عن الإعلام”.

تأتي الجولة الجديدة المرتقبة في ظروف مختلفة بعض الشّيء عن الجولات السّابقة؛ نظراً لتغيّر بعض الأحداث كفوز أردوغان في الانتخابات الرئاسية وبقائه في السّلطة، وعودة دمشق إلى الجامعة العربية وعودة سفراء بعض الدّول العربية وآخرها السّعودية إلى دمشق؛ بالإضافة إلى تداعيات حرب غزّة، الأمر الّذي سيكون له انعكاسات على الجولة الجديدة لمباحثات التطبيع، ويبدو من مرونة تصريحات دمشق وأنقرة، أنّ كلتيهما بحاجة إلى هذه المباحثات ما قد يفرض عليهما تقديم بعض التّنازلات للوصول إلى صيغة توافقية، إلّا أنّ الأمر لن يخلو من الصعوبات والعقبات نتيجة عمق الملفات الخلافية بين الطرفين.

فما هي المتغيّراتُ الجديدة التي دفعت لإحياء مسار التطبيع في هذا التّوقيت؟ وما هي أوراق القوة والضعف التي تمتلكها كلّ من أنقرة ودمشق في الوقت الراهن؟ وما هي أبرز المواقف الإقليمية والدّولية من عودة مباحثات التطبيع؟ وما فرص نجاح هذه الجولة الجديدة وأبرز تحدياتها؟ وما الانعكاسات المحتملة في حال نجاح التطبيع على الإدارة الذّاتية لإقليم شمال وشرق سوريا والمعارضة السّورية المدعومة من تركيا؟

مرونة في مواقف دمشق وأنقرة

عاد الحديث عن التطبيع بين أنقرة ودمشق من بوابة بغداد هذه المرة بعد فشل المحاولات السابقة الّتي كانت تقودها روسيا وإيران، و تزايدت بعدها التّصريحات من قبل الجّانبين التّركي والسّوري حول الاستعداد للحوار، مع ملاحظة انخفاض حدّة الخطاب والشّروط الّتي كان الجّانبان يضعانها قبل المباحثات السابقة، فيما يتحدث بعض السّياسيين السّوريين بأنّ “شروط دمشق لانسحاب أنقرة من شمالي سوريا تراجعت إلى قبول الحكومة بـ ”إقرار شفهي” من قبل تركيا للانسحاب حتى تبدأ اللّقاءات”. ويبدو أنّ هذه الرؤية تم استنتاجها من تصريحات وزير الخارجية فيصل المقداد في مؤتمر صحفي في 4 حزيران/ يونيو 2024 حيث قال: “نريد أن نرى تعهّدات تركية دقيقة تعكس التزام تركيا بالانسحاب من أراضينا الّتي تحتلّها ووقف دعمها التنظيمات الإرهابية.” ما يعني أنّ الجّانبين يبديان الاستعداد لخوض المباحثات هذه المرّة بدون شروط مسبقة، وأنّ الحديث عن الانسحاب التّركي سيجري الحديث عنه بعد بدء جولات المباحثات وليس قبلها.

وهذا ما عبّر عنه الرّئيس السّوري بشّار الأسد خلال لقائه بالمبعوث الخاص للرئيس الروسي ألكسندر لافرنتييف بتاريخ 26 يونيو 2024، حين أكّد “انفتاح سورية على جميع المبادرات المرتبطة بالعلاقة بين سورية وتركيا والمستندة إلى سيادة الدّولة السّورية على كامل أراضيها من جهة، ومحاربة كل أشكال الإرهاب وتنظيماته من جهة أخرى”. ورغم أنّ الشّروط السّورية حاضرة في هذه التّصريحات إلّا أنّ التّغيير في صياغتها، والحديث عن السّيادة السّورية بدلاً من المطالبة بالانسحاب التّركي، يشير بأنّ دمشق تعطي الضّوء الأخضر لبغداد وروسيا لاستكمال الجولة الجديدة من الحوار مع تركيا.

وفي المقابل بدت تصريحات الرّئيس التّركي رجب طيب أردوغان أكثر مرونة حيث إنّه “لا يستبعد احتمال عقد اجتماع مع نظيره السّوري بشّار الأسد في مسعى لاستعادة العلاقات الثنائية بين البلدين”. ما يعكس رغبة تركيا الملحّة لخوض مباحثات التطبيع مرّة أخرى مع دمشق.

ما هي دوافع الطرفين لإبداء المرونة هذه المرّة؟

بالنّسبة لدمشق: يبدو أنّ دوافع دمشق في إبداء المرونة للانفتاح على مبادرات التطبيع الّتي أطلقتها بغداد بدعم من الدّول الخليجية مرتبطة بالظّروف الاقتصادية الخانقة الّتي تعصف بسوريا، وبالضغوط العربية والروسية والأمريكية الّتي تطالب الأسد بالتحرك نحو حل الأزمة السّورية عبر الحوار ووفق القرار الأممي 2254، كما أنّ تعليق أمريكا قانون مناهضة التطبيع مع دمشق الّذي يعدّ امتداداً لقانون قيصر الحالي الذي سينتهي العمل به نهاية 2024، هو بمثابة رسالة إلى النّظام تمنحه فرصة جديدة للتّعاون مع الدّول العربية وإبداء الجدّية في التّحرك نحو الحوار وحل الأزمة السّورية عبر المفاوضات وفي إطار القرار الأممي 2254، و هذه فرصة للنّظام كي يثبت أنّه يتحرك فعليّاً نحو الحل السّياسي قبل نهاية العام الجاري وذلك لضمان عدم تمديد عقوبات قانون قيصر أو إقرار قانون مناهضة التطبيع.

ومن الملاحظ أنّ النّظام السّوري بات يتحرك –ولو شكلياً- في إطار المبادرة العربية (خطوة بخطوة) وفي سياق القرار الأممي -ولو بشكل جزئي- تجلّى ذلك من خلال العديد من القرارات والتّغييرات الّتي أجراها الرّئيس السّوري مؤخّراً في البلاد، وكان آخرها الحديث عن قرارات لإحداث تغييرات جذرية في الجّيش السّوري، كتغيير نظام التجنيد الإجباري وتسريح الآلاف من الجّنود، وإعفاء المطلوبين من الخدمة الاحتياطية، والسّعي لتحويل الجّيش السّوري إلى جيش تطوّعي، وهذه القرارات تشير بأنّها تمهيد لفتح الباب أمام عودة اللاجئين السّوريين وخاصّة شريحة الشّباب دون خوف من الملاحقة؛ بالإضافة إلى أنّ النّظام يسعى لإرضاء الدّول العربية، وإحداث تغييرات على بعض القوانين الأمنية، وفتح المجال أمام شريحة جديدة وخاصّة الشّباب للترشّح لانتخابات مجلس الشّعب، والإعلان كل فترة عن حملات “لضبط تهريب الكبتاغون”. فكل هذه التّغييرات في السّياسة السّورية، بالإضافة إلى التزام دمشق الصّمت والاكتفاء ببعض التّصريحات الخجولة حيال الحرب في غزّة، تدخل ضمن إطار مساعي الأسد لإعادة تعويم نفسه وكسب الشّرعية من قبل الدّول العربية والغربية وحتّى أمريكا، على أمل تخفيف العقوبات الاقتصادية عليه.

بالنّسبة لتركيا: بالنّظر إلى الظّروف التي تمرّ بها تركيا يمكن استنتاج عدة أسباب دفعت أردوغان لإبداء الاستعداد للتطبيع وحتى اللّقاء بالأسد، ومن أبرز تلك الدوافع:

استشعار أردوغان وحزبه الخطرَ عليهم داخلياًّ بعد النّكسة التي أصابت شعبيته في الانتخابات المحلية التي جرت في نيسان/ أبريل 2024، والتي كان من أبرز أسبابها أزمة اللاجئين السّوريين، وانهيار الوضع الاقتصادي الذي يعود بشكل كبير إلى سياسات تركيا الخارجية وأبرزها التّدخل في الملفّ السّوري، لذا تسعى تركيا من تقاربها مع النّظام لتحصيل بعض المكاسب الاقتصادية من خلال فتح المعابر بين تركيا والمناطق السّورية التي تحتلها وبين مناطق النّظام، تجلّى ذلك بافتتاح معبر أبو الزّندين بين مدينة الباب و مناطق سيطرة النّظام، في خطوة عكست حسب مراقبين ترجمة شبه حرفية لتصريح وزير الخارجية التّركي هاكان فيدان حول ضرورة استغلال فترة الهدوء لإحداث تقارب بين النّظام السّوري والمعارضة، إلّا أنّ هذه الخطوة اصطدمت بالرّفض الشّعبي الذي ربطه أردوغان بالخطاب المسموم للمعارضة التّركية التي أجّجت احتجاجات الجّالية السّورية ضدّ الممارسات العنصرية التركية، حسب وصفه.

من جهة أخرى يسعى أردوغان عبر التّقارب مع دمشق للاستفادة من رغبة الأسد في الانفتاح على دول الخليج بحثاً عن الدّعم الاقتصادي لمرحلة إعادة الإعمار لتجاوز تداعيات الحرب، حيث يسعى الرّئيس التّركي لإخراج بلاده من أزمتها الاقتصادية والمالية الخانقة، وذلك عبر السّعي بوساطة روسيّة لفتح المعابر والطّرق من تركيا مرواً بمناطق المعارضة والنّظام السّوري إلى الحدود الأردنية.

والدافع الآخر والذي قد يكون الأهمّ بالنّسبة لتركيا، هو السعي لإفشال تجربة الإدارة الذّاتية، حيث اتخذت تركيا من استعدادات الإدارة الذّاتية لإقليم شمال وشرق سوريا لإجراء الانتخابات المحلية ذريعة للتّحرك صوب دمشق، وجعلها قاسماً مشتركاً بينهما للتّعاون في محاربة الإدارة الذّاتية ومنع تطوّرها. كما أنّ تركيا تخشى من فتح النّظام الحوار مع الإدارة الذّاتية، ما سيعني اعترافاً ضمنياً بها كأحد مكوّنات المعارضة السّورية وبأنّها طرف رئيسي في الحل السّياسي السّوري، لذا تحاول تركيا عرقلة هكذا مساعٍ وإن اضطرت إلى التّضحية بفصائل المعارضة ودفعهم للاندماج مع قوّات النّظام السّوري، وهذا ما بدا واضحاً من خلال تصريحات وزير الخارجية التّركي هاكان فيدان الذي قال: “نعتقد بأنّ سوريا، إذا اندمجت حكومتها ومعارضتها ستكون لاعباً مهمّاً في الحرب ضدّ إرهاب حزب العمّال الكردستاني”، بحسب ما نقلته صحيفة “العربي الجديد، بتاريخ 25 يونيو 2024”.

المواقف الإقليمية والدّولية

الموقف الإيراني: يبدو أنّ إيران دفعت بغداد للعب هذا الدّور في هذا التوقيت الّذي يزداد فيه الانفتاح العربي على دمشق وخاصّة بعد إعادة السّعودية سفيرها إلى دمشق، ما يعني أنّ طهران تخشى أنْ تلعب الدّول العربية كالسّعودية والإمارات أو مصر دوراً رئيسياً في قيادة العملية السّياسية لحل الأزمة السّورية ومن ضمنها الوساطة بين دمشق وتركيا، الأمر الّذي قد يجري على حساب النّفوذ الإيراني في سوريا في حال كان الوسيط بعيداً عن أعين إيران.

وما يزيد من مخاوف إيران ظهور بوادر لتواصلٍ بين النّظام السّوري وأمريكا، وهذا ما كشف عنه الرّئيس السّوري في إحدى تصريحاته في أبريل 2024 بأنّ “لقاءاتٍ تجري بين الحين والآخر بين بلاده والولايات المتحدة الأمريكية”، وما تلاها من تسريبات على لسان الأسد بأنه يستعد للتفاوض مع الإدارة الذّاتية لإقليم شمال وشرق سوريا، بالإضافة إلى اهتزاز الثقة بين النّظام وإيران على خلفية تزايد عمليات اغتيال القيادات الإيرانية بضربات إسرائيلية وتوجيه أصابع الاتّهام للاستخبارات السّورية. فكل هذه التطوّرات قد تكون عوامل تدفع إيران لوضع زمام مبادرة الحل السّياسي -ومنها التطبيع بين دمشق وأنقرة- بيدها عبر ذراعها العراقي، وذلك لضمان إبقاء النّظام السّوري تحت سيطرته، وخلط الأوراق والتشويش على أيّة نوايا من قبل النّظام لفتح باب المباحثات مع الإدارة الذّاتية تحت الضّغط أو المغريات الأمريكية، خاصّة بعد ظهور بوادر هذا التّوجه الأمريكي عبر إعلان المندوبة الأميركية لدى الأمم المتّحدة، ليندا توماس غرينفيلد، في جلسة لمجلس الأمن حول سوريا، بأنّ “بلادها مستعدة لبحث رفع العقوبات عن سوريا في حالة إحراز تقدّم نحو تسوية الصّراع”.

الموقف الروسي: إنّ روسيا المنشغلة بحربها في أوكرانيا تسعى هي الأخرى إلى تطبيع العلاقات بين دمشق وتركيا لسببين رئيسيّين أولهما ضمان إبقاء تركيا قريبة منها وعدم توجّهها بشكل كامل إلى المحور الغربي، وإبقاء العلاقات مفتوحة معها نظراً لوجود الكثير من الملفات المشتركة بينهما كالملف الليبي وشمال إفريقيا وأذربيجان، بالإضافة إلى العلاقات الاقتصادية. والثاني رغبتها في أنْ يسير ملفّ التطبيع بين البلدين تحت رعايتها لضمان مصالحها في سوريا والشّرق الأوسط، ورغم أنّ روسيا كانت قد أعلنت في آذار/مارس 2024 على لسان وزير خارجيّتها سيرجي لافروف أنّ “الخطوات العملية للتطبيع مستحيلة الآن بسبب الأوضاع في غزة”، إلّا أنّه وبعد إعلان بغداد وساطتها عادت روسيا لتؤكّد عبر المبعوث الخاص للرّئيس الرّوسي ألكسندر لافرنتييف في دمشق دعمَ بلاده لهذه المبادرة، معتبراً “أنّ الظّروف حالياً “تبدو مناسبة أكثر من أيّ وقت مضى لنجاح الوساطات، وأنّ روسيا مستعدّة للعمل على دفع المفاوضات إلى الأمام” بحسب ما نقلته (ترك برس، 28 يونيو 2024)، ما يعكس  الرّغبة الرّوسية في إبقاء خيوط هذه المبادرة بين يديها وعدم تركها لإيران الّتي تنافسها على النّفوذ في سوريا.

الموقف الأمريكي: رغم عدم صدور أيّ تعليق رسمي من الجانب الأمريكي على مبادرة التطبيع الأخيرة، إلّا أنّ التساهل الأمريكي مع الانفتاح العربي على دمشق وتعليقها قانون مناهضة التطبيع يشير بأنّها لا تعارض عملية التطبيع بين دمشق وشريكها في حلف الناتو، وقد يكون السبب هو رغبة أميركا في أنْ يساهم التطبيع في حدوث اختراق في الأزمة السّورية والتّوجه خطوة صوب الحل السّياسي بموجب القرار الأممي 2254.

التداعيات المحتملة للتطبيع على الإدارة الذّاتية والمعارضة

إن نجحت المبادرة العراقية لتحقيق التطبيع بين أنقرة ودمشق، لن يكون لها تأثير عسكري على مناطق شمال وشرق سوريا مع استمرار الوجود الأمريكي، وباعتبار أنّ النظام السّوري الساعي لإرضاء الدّول العربية والغرب وأمريكا ليس مستعدا لفتح جبهات جديدة مع قوّات سوريا الدّيمقراطية في هذه المرحلة، وبالتالي لن يتعاون مع تركيا عسكرياً لمحاربتها، فيما يمكن أن يكون لهذا التطبيع تداعيات سياسية على الإدارة الذّاتية، كالتّوافق على رفض إشراكها في المباحثات لحل الأزمة السّورية مستقبلاً.

وفي الوقت الذي تعطي فيه تركيا الأولويّة لإفشال تجربة الإدارة الذّاتية في شمال وشرق سوريا، وإعادة المهجّرين السّوريين المقيمين داخل حدودها، يبدو أنّ محاربة الإدارة الذّاتية ليست من أولويّات النّظام السّوري لعدّة أسباب:

أولها: أنّ الأوضاع العسكرية والاقتصادية للنّظام لا تسمح له بفتح جبهات مع قوّات سوريا الدّيمقراطية خاصّة مع الوجود الأمريكي في المنطقة.

ثانياً: فشل محاولات النّظام الاعتماد على الميليشيات الإيرانية والميليشيات العشائرية الّتي شكّلتها إيران لمحاربة قوّات سوريا الدّيمقراطية بعد اندلاع حرب غزّة وانشغال إيران وميليشياتها بتلك الحرب؛ بالإضافة إلى الضربات الإسرائيلية الّتي استهدفت الكثير من القيادات الإيرانية في سوريا، والّتي شلّت وشتّتت الميليشيات الّتي باتت تتخفّى هرباً من الضربات الإسرائيلية ما أضعف قدرتها على مواجهة قسد.

ثالثاً: كما أنّ عزم النّظام على إجراء تغييرات جذريّة في هيكلية الجيش يشير بأنّها لا تفكر بأيّة حلول عسكرية لمواجهة قوّات سوريا الديمقراطية على المدى القريب على الأقل، بالإضافة إلى أنّ النّظام السّوري يستفيد من وجود الإدارة الذّاتية كعامل ضغط لدفع تركيا لتقديم التّنازلات لدمشق، لذا ليس من مصلحة دمشق مجابهة الإدارة الذّاتية قبل انهاء الوجود التّركي داخل سوريا.

فيما يمكن أنْ يكون للتطبيع تأثير مباشر على المعارضة السّورية عسكرياً وسياسياً، باعتبار أنّ تركيا أبدت استعدادها للتخلي عن المعارضة ودفع فصائلها للاندماج مع قوّات النّظام لمواجهة الإدارة الذّاتية، وهذا ما أثار مخاوف المعارضة هذه المرّة والتي أظهرت ردود فعل شعبية قوية ضدّ هذا التّوجه التّركي تمثّلت بالاحتجاجات الواسعة التي تشهدها مناطق شمال سوريا ومهاجمة المقرات التركية وإحراق الأعلام التركية، ما يعني أنّ المعارضة تستشعر خطورة موقف تركيا التي قد تضحي بهم خلال مباحثات التطبيع الجديدة. و لا تمتلك المعارضة حالياً أوراق قوّة لمنع تركيا من التطبيع مع دمشق بعد فقدانها الشّرعية من الدّول العربية الّتي أعادت دمشق إلى الجّامعة العربية، وتخلي الغرب عن دعمه لهيمنة الجماعات المتطرّفة والإخوان المسلمين على المعارضة بشقيها السّياسي والعسكري.

فرص نجاح جولة التطبيع الجديدة

إنّ إبداء أنقرة ودمشق مرونة على غير العادة في الانفتاح على مبادرة بغداد، يشير بأنّ هذه المباحثات قد تكسر الجليد بين الطرفين ليتفقا على بعض النّقاط في الملفات السّياسية والاقتصادية، ولكنْ دون الوصول إلى تطبيع كامل، وسيفتح هذا التقارب النسبي صفحة جديدة في الأزمة السورية، أما الطريق نحو التطبيع الكامل فسيظلّ مليئاً بالعقبات بسبب التباينات الكبيرة في مطالب كلا البلدين وترتيب الأولويات، وعمق الخلافات وتداعياتها، وأزمة الثّقة بينهما.

فرغم ظهور رغبة أنقرة ودمشق للتّقارب، إلا أنّه في حال تمسّك تركيا بوضع شروط للانسحاب، والتي يصعب على دمشق تلبيتها، وخاصّة شرط محاربة الإدارة الذّاتية، ووضع دستور جديد للبلاد وإعادة اللاجئين، أو في حال تمسك النّظام السّوري بشرط الانسحاب التّركي قبل تنفيذ تلك الشّروط وسط أزمة الثّقة بين البلدين، ستجعل قضية التطبيع غير مكتملة وتدور في دائرة مفرغة.

كما أنّ وجود العديد من الأطراف الإقليمية والدّولية على السّاحة السّورية سيجعل الوساطة العراقية تواجه تحدياً صعباً، وهو إرضاء ومراعاة مصالح كل من الولايات المتّحدة وروسيا وإيران و”إسرائيل” في الملفّ السّوري، وهذا ما يصعب تحقيقه بدون التوافق على حل شامل للأزمة السّورية، وبالتّالي لن تسفر هذه الوساطة عن نتائج كبيرة، لأنّ ما تشهده سوريا والعالم اليوم هو صراع محاور وليست خلافات بين قوى أو دول جارة، لذا لا يمكن لأيّ طرف من أطراف المصالحة سواء السّوري أو التّركي أن يتّخذ قراراً من دون وجود توافق من المحور الّذي ينتمي إليه بأكمله.

الرؤية:

من خلال ما تقدّم يبدو أنّ إبداء تركيا في الوقت الحالي الاستعداد لإعادة العلاقات مع دمشق، تعكس رغبة جدية في إنهاء القطيعة بينها وبين دمشق، وذلك لتخفيف أزمتها الاقتصادية وأزمة اللاجئين، واحتواء انتكاستها في الانتخابات المحلية الأخيرة؛ بالإضافة إلى العمل على كسب الوقت لحين انتهاء الانتخابات الأمريكية وظهور شكل الحكومة الأمريكية الجديدة، وعرقلة أيّة مساع للحوار بين دمشق والإدارة الذّاتية في الوقت الراهن.

أما بالنسبة إلى دمشق فإنّ اختراق جدار الأزمة وإعادة العلاقات مع تركيا حاجة ملحّة لتنشيط اقتصادها، ودفع تركيا للاعتراف الرّسمي بشرعية الأسد، وإظهار المعارضة وفصائلها على أنّها جماعات إرهابية ومتمرّدة، بالإضافة إلى إيصال رسائل ضغط للإدارة الذّاتية لتقديم المزيد من التّنازلات لدمشق.

ويبدو أنّ روسيا وإيران من أبرز الدّاعمين لإحداث تقدّم في عملية التطبيع بين البلدين، ولكنّ تنافسهما على النّفوذ والمشاريع الاقتصادية في سوريا قد يشكّل عقبة أمام شكل التّوافق بين أنقرة ودمشق.

فيما قد يعكس توقيت طرح المبادرة في هذا التّوقيت، الّذي تنشغل فيها أميركا في الانتخابات الرّئاسية الّتي تحتاج لأكثر من 6 أشهر، رغبة روسيا وتركيا وإيران في استغلال هذه الفترة لإجراء التطبيع لتلافي رد فعل أمريكي على هذه الخطوة.

وفي المقابل ورغم عدم إبداء أميركا والغرب موقفاً واضحاً حيال مبادرة التطبيع الّتي ستقودها بغداد، إلّا أنّه في كل الأحوال لا يمكن إتمام عملية التطبيع بدون مراعاة مصالح هذه الدّول، ويبدو أنّ تعليق أمريكا لقانون مناهضة التطبيع يعتبر ورقة تلوّح بها، ويمكنها استخدامها في حال أظهرت نتائج المباحثات أنهّا تسير ضدّ المصالح الأمريكية. فيما أرسلت فرنسا رسائل تهديد مبطّنة عبر إصدار مذكرة الاعتقال الدّولية بحق الرّئيس السّوري بشّار الأسد بتهمة التّواطؤ في ارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية في الهجمات الكيميائية، ما يعني أنّها تذكّر الأطراف الراعية للمباحثات بضرورة مراعاة المصالح الغربية، وأن أيّ تطبيع يجب أن يجري في إطار الإرادة الدّولية والقرار الأممي 2254.

وتشير المعطيات أنّ المعارضة السّورية الموالية لتركيا ستكون أكثر المتضرّرين من التطبيع، خاصّة أنّ “الجانب التّركي طلب من روسيا والعراق الجلوس على طاولة ثنائية مع النّظام دون حضور أي طرف ثالث، وبعيداً عن الإعلام للبحث في تفاصيل إعادة العلاقات”، ما يعني أنّ تركيا لا ترغب في تسريب ما سيتم التّفاهم عليه بما يخص ملف المعارضة وفصائلها، وما يخص مناطق الإدارة الذّاتية.

وفي المحصّلة فإنّ الملف السّوري الذي يكتنفه الكثير من التعقيد، وسط وجود كل من أمريكا وروسيا وإيران وتركيا على أراضيها، لا يمكن لأيّ طرف إحداث أيّ اختراق في أزمتها نحو الحل بمعزل عن باقي الأطراف، لذا فإنّ أيّة وساطة بين دمشق وأنقرة يجب أنْ تقوم على مبدأ الحلّ الشامل للأزمة السورية برمّتها ومشاركة كافة الأطراف بما فيها الإدارة الذّاتية.

 

المصدر: مركز الفرات للدراسات

شارك هذا الموضوع على