“الآداب والفنون السومرية، نظرة تاريخيّة في الأصالة والابداع”

كوردأونلاين

in
وليد المسعودي_
لم تكن المراثي والأحزان لدى الإنسان السومري ناتجة عن تفكير وإبداع أدبي فحسب، بل كانت مرتبطة بالوقائع السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، تلك المتضمنة سقوط المدن وتلاشيها واحتلالها من الأعداء من العيلاميين، والسوباريين، والأموريين، حيث تم القضاء على السلالة الثالثة الشهيرة (٢٠٠٢ ق. م) وكان نتيجتها رثاء تدمير مدن أور وآكد على أيدي تلك الأقوام.
حيث دمرت المدن تلو الأخرى بالرغم من المناشدات والأدعية والتوسلات من آلهة المدن إلى كبار الآلهة (أنليل)، و(أنو) ولم ينفع كل ذلك، بل زادت وتيرة التدمير والخراب أكثر فأكثر مع كثرة التوسلات والأدعية، إذ يعد ذلك التدمير أمراً إلهيا لا راد له من قبل أحد من البشر، أي إن تدمير المدن كان لغائية مقصودة وإرادة إلهية لا يستطيع البشر دفعها ومقاومتها، وبالتالي بعد أن دمرت المدن لم تظهر المراثي والأحزان “البكاء والندب” كتعبير أدبي وثقافي يصور حالة الخراب، الذي عم مدينة أور، وآكد فحسب بل لتزامن حالات المهانة والشقاء والعبودية من قبل المحتلين الأعداء أيضا، فبعد سلسلة الخراب الذي أصاب الجميع، الضعفاء والأقوياء، النساء والرجال، الأطفال وكبار السن، البيوت ودور العبادة، هناك أيضا ما هو معاش بشكل يومي من المهانة، والجوع، والقحط، فضلاً عن خلو أي وسيلة لعودة النواميس الطبيعية خلال فترات العذاب، والبؤس لهذه المدن، تلك التي تمثلت في “تخريب ضفاف الأنهار وإجداب الحقول والمراعي ونقل الملكية إلى أرض غريبة”.
وهكذا يكون الرثاء مراً أليما ليس في قلب الشاعر فحسب، بل في قلوب المعذبين من البشر وآلهة، وكأن الحياة التي تبدلت نواميسها قد قامت ولم تقعد، كل شيء في خراب مستديم، وما على البشر أنفسهم سوى متابعة البكاء والتذرع والدعاء، والصبر على حدوث البلاء حتى زوال الغيوم والهموم، والكرب العظيم، إذ أحيانا ما تنتهي القصص الحزينة بنهايات سعيدة، فهذه أور بعد أن هجرتها الآلهة والبشر على حد سواء تعود الى حالتها الطبيعية من التمجيد، والتعظيم للآلهة بالرغم من الخراب والدمار الذي حل سابقا، الأمر الذي جعله سنة ثابتة لدى الأجيال المتلاحقة والعقائد المتلاحقة وإن اختلفت مسمياتها، والمشترك الوحيد هو ديمومة الصبر والرضا بالحال حسنا كان أو سيئا.
إن أي حدث سياسي كأن يكون تعرضت البلاد إلى احتلال وتدمير ما يؤخذ على إنه لعنة الهية على البشر أنفسهم، وبالطبع دائما ما تبدأ اللعنة على الحاكم أولاً، ومن ثم يأتي للبشر المحكومين نصيبهم، فهذا “أنليل” يغضب على أحد حكام “أكد” وهم “نرام سين” حفيد “سرجون الآكدي” فيسلط عليه “الكوتيين” من جبال زاغروس من أجل تدمير البلاد وفي مقدمتها العاصمة “آكد”.
والسبب هو عدم تحمل هذا الملك العداء، وربما الحصار على مدينة آكد من قبل الآلهة الذين تركوها وهجروا معابدها، وبالتالي لا يملك هذا الملك بعد أن صبر سبع سنين عجاف حل التدهور والضعف في بلاده سوى الجرأة والثورة على الإله “أنليل” نفسه، حيث قام بتدمير معابد مدينة “نفر” ونهبها وانتهاك حرماتها، وبالتالي قيام أنليل كما ذكرنا أعلاه بتسليط جيوش الكوتيين عليه، بحيث لم يبق بيتا أو بستانا في المدينة لم يصله الدمار والقحط، انتقام ليس كمثله انتقام مثل ما حدث في مدينة نفر يحدث في مدينة الملك نرام سين “آكد”.
” فعسى أن يتعالى الندب والبكاء في أرجائك فتردد أصداءه أسوارك، فاسقطي وانطرحي مترنحة مثل السكارى من ضخام الرجال”
هذه المراثي والأحزان شكلت في النهاية ظاهرة تاريخيّة متداولة في بلاد وادي الرافدين، بعد كل سلسلة من الاحتلال، والتدمير والخراب، انتقلت بين الأجيال وتوارثتها الأزمنة المنكوبة لدى البشر أنفسهم، ولا تخرج المراثي من تواصلها حتى أزمنتنا الراهنة، بالرغم من كثرة الأجناس والأقوام الغازية، إلا أن انتقالها يأخذ صفات الدمج مع الوافد الجديد من هذه الأقوام.

​الثقافة – صحيفة روناهي

شارك هذه المقالة على المنصات التالية