التكوين الفلسفي للهوية الكوردية في كتاب “كوردستان القديمة”
خالد علي سليفاني
المقدمة
الهوية ليست مجرد انتماء قومي، بل هي محصلة تفاعل معقد بين العوامل الجغرافية، الاقتصادية، الثقافية، والفكرية التي تشكل وعي الأفراد والمجتمعات عبر التاريخ. في كتابه كوردستان القديمة، يطرح البروفيسور الدكتورعلي تتر نيروي الهوية الكوردية من منظور فلسفي، متتبعًا جذورها في الفكر التاريخي وتأثير الحضارات المحيطة.. يوضح نيروي كيف ساهمت البيئة القاسية، والاقتصاد الزراعي والرعوي، والصراعات السياسية، في بناء هوية فريدة تتسم بالمقاومة والمرونة، مما جعل الكورد قادرين على الحفاظ على خصوصيتهم رغم التقلبات السياسية والتغيرات الثقافية.
أولًا: مفهوم الهوية في الفلسفات القديمة وتأثيره على الفكر الكوردي
في الفلسفات القديمة، يتم تعريف الهوية عبر علاقتها بالمكان والزمن واللغة. في الحالة الكوردية، لعبت هذه العوامل دورًا جوهريًا في تشكيل وعيهم القومي. يشيرالمؤرخ علي تتر نيروي إلى أن الكورد لم يكونوا فقط نتاج بيئتهم، بل كانوا أيضًا صناع هويتهم عبر التفاعل المستمر مع القوى الإقليمية المختلفة. ويؤكد أن التأثيرات الفارسية والتركية والعربية لم تلغِ هوية الفرد الكوردية، بل زادتها انتماءً وترابطًا. كما أن الاستقلالية التي اتسمت بها العشائر الكوردية جعلت هويتهم قومية الطابع ولكن بلا مركزية سياسية واضحة، مما خلق نموذجًا مميزًا للهوية الثقافية والسياسية.
ثانيًا: كيف ساهمت الجغرافيا والاقتصاد في ترسيخ هوية مستقلة؟
تتميز كوردستان بطبيعة جبلية جعلت سكانها ميالين للاستقلال ورافضين للسلطة المركزية. يذكر نيروي أن الاقتصاد الزراعي والرعوي عزز استقلالية العشائر، مما جعلها أكثر مقاومة للاندماج في الإمبراطوريات الكبرى. كما أن الكورد، بحكم موقعهم الجغرافي على طرق التجارة القديمة، تأثروا بالأفكار القادمة من الشرق والغرب، مما أسهم في تطور نظرتهم للحكم والسياسة. يضيف نيروي أن “عبر التاريخ، كان التفاعل الاقتصادي مع المحيط وسيلة أساسية لتعزيز الوعي الذاتي للكورد، حيث لم يكونوا مجرد مستهلكين للسلع بل ناقلين للأفكار بين الحضارات المختلفة”.
ثالثًا: مقارنة بين الفكر القومي الكوردي والفلسفات السياسية الأخرى
يرى الدكتور علي تتر نيروي أن “الفكر القومي الكوردي، بخلاف القومية الأوروبية التي ارتكزت على الدولة المركزية، كان قائمًا على مفهوم القومية الثقافية الممتدة، وليس الدولة المركزية الصارمة”. مقارنة بالفكر القومي الفرنسي أو الألماني، نجد أن الكورد تبنوا نموذجًا كونفدراليًا للحكم، حيث تحكم كل عشيرة أو إمارة نفسها وفق تقاليدها الخاصة. يشير نيروي إلى أن هذا النموذج، رغم مرونته، كان أحد العوامل التي منعت تشكيل دولة كوردية موحدة عبر التاريخ، حيث كانت الولاءات العشائرية أحيانًا أقوى من الروابط القومية.
جدلية الحرية والسلطة في التاريخ الكوردي وفق “كوردستان القديمة”
أولًا: كيف أثرت الجغرافيا على مفهوم الحرية لدى الكورد؟
يؤكد نيروي أن الجغرافيا ليست فقط بيئة، بل هي قوة تشكيلية تحدد طريقة تفكير الشعوب. الجبال وفرت للكورد ملاذًا طبيعيًا، مما جعلهم أقل عرضة لسيطرة الإمبراطوريات الكبرى، وأدى إلى تطور مفهومهم الخاص بالحرية، حيث تعني الحرية لديهم الاستقلال عن الدولة المركزية. يوضح نيروي أن “كل محاولات القوى الكبرى لفرض السيطرة على الكورد فشلت بسبب الطبيعة الوعرة لجبال كوردستان، التي لم تكن فقط حواجز جغرافية بل مراكز للمقاومة السياسية والفكرية.
ثانيًا: هل كانت الحركات الكوردية تحررية أم تفاعلية مع الأنظمة الإقليمية؟
لطالما كانت الحركات الكوردية خليطًا بين التمرد الذاتي ضد القهر، والتكيف مع القوى الإقليمية. يوضح نيروي أن الكورد لم يكونوا دائمًا في موقع الضحية، بل كانوا جزءًا من اللعبة السياسية، حيث تحالفوا أحيانًا مع الإمبراطوريات الكبرى، وأحيانًا ثاروا ضدها. ويوضح أن التفاعل مع القوى الكبرى لم يكن دائمًا سلبيا، بل ساعد أحيانًا في تطوير هياكل سياسية جديدة داخل المجتمع الكوردي.
ثالثًا: تحليل نموذج الدولة في التجارب السياسية الكوردية
يناقش نيروي كيف أن النماذج السياسية الكوردية، بدءًا من الميديين وحتى الإمارات الكوردية في العصر العثماني، كانت قائمة على اللامركزية والاتفاقات الكونفدرالية، مما جعلها عرضة للانهيار عند غياب القيادة القوية. ويضيف أن هذا النمط السياسي لم يكن ناتجًا عن ضعف، بل كان نتيجة لثقافة سياسية ترفض السلطة المطلقة وتعتمد على التوازنات بين القوى الداخلية.
الخاتمة
يكشف كتاب كوردستان القديمة أن الهوية الكوردية ليست مجرد إرث ثقافي، بل هي نتيجة صراعات فكرية وسياسية واقتصادية شكلت طريقة تفكير الكورد عبر العصور. فمن خلال تحليل العلاقة بين الجغرافيا، الاقتصاد، التصوف، والسياسة، يتضح أن الفكر الكوردي هو نموذج فريد يجمع بين الاستقلالية والمرونة السياسية، مما يجعله تجربة غنية لفهم كيف تتشكل هوية الشعوب في ظل التحديات المستمرة. يوضح البروفيسور الدكتور علي تتر نيروي أن الحرية بالنسبة للكورد لم تكن مجرد مطلب سياسي، بل كانت جزءًا لا يتجزأ من بنيتهم الثقافية والاجتماعية، مما جعلها تتجلى في مختلف مراحل تاريخهم. هذا التحليل يكشف أن استمرارية الفكر القومي الكوردي لم تكن عشوائية، بل هي امتداد لتقاليد ثقافية وسياسية عميقة الجذور، قادرة على الصمود في وجه التغيرات التاريخية الكبرى.
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=64700