الجولاني وسط الحوار المرئي، الحقائق تُكشف

د. محمود عباس

رغم أنه لم يعد مهمًّا من جاء بأبي محمد الجولاني إلى واجهة السلطة، ولا من سمح لتركيا بتصعيد دعمها لهيئة تحرير الشام، ولا من أجبر بشار الأسد ونظامه على الانسحاب وترك سوريا للمنظمات التكفيرية؛ كل ذلك بات معروفًا للجميع، حتى المخفية خلف الأروقة السوداء، ما يهمنا اليوم هو قراءة الحقائق التاريخية التي أخذت تتجلى، فقد بدت واضحة في تصريحات الجولاني على قناة الإخبارية السورية، وفي الاتفاق الذي جرى بينه وبين روسيا، وهو في جوهره تأكيد لما كان قد بُني عليه قبل أسابيع وربما قبل أكثر من عام، خصوصًا مع توجيه الأسد للانفتاح على الدول العربية، أو الطلب من الدول العربية وخاصة الخليجية لفتح الأبواب له، وتمهيده للعودة إلى الجامعة العربية، وتطلّعه إلى التملّص من الحلف الإيراني، خاصة بعد الدمار الذي الحقه إسرائيل بأدواتها، كحماس وحزب الله وقصف الحوثيين، وكان على دراية أنه من ضمن السلسلة المعنية بالأمر.

لكن هذه التحولات لم تكن ثمرة قوى سورية فاعلة، بل عكست موقعها كأدوات تنفيذ، فالجولاني لم يكن يملك القوة الكافية ليسقط النظام، ولا النظام كان هشًّا إلى الدرجة التي تسمح بانهياره أمام هيئة تحرير الشام، بل إن الهيئة نفسها لم تكن سوى أداة مؤقتة، توظَّف لتحقيق مصالح إقليمية ودولية، أشبه بواجهة وظيفية تُستخدم ثم تُزال، أما الاتفاقية، فكانت ذات بعدين:

الأول، كان مخرجات مؤتمرات سوتشي وأستانه بين تركيا وإيران، والتي هدفت إلى تثبيت سوريا كدولة مركزية ترفض الفيدرالية وتتجاهل الحقوق القومية للشعب الكوردي. غير أن هذه الرؤية لم تكن محل ترحيب كامل من روسيا، وهو ما دفع بوتين، بعد سقوط النظام المجرم في بعض مراحله، إلى التصريح بأن الأفضل لسوريا أن تكون دولة لا مركزية تقوم على نظام فيدرالي، وقد كانت رسالة مباشرة إلى تركيا قبل إيران، خاصة على خلفية الخلافات التي ظهرت في مؤتمر سوتشي الأخير، وظهور بوادر عودة تركيا إلى حضن الناتو كخطوة استباقية لمواجهة عدة إشكاليات تخشاها، وفي مقدمتها خشيتها من تحوّل سوريا إلى دولة لا مركزية يحصل فيها الكورد على إقليم فيدرالي معترف به.

أما الثاني، فتمثل في التفاهمات بين روسيا وأمريكا وإسرائيل، والتي هدفت إلى تقليص نفوذ إيران، مع مراعاة التوازن الدقيق مع تركيا التي وُظفت كراعٍ رئيسي لهيئة تحرير الشام. وقد فُرض ضمن هذه التفاهمات أحد أهم الشروط، أن تتحكم هذه القوى مجتمعة بمسار النظام السوري القادم، وهي المعادلة السياسية التي بدأت ملامح نهايتها تتكشف شيئًا فشيئًا.

من هنا، بدا واضحًا أن حكومة الجولاني تمر بمرحلة انتقالية، قد تطول عامًا أو عامين، لكنها لن تتحول إلى سلطة راسخة أو قوة شرعية، فكما أُزيحت الميليشيات الإيرانية، ستُذيب القوى الكبرى هيئة تحرير الشام مهما غيرت من سماتها، متى ما استُنفد دورها، حتى لو مُنحت اعترافًا شكليًا بحكومتها الانتقالية تحت سمة الحكومة السورية. الجميع يدرك أن منهجيتها التكفيرية وثقافتها الظلامية تجعلها عاجزة عن بناء أي مشروع سياسي أو عسكري مستدام، فضلاً عن أنها لم تكن ندًّا للنظام المجرم، بل مجرد ورقة ضمن لعبة أكبر.

وهكذا وجدت سوريا نفسها في مرحلة انتقالية عصيبة، بين نظام إجرامي غارق في الدماء، ومنظمة إرهابية تُستخدم كأداة في يد الآخرين، واحتمالات بعيدة لتأسيس وطن ديمقراطي، في هذه المعادلة، ظل الشعب السوري هو الضحية المباشرة، بينما تعرض الكورد، ومعهم الموحدين الدروز وأبناء الساحل السوري، والمكون المسيحي، لاستهداف مضاعف، يُطعنون من الاستبداد باسم المركزية، ويُشيطنون من التكفير باسم الدين.

سوريا اليوم تبدو في الظاهر وكأنها مسرح لصراع بين نظام مستبد ومنظمات منفلتة تكفيرية متطرفة، لكن في الجوهر لا فرق بينهما، فكلاهما جزء من جسد واحد، فالمنظمات التكفيرية هي التي شكّلت ما سُمّي بـ”الحكومة السورية الانتقالية”، وقدمتها للعالم كواجهة سياسية، فيما بقيت هي الذراع العسكرية ذاتها، الحكومة لم تكن سوى ظل لهذه التنظيمات، تغطي جرائمها بشعارات منضبطة، لكنها في الواقع هي التي فتحت لها المجال، بل وقدمت لها الدعم، لتنفذ المجازر بحق السوريين والكورد.

كلما ارتكبت جريمة، خرجت الحكومة لتبرّر نفسها بذرائع واهية، تارة تلقي باللوم على “فلول النظام”، وتارة على “منظمات منفلتة”، وأخرى على “شرائح غير منضبطة”. لكن الحقيقة التي لا جدال فيها أن الحكومة نفسها هي الراعي، وهي القناع السياسي الذي تتحرك خلفه هذه القوى التكفيرية، بذلك تتكرّس وحدة الشر، سلطة تقتل باسم الدولة، ومنظمات تذبح باسم الدين، وحكومة انتقالية تشرعن كليهما تحت مسمى المعارضة.

في هذه المعادلة الجهنمية، الشعب السوري وقوده الأول، والكورد ضحيته المضاعفة، مطعونين من المركزية العروبية للنظام، ومشوَّهين بالدعاية التكفيرية التي تصورهم كخطر وجودي، وما أشبه الأمر بقدر مكتوب، حيث يُحاصر الكوردي بين سيفين مسمومين خرجا من غمد واحد.

إن ما صرح به الجولاني في حواره المنمق لغويا، لكنه الهش، والضحل سياسيا وتاريخيا، وما يجري في سوريا، ليس حرب على مخلفات النظام البائد، بل هو إعادة إنتاج لجدلية الشر، استبداد يتغذى من أجهزة القمع، وتكفير يتغذى من القهر ذاته، كما قال بول ريكور: “الشر ليس غريبًا عن الإنسان، بل هو انحراف في فهم الحرية.” وفي سوريا لم يكن الشر طارئًا، بل كان صناعة متعمدة، نظام صنع الإرهاب ثم ادعى محاربته، ومنظمات تكفيرية صنعت حكومة انتقالية لتدّعي تمثيل المعارضة، وفي العمق كليهما كانا شركاء في جريمة واحدة.

ويبقى السؤال المعلّق، هل يمكن أن يولد مشروع تحرر حقيقي من رحم هذا الجسد الموبوء، أم أن سوريا ستظل أسيرة لعبة يتبادلون فيها الأدوار، حيث يظل الشعب ضحية، وتظل القضية الكوردية مطموسة، وتظل الحرية مجرد وهم يتلاشى مع كل جولة جديدة من التواطؤ؟

 

 

الولايات المتحدة الأمريكية

15/9/2025م

Scroll to Top