د. يحيى العريضي
قد يظن البعض أن دخول الجولاني إلى البيت الأبيض هو بمثابة صك غفران يطهّر سجله أو يبيّض صفحته. تلك المصافحة وذلك الدعم المشبع بحسابات المشاريع الاستراتيجية؛ لن يغسل عنه الدماء التي سفكها، ولن يبدّله من ذئب إلى حمل وديع. الجولاني مجرم قبل وصوله إلى السلطة وبعد وصوله إليها، فقد ارتكب مجازر جماعية في الساحل بحق العلويين، ومجازر جماعية أخرى بحق الدروز في الجنوب، ويستمر مرتزقته بارتكاب الانتهاكات الجسيمة يومياً، من خطف وقتل وإرهاب ممنهج، بينما لم يحرك مجلس الأمن ساكناً إزاء هذه الجرائم ولم يأتِ على ذكرها.
لم يُشر مجلس الأمن في قراره 2799 إلى ما ارتكبته قوات الجولاني في الساحل. لم تكلّف الدول نفسها عناء الإشارة إلى التحقيقات الدولية أو المحلية في مجازر السويداء التي لا تزال حبيسة الاتفاقات الدولية. لم يتم الإشارة إلى تفجير الكنيسة في دمشق، ولم يتم الإشارة إلى أية التزامات بتحقيق دولي أو محلي في الإبادة الجماعية التي يتعرض لها أبناء الأرض يومياً. قرار سياسي مؤدلج بامتياز، يصدّر مجرماً كفاعل سياسي، ويتجاهل دوره كمسؤول أول ومباشر عن إعطاء الأوامر لارتكاب هذه المجازر.
الدعم السياسي المشوّه الذي مُنح إليه في سياق ترتيبات دولية ليس إلا أداة ضمن لعبة إقليمية واسعة، تهدف إلى إعادة تشكيل المشهد السوري وفق مصالح اللاعبين الكبار، لكنه لن يغيّر حقيقة هذا الإرهابي الذي بات كرة تتقاذفها أرجل اللاعبين الدوليين.
قد لا أكون مختصاً في القانون، لكن المبدأ العام القانوني واضح ولا لبس فيه. فالجرائم الخطيرة في القانون الدولي لا تتقادم ولا تسقط بمرور الزمن. المادة الأولى من الاتفاقية الدولية بشأن عدم تقادم جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية تنص على أنه: “لا تسري أية قيود زمنية على الملاحقة أو العقاب على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية أياً كان وقت ارتكابها.” تاريخ الجولاني وعصابته حافل بجرائم القتل الجماعي، والإعدام الميداني، والتفجيرات المنهجية. إنهم إرهابيون، ولن تسقط جرائمهم بالتقادم أبداً؛ لا بتعويم سياسي، ولا بدعم دبلوماسي، ولا بدخول إلى بيت أبيض أو أسود.
من قال بأن مجلس الأمن الدولي هو محكمة قضائية لتبرئة المجرمين؟ إنه أداة للسياسات الاستراتيجية، ومشاريع اللاعبين الدوليين تحتاج إلى بروبغندا سياسية لتمرير مصالحهم. مجلس الأمن، وضمن العشرات من قراراته؛ يعتبر أن الإرهاب تهديد للأمن والسلم الدوليين، لكنه لم يشر أبداً إلى المسؤولية المباشرة للجولاني عن المجازر في الساحل والجنوب، ولم يُلزم بأي تحقيقات عادلة أو شفافة.
نظام الجزاءات الأممي، الذي يشرعن به الجولاني ويعاد تدويره، لا يشكل نظاماً قضائياً، فهو مجرد آلية إدارية محكومة بالمعايير السياسية، تتخطى به الدول صاحبة المشاريع الاستراتيجية القانون الدولي في كل مرة. وللمفارقة، يشدد مجلس الأمن ضمن قراره رقم 1566 لعام 2004 على أن الأعمال الإرهابية لا يمكن تبريرها تحت أي ظرف ذي طابع سياسي أو فلسفي أو عقائدي أو عرقي أو ديني، ويهيب بجميع الدول أن تكفل معاقبة مرتكبيها بعقوبات تتماشى مع طابعها الخطير. بينما لم يذكر جرائم الجولاني نفسه سواء قبل وصوله للسلطة أو بعده.
ما يحدث اليوم من دعم سياسي للجولاني ليس سوى تعبير عن انهيار المشروع الوطني السوري، وتداخل مصالح إقليمية ودولية على حساب حق السوريين في تقرير مصيرهم بعيداً عن إرهاب يُسوّق له باسم “شرعية مؤقتة”. الجولاني ليس استثناءً، بل امتداد لمشروع الأسد ذاته؛ رحل الأسد، لكن من بقي من أدواته ينفذ اليوم تعليماته من وراء الستار، مدعوماً من قوى دولية ترى في الفوضى السورية فرصة تاريخية لإعادة رسم خرائط النفوذ. ولذلك، لن تتقادم جرائم زعيم جبهة النصرة الإرهابية، أياً كان اسمه: الجولاني، أحمد الشرع، أو غير ذلك. ولن تطوي صكوك الغفران السياسي مسؤوليتهم الجزائية. التاريخ والقانون والضمير الإنساني جميعهم يصرخون بأن الدماء التي سفكت لن تُمحى، مهما علت البروبغندا ومهما طال التواطؤ الدولي.
لتتدخل كل المجالس الدولية، وكل الساسة الدوليين بمن فيهم ترمب، ولتتدفق كل الأموال الخليجية التي تُريد تعويم هذا المجرم وتثبيته في السلطة؛ فذلك لا يغيّر شيئاً من حقيقة الدماء التي أُريقت. لا محكمة دبلوماسية قادرة على غسل اليدين من جريمة، ولا صفقة سياسية تستطيع زرع كتلة سرطانية في جسم سوريا ثم تظن أنها تُصلح الجرح. مهما بذلوا من أموال، ومهما أبدعوا في تقنيات التبييض السياسي، فلن يزيلوا رائحة الدم ولا آثار التفجيرات والمجازر والتهجير.
الشعب السوري الذي يطلب حقه في العيش بحرية وديمقراطية. وهو الحق ذاته الذي ينادي به مجلس الأمن ونصوص القانون الدولي.
هذا الشعب لن تُقهر مطالباته بمزايدات سياسية أو بمناورات تحريضية أو بتثبيت منظومة إرهابية تحت عباءة “شرعية مؤقتة” أو “حلول استراتيجية”، هذا التثبيت سيعني تغذية سرطان سيفتك بالبلد، وهدم قدرتها على التعافي والوحدة، وسيرتد يوماً ما على من صنعه وأعطاه أدوات الإجرام.
ما يحدث ليس مجرد خلل في إدارة أزمة أو فشل دبلوماسي؛ إنه مرآة لعالم مريض، يقدّم المصلحة الضيقة على العدالة، ويستخدم معايير مزدوجة حين يتعلق الأمر بمصائر الشعوب. والمرض الحقيقي هو أن تُكرّس المصالح السياسية فوق الحق في المحاسبة، وأن يُسوّق للقتل باسم الاستقرار بينما المصاب الحقيقي يبقى الشعب السوري الذي سيدفع ضريبة رفع التنصيف عن مجرم من آلاف المجرمين، ووضعه أمامهم ليكافحهم، فتتحول البلاد إلى ساحة حرب مفتوحة تعكس تلك التربية الحاقدة لهذا المجرم. تربيته على القتل والعمالة التي تدفعه كل يوم للسفر مهاناً صاغراً لتقديم التنازلات عن سوريا التي لا يشكل هو وزمرته سوى وصمة عار عليها وعلى حضارتها.
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=79701





