إعداد/ عبد الرحمن محمد_
ما من عاشق للأدب، والثقافة والترجمة على وجه الخصوص، كعشق وحب وإخلاص الدكتور سامي مصباح الدروبي، الذي سخر جل حياته في العمل على إغناء المكتبة العربية بترجمات من الأدب العالمي وخاصة أعمال دوستويفسكي.
في بعض تفاصيل حياته الخاصة، فإن سامي الدروبي، وُلد في عام 1921، في مدينة حمص بسوريا، وهو أديب وكاتب وناقد ومترجم، ودبلوماسي معروف، أحب الترجمة لدرجة العشق، ولذلك فقد أفنى أكثر من عشرين عاماً من عمره في مجال الترجمة، فترجم أعمالا هامة لبوشكين وميخائيل ليرمنتوف وغيرهم، بل وترجم مجمل أعمال دوستويفسكي، كما عمل مدرسًا للفلسفة في حمص، ثم عميدًا لكلية التربية بجامعة دمشق، فأستاذًا في الفلسفة فوزيرًا للمعارف، ثم سفيرًا لسوريا في دول عديدة.
أبحر الدروبي في بحر الأدب الروسي، وكرس جل اهتمامه لما كتبه دوستوفسكي فترجم معظم أعماله، وكان محل تقدير واحترام في الوسط الثقافي الروسي والعربي، لما قدمه من خدمة جليلة بترجماته لكلا المكتبتين، العربية والروسية، فوصفه عميد الأدب العربي طه حسين، أن ما قدمه الدروبي يضاهي عمل مؤسسة ثقافية بأكملها، ونقل عنه أنه سأل المستشرق الروسي فلاديمير کراستوفسكي، عن رأيه في ترجمة سامي الدروبي للأعمال الكاملة لدوستويفسكي قـال: “إن سامي الدروبي لا يقرأ، ولا يترجم، فحسب بل يعايش المؤلف، فعلاً لو أن دوستويفسكي كتب بالعربية، لما كتب أجمل من ذلك”.
لم يثنِ الدروبي عن عمله شيء، ولم تحل بينه وبين إنجاز ما يصبو إليه شدة، حتى وهو يعيش لحظاته الأخيرة في الحياة، وعرف عنه أنه ليلة 12 شباط عام 1976، وكان قد اشتد عليه المرض، وألزمه الفراش، لكنه نهض تاركا فراش المرض، وتوجه صوب مكتبه، بعد أن رفع أنبوب الأكسجين عن وجهه، متجاهلاً حدّة مرضه وخطورته، فسمعت ابنته ليلى حركة في المنزل! فهرعت إلى غرفة والدها، ووجدته يحمل معجماً بين يديه، فلم يرق لها ذلك، وطلبت منه برفق أن يدع المعجم جانبا ويعود للفراش، غير أنه أصر على إنجاز ما قام لأجله، وأجابها بهدوء: هناك كلمة تقلقني، وأظن إنني ترجمتها خطأ، سأراجعها وأعود إلى النوم، اذهبي واستريحي.
غادرت الابنة الغرفة، وعاد الوالد إلى مكتبه، وجلس يقلّب أوراق المعجم، ثم أحنى رأسه، ليحتضنه الكتاب للأبد”.
كان الدروبي على وشك الانتهاء من ترجمة «الحرب والسلام» لتولستوي، لكن القدر لم يمهله، فتولت ابنته مهمة إكمال الصفحات الأربعين المتبقية من الكتاب، يُحسب للدروبي إنجازه الأكبر، الذي حققه بترجمة كامل أعمال دوستويفسكي، التي أنجزها في ثمانية عشر مجلدا، ناهز عدد صفحاتها أحد عشر ألف صفحة. ترجمها عن الفرنسية، ولم يكترث لتهديدات الجلطات القلبية، التي أنذرته ثلاثا، وأنهت حياته في المرة الرابعة يوم الثاني عشر من شباط عام 1976، ونال عن مجمل أعماله التكريم بمنحه جائزة لوتس للأدب في عام 1978 بعد وفاته.
ومن أحد الأعمال المترجمة، التي قام بها الدروبي رواية “المثل قصة أليمة” وفي تفاصيلها فكالعادة، يقدم لنا دوستويفسكي في هذه الرواية صورة أخرى من صور النفس الإنسانية.
“إن جوليادكين إنسان مزدوج الشخصية… فمن رآه من الخارج سمّاه مجنونًا وكفى”، أما دوستويفسكي فإنه يراه من الداخل، ويعيش معه تجربته النفسية، وهو لذلك لا يكاد يضحك عليه. بل على العكس، إنه يُبرز جانب المأساة في حياة إنسان يتعذب، لا عن ظلم اجتماعي فحسب، بل عن مرض نفسي قد يتصل بالظلم الاجتماعي.
فمن لم يكن قادرا، بحد أدنى، من تجربة شخصية، على أن يرى ما يراه دوستويفسكي في بطله من الداخل، لن يستطيع أن يعرف كل العمق النفسي في تصويره شخصية هذا البطل بالعين البصيرة والريشة البارعة.
وفي “المثل قصة أليمة” نرى نقدًا، بل تهكمًا، لاذعًا على البيروقراطية الروسية أثناء الإصلاحات الكبرى في عهد ألكسندر الثاني. فقد وُجد في ذلك الزمان جيل من رجال جدد، رجال مثاليين يدعون إلى الإصلاحات الليبرالية. ولكن دوستويفسكي يصف لنا في هذه القصة، التمزق المضحك الذي يعتمل في نفوس أمثال هؤلاء الرجال، ويكشف عن النقص في عزيمة البيروقراطيين، الذين ينتمون إلى هذا النظام الجديد، ويتخذ دوستويفسكي من الموظف الكبير، “الجنرال مدني” برالنسكي، نموذجًا لهؤلاء. إن برالنسكي رجل طموح يتحمس لتيار النهضة الاجتماعية، الذي كان يهز نفوس الناس في ذلك العصر، فهو يعد نفسه ليبراليًا، ويتكلم بفصاحة وبلاغة عن الآراء الجديدة، ويدعو إلى النزعة الإنسانية، وينادي بحسن معاملة المرؤوسين، لكن النتيجة تأتي عكس ذلك، ويتكشف أن ليبراليته لم تكن إلا نزوة عابرة.
الثقافة – صحيفة روناهي
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=25743