الخميس, نوفمبر 21, 2024

السرد ما بين الرتيب والمدهش “زريعة إبليس” لـ نسرين المؤدب نموذجاً

ريبر هبون

بدأت روايتها على لسان بطلة تتحدث عن انغماسها في محيط إعجابها بوالدها، طريقة الولوج لتفاصيل قد تبدو عادية للوهلة الأولى ، إلا انها طٌرحت بلغة رشيقة توغل في الدراما وترصد السحنات النفسية للشخوص، تجسد علاقة المرهف بالمحيط الإنساني، هذه الرواية القصيرة تؤمن كاتبتها بالتكثيف والاقتصاد اللغوي والتركيز على البعد الإنساني الذي يجمع الإبنة بوالدها ووالدتها، ولعل الحب هنا يمثل يقيناً أولاً للحياة، وتأكيداً على حضور الذات في المحيط وكذلك المتقابلات والمتضادات في الطبيعة والأشياء، حيث تسبر نسرين المؤدب الأغوار من خلال تلك اللغة المحبة للاكتشاف، لخوض غمار التساؤل ومعرفة كنه الكون وحكمة المصادفات وجدوى التعلق وألمه، هكذا تنتقل بين العبارات المسترسلة في تأويل النقد ومغازيه، حيث الرواية هنا ساحة لفك ألغاز ما غمض من الوجود الإنساني ، إنها تتعامل مع الحياة بما تحوي من بساطة وجمالية ورتابة وتحفيز، ص 19: ” أنا ممتنة لكل ما يحدث في حياتي ، ربما من الأفضل لي أن يبقى الوضع على حاله، أخشى أن يقتحم ذكرٌ حياتي المرتبة فيفسد حمرة الشفاه التي أستحقها وهو أمر يمكن تقبله أو بالأحرى أتوق إليه لكني لن أقبل أن يفسد أحدهم الماسكرا الذي يظلل عيني السوداوين اللتين أكحلهما بطريقة مسرحية. “

إنها تدخل أعماق التفاصيل، حيث تقنية السرد المدهش تبعث على الرواية جواً من التشويق الخالص، فالتساؤل الذي يتخلل الحدث وتلك المشاعر الأنثوية الجامحة في براري وصف الأعماق وإعادة صهر فوضى المكان في الداخل، الحوار لدى نسرين المؤدب يتسم في بداية الرواية بكونه خاطف ورقيق ويبعث على الإثارة، كل ذلك من شأنه أن يجعل القارئ يقرر بحزم ودون تردد أن يكمل الرواية حتى نهايتها، تنطلق في خيالها من أدوات الواقع ، الحياة المتجددة والمتغيرة بتسارع وما يفعله هذا التغير من تطورات على صعيد استقبال المرء للأفكار والانطباعات وكذلك المشاعر المتعددة، لكن ثمة أمر آخر في المقابل ، حيوية السرد ينبغي أن تتصل مباشرة بعظمة الفكرة التي يسعى الروائي أو تسعى الروائية لطرحها، فإن كان السرد حيوياً فالفكرة ينبغي أن تكون شديدة التشويق والتأثير وإلا فإننا أمام ترف لغوي وبذخ في التعابير العاكسة فيوضات الحياة وهمومها اليومية العامة، ولا يعنى المتلقي اليوم إلا بالرواية المثيرة المدهشة والمثقلة معرفياً ، فالتشويق لا يرتبط بالروايات البوليسية فحسب وإنما يرتبط بالرواية عموماً، فعليها إذاً أن تتسلح بالمادة الفكرة والحبكة الفنية والمونولوج الدرامي والتمثيل الفني والخيال المتقن والخروج عن المألوف، وهنا أجدني مطالباً بقول ذلك دائماً ، فالمتلقي ينتظر ما يحركه ويثيره ويقلقه، يغضبه أو يحزنه أو يجعله بمعرض تساؤلات لا تتوقف وبذلك فسوف يواصل القراءة للنهاية دون أن يتراجع، حيث غياب الفكرة المؤثرة يجعل السرد عبارة عن حصان بلا خيّال، تائه في البراري المقفرة، فعادة يقوم نقاد السينما بالتعليق على أفضل فيلم شاهدوه ليتم اختياره فيما بعد لجائزة معينة، حيث لا تحفل السينما ولا يحفل الأدب سوى بالقليل الذي يمكن الحديث عنه حاضراً ومستقبلاً.

يمكن الحديث بهذا الصدد عن الرواية المؤثرة مهما كان نوعها فلابد من أن يقوم المؤلف الحذق بصقلها بما يلزم من سرد متقن وأفكار متقنة تبرز فيهما قوة الثقافة وجدة الطرح والرفد المعرفي الذي يظهر في سرد الحكاية وكذلك تقديم الشخوص الذين هم حوامل أو ترعات مائية تتدفق من خلالها المياه، فالرواية الأكثر جدلاً هي الرواية المطلوبة، تلك البعيدة عن العادية والسطحية، لنتأمل هذا السرد بغية الوقوف عنده بعد ذلك : ص41 “عادني الخوف وجر معه إحساساً قاتلاً بالذنب، الحب هو المذنب ، كبلني بأوهامه وجعلني صماء، عمياء، عادت كوابيسي لتنبهني ولم أصح من غفوتي إلا حين غمرتني موجة نحس جبارة.”

السرد هنا يتسم بعاديته ورتابته ولا يفصح عن شيء مثير، يمكن اعتباره جزء من خاطرة ذاتية، حيث نجد التعريف المبهم للحب الذي يتسم بمزاجيته وعدم وضوحه حيث لا يعد السرد هنا أكثر من حديث عن الحياة اليومية التي لا يخلو فيها من  الحشو والتنميق، إذ يتباين السرد في هذه الرواية ما بين صعود وهبوط وعادية، ويمكن قياس ذلك المثال على التالي وهكذا، فالسرد الرتيب وقوة الفكرة يكملان بعضيهما بشدة إذا استطاع الكاتب مسك زمامهما بعناية واحترافية.

-خلاصة:

إنها رواية اجتماعية تهتم بجوانب الحياة وعلاقة المرأة بما حولها ، كذلك تنقل لنا طبيعة الحياة المعيشة زمن تفشي وباء كورونا، اتسم السرد فيه بجودته وخلوه النسبي من الإثارة والمونولوج الداخلي ، وأحياناً يدخل في الكشف الذاتي لأوروام الذات وعللها نتيجة احتكاكها بالآخر عاطفياً، فقد غاصت الكاتبة في فصل الصندوق الأسود التي أخذت الكاتبة فيه تتحدث عما قالته آمال لابنتها حورية ، راح السرد هنا يدخل مكامن النفس حيث لفتتني عبارة : “السعادة غادرة تمكر بنأيها كما تمكر المنية بدنوها” راحت من خلالها الكاتبة تغوص في العمق الإنساني أكثر، تستنطق مريضة على فراش الموت قبل ان تودع هذا العالم ، هنا على سرير الفناء ، يعد المرء ساعاته الأخيرة ليقذف كل ما بداخله دفعة واحدة، مع هذا الفضاء المتخم بالذكريات والأحاديث والأعمال، رسائل آمال لصديقتها سميرة هنا ، رأت نسرين المؤدب من إسلوب الرسائل وسيلة سردية أخرى لتمرير أفكارها عن الحياة وطبيعة النفس المسترسلة في الحديث عن حقب خلت من الماضي، هكذا تصبح الرواية في فضاء السرد المتباين ما بين المدهش والرتيب، العادي أو النفسي، آمل لقلمها دوام الإرتقاء والألق على طريق الإبداع الذي ينشد القمة أبداً.

 

شارك هذه المقالة على المنصات التالية