خالد علي سليفاني
على مدى قرون طويلة، أسهمت الصراعات المستمرة مع القوى الإقليمية، إضافةً إلى النزاعات الداخلية والمواقف الدولية المتقلبة، في تشكيل الشخصية الكوردية وسلوكها الجمعي. ومن أبرز التحديات التي واجهها الكورد عبر العصور غياب الرؤية الاستراتيجية طويلة الأمد، مقابل الميل إلى اتخاذ قرارات آنية متأثرة بالظروف المتغيرة. يعكس كتاب “كوردستان في التاريخ الحديث” للأستاذ الدكتور علي تتر نيروَي صورة واضحة عن المعضلات الفكرية والنفسية التي واجهت الكورد عبر العصور، خاصة فيما يتعلق بالانقسامات الداخلية، والاستجابة المتأخرة للأحداث، وصعوبة تحقيق الوحدة القومية. في هذا التحليل، سنحاول الغوص في أعماق التركيبة النفسية والفكرية والعاطفية للشخصية الكوردية، وفق المعطيات التاريخية التي وردت في الكتاب.
أولًا: السمات النفسية للشخصية الكوردية
تُظهر الفصول المختلفة من الكتاب أن الشخصية الكوردية قد تشكلت عبر مزيج من العوامل التاريخية والثقافية والجغرافية والسياسية، والتي تركت آثارًا عميقة على الوعي الجمعي للكورد. ومن أبرز هذه السمات:
1. الإحساس العميق بالمظلومية والتوجس من القوى الإقليمية والدولية
يشير المؤلف إلى أن الكورد تعرضوا عبر التاريخ لخيانات متكررة من القوى الكبرى، سواء من الدول المجاورة (الفرس، العثمانيون، العرب، والأتراك) أو من القوى الدولية العظمى. أدت هذه التجربة إلى تكوين وعي سياسي كوردي يميل إلى الشك والريبة في التعامل مع القوى الخارجية.
يبرز الكاتب أن الاتفاقيات الدولية، مثل معاهدة سايكس – بيكو واستفتاء إقليم كوردستان 2017، كلها محطات زادت الشعور بالخذلان لدى الفرد الكوردي، حيث كان يتوقع دعمًا دوليًا ولم يجده.
كما يؤكد الكتاب أن الشعور بالظلم والتهميش أسهم في ترسيخ إحساس دائم بانعدام العدالة وازدواجية المعايير في السياسة الدولية تجاه القضية الكوردية، مما عزز الحذر المفرط في التعامل مع المحيط السياسي.
ثانيًا: النزعة الاستقلالية والتمرد السياسي
من خلال استعراض أحداث مثل ثورات علي باشا جانبولاد ضد العثمانيين (1605 – 1611)، وانتفاضات الإمارات الكوردية ضد السلطنة العثمانية والصفويين، يمكن ملاحظة أن الكورد تميزوا بنزعة استقلالية قوية جعلتهم يرفضون التبعية للأنظمة المركزية، ويميلون إلى الحكم الذاتي واللامركزية.
مع ذلك، يوضح الكاتب أن النزعة الاستقلالية لم تُرافقها رؤية استراتيجية بعيدة المدى، مما جعل الكورد عرضة للتفكك الداخلي. فقد رفض الأمراء الكورد مرارًا الانضواء تحت سلطة موحدة، الأمر الذي أدى إلى انقسامات استغلّتها القوى الخارجية لإخضاعهم.
يذكر الكتاب أن الملا إدريس البدليسي استطاع إقناع أكثر من 55 أميرًا كورديًا بالتحالف مع العثمانيين، لكنهم رفضوا الخضوع لسلطة أمير كوردي واحد، مما جعل وحدة القرار السياسي الكوردي مهمة مستحيلة عبر التاريخ.
ثالثًا: العقلية الكوردية بين البراغماتية والاندفاع العاطفي
تُظهر الدراسات التاريخية في الكتاب أن العقلية الكوردية تميل إلى اتخاذ قرارات وفق المصلحة الآنية، دون تخطيط طويل الأمد، وهو ما أدى إلى وقوعها مرارًا ضحّية للمتغيرات السياسية المفاجئة.
الاعتماد على الحلول المؤقتة بدلًا من التخطيط الاستراتيجي
يظهر في الكتاب أن الأمراء الكورد في القرون الماضية كانوا يبدّلون ولاءهم بين الصفويين والعثمانيين وفق الظروف الآنية، دون بناء تحالفات ثابتة أو استراتيجية قومية بعيدة المدى.
يشير الكاتب إلى أن أحد الأسباب الجوهرية لعدم قيام دولة كوردية هو هذا النمط من اتخاذ قرارات مؤقتة دون استراتيجية واضحة للحفاظ على الاستقلال طويل الأمد.
التأثر بالمحيط الإقليمي والمعتقدات الدينية
كان الملا إدريس البدليسي مثالًا على الشخصية الكوردية التي دمجت بين الفكر الديني والسياسة، مما انعكس على قراراته.
يشير الكتاب إلى أن كثيرًا من الزعماء الكورد لم تكن لهم نظرة سياسية بعيدة الأمد، بل تصرفوا وفق الدوافع الدينية أو الولاء العشائري، ما أدى إلى ضياع فرص تاريخية لتحقيق الوحدة القومية.
الحساسية العاطفية والميل للاندفاع
تعكس كتابات المؤلف حدة المشاعر القومية عند الكوردي، خاصة عند الحديث عن المآسي التاريخية مثل الأنفال والمجازر العثمانية والصفوية.
هناك تفاعل عاطفي شديد مع المظالم التي تعرض لها الكورد، وهو ما أدى إلى انفعالية عالية تجاه كل ما يمس الكرامة القومية.
هذه العاطفة الشديدة تجعل الكوردي قادراً على التضحية لأجل شعبه، لكنها في الوقت ذاته قد تؤدي إلى قرارات متسرعة عاطفية دون حساب العواقب الاستراتيجية.
ثالثًا: الاستنتاجات النهائية حول الشخصية الكوردية
بعد تحليل الكتاب، يمكن تلخيص خصائص الشخصية الكوردية في ثلاث جوانب رئيسية:
نفسيًا: فخر قومي شديد – إحساس بالظلم التاريخي – نزعة استقلالية قوية – عدم الثقة بالقوى الخارجية – ردود فعل حادة عند الإحساس بالتهديد.
فكريا: الميل إلى اتخاذ قرارات آنية – براغماتية في التحالفات – تأثر بالفكر الديني في اتخاذ المواقف – النزعة العشائرية تؤثر على القرار القومي.
عاطفيًا: مشاعر قوية تجاه الشعب والوطن – الإحساس بالخذلان – التفاعل العاطفي الحاد مع القضايا القومية – التعاطف مع قضايا الشعوب الأخرى رغم المعاناة.
دينيا: التسامح الديني بين الطوائف الكوردية المختلفة، مما جعل الكورد أقل طائفية مقارنة بجيرانهم.
ختامًا: يظهر الكتاب أن الشخصية الكوردية تشكّلت في ظل أزمات متكررة من الظلم والاضطهاد والمقاومة، مما أفرز شخصية فخورة وصامدة، لكنها عاطفية، تحرّكها الكرامة القومية أكثر من المصالح البراغماتية. ومع ذلك، يبرز الكاتب نقدًا لتشتت الصف الداخلي والنزعات العشائرية التي أسهمت في عرقلة المشروع القومي الكوردي.
يبقى السؤال الجوهري الذي يطرحه الكتاب ضمنيًا: هل يمكن أن يتحول الشعور بالظلم والشك بالآخر إلى دافع لتشكيل رؤية سياسية استراتيجية بعيدة المدى؟ أم أن النزعة الفردية والتأثيرات الدينية والولاءات القبلية ستبقى عوائق أمام تشكيل كيان سياسي موحد ومستقل؟
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=65145