الأحد 01 حزيران 2025

الشرق الأوسط وصراع الهيمنة الاقتصادية

شرفان سيف الدين

بدأت الصراعات البشرية، بكل تأكيد، مع انطلاق الحياة على وجه البسيطة، وبطبيعة الحال فإنّ هذه الصراعات قد تغيّرت وتطوّرت مع فهم الإنسان للطبيعة ولما يجري حوله من كوارث طبيعية ومتغيّرات في حالة الجو وتقلّباتها الموسمية، ومع فهم الإنسان لغريزة حبّ التملّك والتفرّد وتخصيص الأشياء بمنحى (لي) و(أنا)، والابتعاد عن المجموعة أو الكتلة، وهكذا بشكل متوالٍ في التخصيص، أي بما معناه أنا كشخص أولاً ثم عائلتي كمجموعة صغيرة ثم المجموعة التي انتمى إليها …إلخ. وقد تطوّرت هذه الصراعات ما بين البشر في حب السيطرة والتملّك والتفرّد مع تطوّر الفكر الإنساني، وبالتالي تحديد الأهداف التكتيكية والاستراتيجية في تأمين نفسه ومستقبله، حيث أخذت هذه الصراعات أشكالاً فكرية في بعض المراحل، وأشكالاً دينية في مراحل أخرى. ومع انتهاء العصور الوسطى وبدء العصر الحديث وخاصةً فيما بعد الثورات الغربية في الولايات المتحدة الأمريكية وتحرّرها من الهيمنة الأوروبية والثورة الفرنسية في أوروبا، وفهم الغرب لضرورة فصل الدين عن الدولة وتأسيس وتشكيل المؤسسات المدنية التي تقود المجتمعات بعيداً عن الأمور اللاهوتية والعبادات؛ بدأت الحياة المدنية تتطوّر بشكل متسارع، وبالتالي بدأ الانفتاح على المجتمعات والأعراق الأخرى، والتعامل مع بعض على أساس مصلحيّ وتبادلي في تلبية النواقص بين هذه التكتّلات. ومع الثورة التكنولوجية الهائلة التي نعيشها ومع الزيادة الهائلة في عدد سكان الكرة الأرضية أصبحت الصراعات أيضاً تتطوّر وتأخذ منحىً خطيراً على الفرد والبشرية بشكل عام.

طبيعة العلاقة ما بين الغرب والشرق، وخاصةً في الشرق الأوسط:

ممّا لا شكّ فيه أنّه تكمن أهمية الشرق الأوسط في:

  • موقعه الجغرافي كعقدة وصل ما بين الشرق والغرب.
  • كما أنّه مركز للحضارات القديمة ومهد للديانات السماوية.
  • إضافةً إلى ما يملكه من ثروات طبيعية يمدّ بها العالم بالطاقة الأحفورية ويستفيد من الطاقة المتجدّدة.

كل ما سبق كان من أهم الأسباب التي تجعل منطقة الشرق الأوسط محطّ أنظار الغرب والشرق الصناعي والتجاري لتصريف بضائعه، والاستفادة من طرق الترانزيت فيها، وخلق طرق وممرّات جديدة أيضاً، وعليه؛ تختلف نظرة كل دولة إليها وكيفية الاستفادة القصوى منها؛ فمثلاً:

  • الولايات المتحدة الامريكية: بشكل عام تنظر الولايات المتحدة الأمريكية إلى الأمور وإلى سياساتها الخارجية من مبدأ أو منطق الربح والخسارة؛ فهي تُعتبَر رأس الهرم في العالم الرأسمالي الحديث، وما تبعته من ثورة رقمية تتطوّر بشكل هائل؛ فهي ليست لديها أيّة مشكلة مع تصفية أو الانتهاء من الفرّد أو الشخص غير الإيجابي أو المنتج (بحسب منظورها طبعاً)، ومع وصول الرئيس الحالي دونالد ترامب لسدّة الحكم في دورته الثانية اجتمع الجشع الشخصي مع المؤسساتي، ويلاحَظ ذلك من خلال أربعة الأشهر الماضية على حكمه، وترسّخت هذه الفكرة من خلال زيارته لدول الخليج العربي والتي تركّزت في مجملها على الجانب الاقتصادي والتكنولوجي والتسليح الأمني، وطرح أرقام خيالية من الاستثمارات في هذه البلدان، والتي صرّح الرئيس نفسه بأنّها تقارب ما بين 12 – 13 تريليون دولار أمريكي.
  • الصين الشعبية: إنّ الأشواط التي قطعتها وتقطعها جمهورية الصين الشعبية في الجانب الاقتصادي منذ بداية القرن الحالي أو ما يسبقها بعقد تقريباً تُعتبَر من أهم القفزات النوعية على المستوى العالمي، وتُعتبَر الصين التنّين الشرقي في مواجهة الغرب الذي بدأ يتنبّه له مسرعاً؛ ممّا أدّى إلى زيادة التنافسية معه على مستوى العالم أجمع، فقد بلغت القيمة التراكمية لاستثماراتها في الشرق الأوسط منذ بداية القرن الحالي ولغاية 2023 م نحو 318 مليار دولار أمريكي، وبالتالي تتبع الصين سياسة براغماتية بحتة بالنسبة لمصالحها الاقتصادية؛ فهي تتجنّب بشكل دائم أي صِدام سياسي أو دبلوماسي مع الغرب، وذلك للمحافظة على مصالحها الاقتصادية بالدرجة الأولى.
  • روسيا الاتحادية: بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في تسعينيات القرن الماضي، وبعد هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على العالم في جانبيه السياسي والاقتصادي، وترسيخ مبدأ القطب الواحد في إدارة العالم وتنصيب نفسها الشرطي الأوحد لذلك، فقد كان الدور الروسي ثانوياً أو خجولاً نوعاً ما في رسم السياسات الدولية، ولكن مع وصول الحزب الاشتراكي الحالي إلى سدّة الحكم مع بداية القرن الحالي؛ فقد طوّر من أسلوبه في التعامل مع الغرب وأوروبا، وخاصةً مع امتلاكه للطاقة التي تمدّها به، وعلى رأسها الغاز، وبما أنها بالأساس تملك رصيداً كافياً من العلاقات الدولية؛ فقد خطت خطوات عملية سريعة في هذا المجال؛ ما أدّى إلى عودتها السريعة إلى المشهد الدولي في رسم سياسات العالم وتحالفاته، حيث أنّها تُعتبَر القوة العسكرية الثانية من حيث الإمكانات، وطوّرت من علاقاتها مع دول الشرق الأوسط والشمال الأفريقي على هذا الأساس.
  • الاتحاد الأوروبي: عملياً؛ ألمانيا وفرنسا هما اللتان تديران هذا الاتحاد إلى جانب إيطاليا وإسبانيا ولو بشكل أقلّ نوعاً ما، خاصةً بعد الانسحاب الأخير للمملكة البريطانية المتحدة، ويُعتبَر هذا الاتحاد الواجهة السياسية والاقتصادية لأوروبا، بل يمكننا اعتباره الواجهة العسكرية إذا ما اعتبرنا أنّ حلف الناتو العسكري يضم غالبية الدول الأوربية بالإضافة إلى الولايات المتحدة، وبالتالي كتلة اقتصادية يمكن الاستفادة منها في الاستثمارات والعلاقات الدولية، خاصةً مع امتلاكه لعملة مشتركة تتّخذها بعض دول العالم كعملة إضافية في تثبيت احتياطاتها إلى جانب الذهب والدولار الأمريكي، وبذلك فإنّها تُعتبَر هدفاً آخر لخلق علاقات سياسية واقتصادية مع الشرق وعالمه الإسلامي.

العالم الإسلامي في الشرق الأوسط أهدافه وخططه:

يمثل الصراع في الشرق الأوسط اغلب أو معظم الصراعات في العالم، وهذه الصراعات بشكل عام ما هي إلّا صراعات ذات خلفية دينية أو مذهبية أو أيديولوجية بحتة، ولا ترتكز في أساسها على التطوير الاقتصادي أو التكنولوجي أو التنافس في هذه المجالات وتطويرها، فمثلاً الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، والتنافسات الإقليمية ما بين الدول الكبرى التي تدير المنطقة، كلّها تتركّز على الجانب الديني أو المذهبي مع وجود هامش بسيط أو خجول للتركيز على الجوانب العلمية والتكنولوجية؛ وبذلك يبقى أفق الصراع ضيّقاً من خلال هذا الفضاء للدول الإقليمية التي تتحكّم في النفوذ وتسيطر على قرارات باقي الدول مع خلق كل طرف لاتباع له:

  • المملكة العربية السعودية: تُعتبَر المملكة العربية السعودية الوجهة الأولى للعالم الإسلامي على اختلاف مذاهبه؛ وذلك بسبب وجود الأماكن المقدّسة الخاصة بالديانة الإسلامية فيها، وتحاول المملكة جاهدة للحفاظ على هذه المكانة بشتّى السبل، وتعتبر المنافسة مع جمهورية إيران الإسلامية من أهم مرتكزاتها رغم تحسّن العلاقات وتدهورها بين الحين والآخر.
  • جمهورية إيران الإسلامية: وهي أيضاً تُعتبَر من أهم الدول الإقليمية في المنطقة؛ لأنّها تقود العالم الإسلامي الشيعي وتحاول جاهدة نشر وتوسيع هذا المذهب في المنطقة الجغرافية، ويُعتبَر مشروعها “الهلال الشيعي” من أهم المشاريع التبشيرية رغم تعرّضه خلال السنة الماضية لضربات قاصمة في أهم أذرعها في المنطقة، والتي تمثّلت في حزب الله اللبناني والنظام السوري وحالياً الحشد الشعبي في العراق وحركة الحوثيين في اليمن.
  • تركيا: منذ بداية القرن الحالي، أي مع وصول حزب العدالة والتنمية، ذي التوجّه الاخواني الإسلامي، لسدّة الحكم، والابتعاد عن أسس الدولة العلمانية التي تشكّلت على أساسها، بدأ هذا الانحراف يؤثّر على عَلمانية الدولة التركية وعلاقتها مع الغرب سلباً، وبالتالي الانحراف عن الخط المرسوم لها في إمكانية قيادة المنطقة كدولة إقليمية لها وزنها ومكانتها، إضافة إلى حلم قادتها الجدد في قيادة العالم الإسلامي السُّنّي واسترجاع الخلافة الإسلامية مذهبياً، وإعادة الاحتلال العثماني من خلال تطبيق الميثاق الملّي جغرافياً، إضافةً إلى صهر القوميات مثل الكرد والأرمن في داخلها اجتماعياً، كل هذه الأسباب كشفت الوجه القبيح لهذا النظام مبكّراً رغم دعواته ووعوده بتصحيح مساره الذي لا يتعدّى النوايا السيئة.
  • قطر: تُعتبَر دويلة قطر، رغم مساحتها الجغرافية الضيّقة، من أهم الدول الإقليمية تأثيراً في رسم سياسات المنطقة؛ وذلك لسببَين: أوّلها لامتلاكها الثروات الباطنية الهائلة المستثمرة والاحتياطية، وثانيهما أنّه يمكن اعتبارها إحدى المحميات أو الغرف السوداء التي يتم من خلالها تطبيق سياسات وأجندات الغرب وخاصةً البريطانية، وهي تحاول جاهدة لخلق مكانة تنافسية لها من دعمها للمحور التركي السُّنّي على حساب المحور السعودي المصري السُّنّي.
  • جمهورية مصر العربية: هي الأخرى تُعتبَر من أكثر دول الشمال الأفريقي تأثيراً؛ فهي تحتضن المقرّ العام لجامعة الدول العربية، إضافةً إلى الأزهر الذي يُعتبَر مَعْلَماً ومرجعاً إسلامياً سُنّياً تلتزم بقراراته شريحة واسعة من المهتمّين بالدين، وتُعتبَر مصرُ أمّ العروبة لما لها من دور مهم في ترسيخ الفكر العروبي الذي انطلق منها مع ثورة الضباط الأحرار وتبنّيهم لهذا الفكر، كما أنّ لمصر دوراً هامّاً بسبب موقعها الجيواستراتيجي، وبسبب إشرافها المباشر على قناة السويس التي تُعتبَر من أهمّ المضائق التجارية في العالم، وبالتالي لها مصالحها وحساباتها الخاصة.

من خلال ما سبق نستنتج أنّ الغرب المتطوّر علمياً وعملياً يحاول دائماً خلق مساحات وسوق تصريف لمنتجاته الاقتصادية والتكنولوجية، وهو بذلك يرسّخ لفكرة بقائه مسيطراً على العالم بشكل أو بآخر، وتحاول الدول الإقليمية التوسّع الجغرافي على هذا الأساس، وربما لا يكون عن طريق السيطرة المباشرة أو الاحتلال المباشر الذي أصبح نموذجاً قديماً، بل عن طريق الهيمنة على القرار السياسي والاقتصادي، كما يحدث هذا الصراع في سوريا حالياً؛ فجميع الدول الإقليمية المؤثّرة تحاول لعب دور هذه الدول؛ وقد تبيّن ذلك جليّاً، وبشكل لا يدَعُ مجالاً للشكّ، من خلال زيارة الرئيس الأمريكي الأخيرة للمنطقة وقبوله الجلوس مع الرئيس السوري المؤقّت، ومحاولة ترويضه عن طريق المملكة العربية السعودية وتحويله من الإسلام السُّنّي المتشدّد الراديكالي إلى إسلام يلائم الغرب، وربما يكون بوّابة مرور من خلاله لتطبيع العلاقات مع إسرائيل بأسلوب مباشر أو حتى غير مباشر. وبالتالي؛ نلاحظ أنّ النظام السوري الحالي أمام اختبار حقيقي في تحديد موقعه وموقفه من الدول الإقليمية، وخاصةً المفاضلة ما بين القطب التركي، ومن خلفه الداعم القطري، وبين قطب المملكة العربية السعودية، وإلّا فإنّه سوف يقع في نفس المطبّ الذي وقع فيه سلفه البعثيّ السابق بشار الأسد الذي أُتيحت له فرصة العودة للحضن العربي على حساب التكتّل الشيعي الإيراني الذي كان اختياره حتى اللحظة الأخيرة، وقد دفع ثمن ذلك بهروبه المخزيّ تاركاً وراءه سوريا في حالة من الفوضى والفلتان.

المصدر: nrls