في كلِّ مرحلةٍ من تاريخِ الشعوب، كانتِ الإرادةُ الشعبيةُ هي البوصلةُ الحقيقيّةُ التي تحددُ اتجاهَ السياسة، وترسمُ ملامحَ الغَد. وإذا كانتِ الأحزابُ السياسيةُ تعرفُ نفسها باعتبارها ممثلاً أو معبّراً عن مطالبِ الناس، فإنَّ الامتحانَ الأكبرَ أمامها يبقى دائماً: إلى أيِّ مدى تنصتُ لإرادةِ الشعب وتترجمها إلى مشروعٍ عمليٍّ على الأرض؟
لا قيمةَ لحزبٍ سياسيٍّ مهما علا شأنُه إذا لم يكن متجذراً في نبضِ الشارع، فالشعبُ ليس جمهوراً متفرجاً يُستدعى فقط في الانتخاباتِ أو المناسبات، بل هو القوةُ المحرّكةُ والدافعةُ لكلِّ تغيير. ومن هنا، تأتي العلاقةُ بين الأحزابِ السياسيةِ والجماهيرِ كعلاقةِ تكاملٍ وتفاعل، لا كعلاقةِ وصايةٍ أو تبعية، فالمجتمعُ هو الذي يمنحُ الشرعيةَ، وهو الذي يسحبها أيضاً حين يشعرُ أن صوتَه يُهمّشُ أو يُستغلّ.
المطالبُ الشعبيةُ اليوم لم تعد محصورةً في الحقوقِ السياسيةِ وحدها، بل امتدت لتشمل حقّ العيشِ الكريم، الحقَّ في التعليمِ والصحةِ والعمل، الحقَّ في المساواةِ والعدالة، والحقَّ في المشاركةِ الفعليةِ في اتخاذِ القرار، وهذه المطالبُ ليست شعاراتٍ تزيّنُ الخطب، بل حقوقٌ طبيعيةٌ لا يمكن لأيّ قوةٍ سياسيةٍ أن تتجاوزها أو تؤجلها، ومن دون تلبية هذه الحاجاتِ الأساسية، لن تنجح أيُّ قوةٍ حزبيةٍ في بناءِ الثقةِ أو تحقيقِ الاستقرار.
إنَّ الأحزابَ السياسيةَ مطالبةٌ بأن تتحولَ إلى أدواتِ نضالٍ جماعيٍّ، وأن تتجاوزَ الحساباتِ الضيقة التي كثيراً ما قادت إلى التشتّتِ والانقسام، فالتاريخُ علّمنا أن ما من حزبٍ قادرٍ بمفرده على حملِ قضايا الشعبِ بأكملها، لكن وحدةَ الموقفِ، وتكاملَ الجهودِ، وفتحَ قنواتِ الحوارِ مع جميعِ فئاتِ المجتمع، هي وحدها ما يصنعُ قوةً حقيقيةً قادرةً على مواجهةِ التحديات.
في المقابل، فإنَّ الشعبَ بدورهُ ليس مجردَ متلقٍّ للوعودِ، إذ عليه أن يفرضَ حضورهُ الواعي، وأن يحاسبَ بوعيٍ، وأن يدعمَ بقوّةٍ كلَّ مبادرةٍ تخدمُ مصالحَه العامة، فالجماهيرُ حين تتحركُ، وتعبرُ عن مطالبِها بروحٍ جماعيةٍ، تصبح قوةَ ضغطٍ لا يمكن تجاوزها، وكلما كان وعيُ الناسِ عالياً بحقوقِهم، ازدادت صعوبةُ تهميشِهم أو الالتفافِ عليهم.
اللحظةُ الراهنةُ تتطلبُ من الجميعِ ـ شعباً وأحزاباً ـ إعادةَ بناءِ العلاقةِ على أساسِ الثقةِ المتبادلة: الثقةُ بأن الحزبَ هو وسيلةٌ لخدمةِ المجتمعِ لا غايةَ بحدِّ ذاته، والثقةُ بأن الشعبَ هو الحارسُ الحقيقيُّ لأيّ مشروعٍ سياسيٍّ، فالوعي بهذه المعادلة هو ما يضمنُ أن تظلَّ السياسةُ انعكاساً حقيقياً لإرادةِ الناسِ، لا أداةً لفرضِ الوصايةِ عليهم.
في النهاية، يبقى القولُ الفصلُ إنَّ الشعبَ هو الأصلُ، والأحزابُ هي الوسيلةُ، وما لم يكن الأصلُ هو المرجعُ، ستبقى الوسيلةُ مجردَ شكلٍ بلا مضمون.. إنَّ بناءَ المستقبلِ العادلِ والحرِّ لن يتحقق إلا بشراكةٍ حقيقيةٍ، تقومُ على الاستماعِ، والمساءلةِ، والعملِ المشتركِ، حتى يكون صوتُ الشعبِ حاضراً في كلِّ قرارٍ، ومعبّراً عنه في كلِّ سياساتِ الغد.
*افتتاحية العدد 107 من صحيفة السلام
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=75124