الجمعة, مارس 7, 2025

الكتاب المفقود من تاريخ كردستان

محمد شمدين

كتاب «الكتاب المفقود من تاريخ كردستان» عبارة عن تحقيق قامت به المؤرخة الروسية يفغينيا إيلينا فاسيلييفا (Elena Vasilyeva) لمخطوطتين اثنتين حول التاريخ الكردي وهما: (مخطوط كتاب الملا محمود البايزيدي بعنوان «التاريخ الجديد لكردستان» ومخطوط «الحديقة الناصرية» لميرزا علي أكبر كردستاني)، الترجمة عن الروسية إلى الكردية (السورانية) منصور صدقي، وهو من منشورات الأكاديمية الكردية في إقليم كردستان لسنة 2023، ويقع الكتاب في 241 صفحة من القطع المتوسط.

تقدم هذه القراءة عرضاً لمخطوطة الملا محمود البايزيدي التي كتبها بتاريخ 1857-1858 بعنوان «التاريخ الجديد لكردستان»، حيث قام المستشرق والكوردولوجي البولوني أوغست جابا في 30 مارس/آذار 1867 بمراسلة الأكاديمية العلمية ليخبرهم عن فحوى الكتاب. وبناء على ذلك، تلقى موافقة الأكاديمية وثناء المؤرخ الروسي ليرخ بأنه مخطوط يستحق العمل عليه. وبتاريخ 13 يونيو/حزيران 1867، يرسل جابا نسخة مترجمة لمقدمة هذا الكتاب وهي عبارة عن 50 صفحة مع تعليقات جابا نفسه. وقامت المؤرخة الروسية يفغينيا إيلينا فاسيلييفا في البحث والتحقيق حول هذا المخطوط وخرجت بهذا الكتيب الذي هو عبارة عن تحقيق في مقدمة كتاب ملا محمود البايزيدي والذي، مع الأسف، لم تستطيع أن تجد أية نسخة كاملة للكتاب في مكتبة أوغست جابا. ولذلك، قامت بعنونة هذا الكتيب باسم «الكتاب المفقود من تاريخ كردستان». كما تم ضم الترجمة الكردية بالأحرف العربية في طبعة ديرشي لترجمة بايزيدي لكتاب «شرفنامه»، وأُعيد نشرها بالأحرف اللاتينية من قبل جان دوست وآفجي في رسالة في عادات الأكراد وتقاليدهم.
إلى جوار الأحداث التي عاصرها وعاشها الملا محمود في تدوين هذا المخطوط، فإن الكاتب يستند على كتاب شرف خان البدليسي «شرفنامه» في ربط الأحداث. ويقوم بإتمام ما حدث بعد عصر شرفنامه. ويذكر البايزيدي في المقدمة أن المخطوط ينقسم إلى 11 فصل يغطي الفترة الممتدة من 1785 الى 1858 (إلى تاريخ كتابة المخطوط) أي أنه يغطي الفترة التي تلت كتابة «شرفنامه» للبدليسي.
تتناول فصول الكتاب الإحدى عشر على التوالي الأحداث التي حصلت في أرضروم من عام 1785 الى 1857، والأحداث التي حصلت في معقل تحالف روزكي في منطقة موش وبدليس، والأحداث التي حصلت في مناطق محمودي ومركزها في خوشاب، والأحداث في منطقة وان، والأحداث التي في منطقة جولمرك/هكاري، والأحداث في منطقة رواندوز، والأحداث في منطقة بادينان وآميدي، والأحداث التي حصلت في منطقة بوتان وجزير، والأحداث التي حصلت في سيليفان في منطقة بايزيد، والأحداث التي حصلت في فارس والاحتلال الروسي، وكذلك الأحداث التي حصلت في أذربيجان وخوي وتبريز ويريفان وأورمية وماكو.

الحياة السياسية

واحدة من الإشارات التي ينقلها البايزيدي عن الواقع الكردي هو غياب الحاكم الكردي القادر على إدارة الصراع وقتها. فقد كانت هناك حروب دائمة بين سلاطين المغول والسلاطين السلجوقيين والشاهات الصفوية والقياصرة الروس. وكانت جميع حروبهم ونزاعاتهم تدور في المناطق الحدودية بين تركيا وإيران والعراق الحالية. ودائماً ما كانت المناطق الكردي منطقة نزاع، فكان الكرد يقدمون خدماتهم لهذا الجانب أو الآخر في مقابل مطالب قليلة، فيما كان أكبر مكسب حصل عليه الكرد عندما تحالف الأغوات والأمراء الكرد مع السلطان سليمان القانوني في حربه ضد الصفويين، حيث منحهم السلطان الحكم بالوراثة لمناطقهم تلك (ص 34). وفي هذا السياق، تتوفّر رواية عن محادثة حصلت بين السلطان العثماني سليمان القانوني ووالدته؛
أم السلطان: ولدي لماذا رجعت وتركت المنطقة للجورجين والقزلباشيين؟
السلطان: وضعت حاجزاً قوياً على الحدود بين الدولة العثمانية والصفوية والجورجية ولا أحد يستطيع تجاوزه.
أم السلطان: كيف استطعت القيام بذلك على هذه المساحة من الحدود وبماذا بنيته؟
السلطان: لقد بنيت الجدار من اللحم والدم فقد أوكلت الحدود الى القبائل الكردية من جورجيا الى بغداد والبصرة، ولقد وضعت صفاً من هذه العشائر فلا أحد يستطيع تجاوز الحدود ويهجم على دولة الإسلام (المخطوط ص 59/والكتاب المترجم ص35).
يشير المخطوط إلى سمات عامّة لدى القبائل الكردية، فهي تحترم زعماءها ويقدمون لهم الولاء ولا يعترضون على قراراتهم ولا يحاربون بعضهم البعض في حال وجود عدو خارجي. كما أنهم لا يتفقون على شخص منهم يقوم بقيادتهم، ولكنهم على العكس يتفقون على شخص آخر أو من قومية أخرى ليقودهم. فمثلاً، يمكن لشخص أرمني أن يصبح قائداً عليهم ولا يخرجون عليه. وفي كل قبيلة، توجد نخبة مقاتلة يطلق عليها «شوركيش» (المقاتلون) تنشط تحت تصرف العشيرة وتقوم بأعمال الدفاع عنها ضد أي عشيرة أو قوة أخرى وتتكلّف بأعمال السلم والحرب مع الآخرين (ص 55-57). ويملك الكرد خبرة قتالية قوية جداً وخاصة في الاعمال القتالية ليلاً، حيث ان أراضيهم كانت ساحات حروب على الدوام. كما تقاتل الكرديات في أوقات الحرب الى جانب الرجال (ص 64- 65).
ومثل جميع المفكرين الكرد، يشير البايزيدي أنه لو كان هناك اتفاق بين الكرد كان يمكن أن يكون لديهم دولتهم الخاصة (ص 66)

التوزع اللغوي في كردستان

يخبرنا البايزيدي بحسب خبرته، وضمن المناطق التي استطاع زيارتها لرسم توزع اللهجات الكردية في المنطقة (ص 36)، أن اللغة التي يكتب بها الكرد ويقرؤوها هي لغة واحدة، فالكلمات والأبجدية هي نفسها. ولكن في المحادثات، هناك اختلاف حيث توجد لهجات تتوزع على الشكل التالي:
اللهجة الرواندية: يتكلم بها كرد جلدر (جالديران) قارس، بايزيد وماردين ووان، وأيضاً كرد خربوط وآمد/ديار بكر وحتى محيط أرضروم وكذلك الكرد الرحل هناك.
لهجة منطقة جولمرك/هكاري وبوتان وخيزان وموكس وزيباري: وهي لا تختلف عن اللهجة الرواندية كثيراً.
لهجة منطقة السليمانية وشهرزور: وهذه اللهجة تختلف عن اللهجات السابقة.
لهجة زازا: ويتحدث بها كرد منطقة أرزروم وديرسم وجبل آجا (يطلق على هذه اللهجة اسم دودزيك/ Dudjook,Durdjuk, dujik) ولهجتهم مختلفة تماماً. وتعرف هذه اللهجة بأنها لغة الكرد القديمة، وهم يكتبون باللهجة الهكارية ولكن يتحدثون بلهجتهم، ونادراً ما تجد أحداً من المتكلمين بالزازاية متعلم (ص 38).
يشير البايزيدي إلى أنه على الرغم من وجود هذه اللهجات الأربع وكم المتحدثين بها، إلّا أنهم يفهمون على بعضهم البعض لأن أساس هذه اللهجات واحد، مضيفاً أنه يوجد فقط اختلاف في تهجئة الكلمات وبعض المفردات، وأن العلماء الأكثر شهرة بين المتكلمين هم ممن يتحدثون اللهجة الهكارية، في حين أن القراءة بين الكرد الرحل قليلة (ص 39).

التركيبة الاجتماعية

يؤرّخ البايزيدي للتراتبية الاجتماعية، إذ كان للكرد المستقرين ألقاب مثل «مير» (الأمير) والباشا والآغا، وكانت لهم سناجق: جولمرك/هكاري آمد /ديار بكر، وان، موش، بادينان، وشارزور، وبايزيد، فيما كانت المناطق البقية تتبع لمن يحمل لقب «بيك». أما بالنسبة للكرد الرحل، لم يكن لديهم بيك، ولكن لديهم درجة الأغا. ووحده تميور باشا الملّي، زعيم قبائل الملّية الرُّحل، حصل على لقب الباشا «إسكان باشا»، حيث كان لقبائل الملية الدور المحوري في برنامج توطين القبائل البدوية في منطقة الرقة (ص40) .
إن القبائل الرحل الموجودة في أذربيجان أتت من منطقة لورستان، والعديد من القبائل الموجودة في سيواس وماردين هم بقايا قبيلة رشوان والملان/ الملية. وهنا، يشير الى معلومة بأن أصول الملية كانت عشائر إيزيدية تحولت إلى الإسلام في فترات مختلفة (ص 41).
كما أن القبائل الموجودة في ديرسم مسلمة على المذهب العلوي وهي تختلف عن القزلباش. أما قبائل الموصل وشارزور وبغداد، فهي شافعية المذهب (ص 42). ولا تجد بين الكرد من يعاقر الخمر أو يقامر، ولكن من تكون له علاقات مع الترك تجده يقوم بأفعال غير حميدة (ص 65).
يذكر البايزيدي ملاحظة أن سكان منطقة موش وبدليس، وكذلك منطقة هكاري، سواء أكانوا من أهل الحضر أو البدو يطلق عليهم روزكي. وفي منطقة هكاري وجزيرة يعرفون بـ«كوجر»، وسكان منطقة آميدي وآكري يعرفون بـ«بادينان» (ص 44).
وفي التاريخ الجديد، يفصل في الفترة التي سيطرت فيها قبيلة سليفاني بزعامة بدري بك الذي يعود في أصوله الى المروانيين حكام ميافارقين، وسيطرته على منطقة بايزيد، حيث منح ذلك من قبل السلطان مراد. ويشير الملا محمود إلى أنه في «شرفنامه» أطلق على المدينة «ألاشكرت». وكانت تحت سيطرة قبيلة بازوكي وقت كتابة «شرفنامه». ولكن في عصر الملا محمود ذهب الحكم لجلاليان وحيدران.
يشير الملا محمود إلى أن القبائل الكردية تحت الحكم العثماني تنقسم إلى ثلاثة أقسام: ملّي، وزيلي، وسيبكي. وتنقسم بدورها الى عشائر وأفخاذ أخرى وقبائل أخرى لها أسماء معينة. أما بالنسبة للقبائل الكردية تحت الحكم الصفوي، فيطلق عليهم «كوران» وتنقسم بدورها إلى عدة مكونات أخرى منها أفشار، بيات وحيدري، وتتحدث التركية لكنها قبائل كردية. ص 46.
وفي مناطق هكاري، توجد ثلاث قبائل رحّل كبيرة كل منها قرابة 15 ألف عائلة وهي أرتوشي وبنيانشي وخاني. وفي جزيرة بوتان توجد خمس عشائر كبيرة هي: ديرشوي، حاجي علي، ميري، علاقي ودوديري. وفي آميدي، توجد ثلاث عشائر كبيرة: زيباري ومزوري وهركي. وفي ديار بكر، توجد عشائر المللية وقرجووي وسيلفاني. وفي وان، عشيرتي شكاكي وشيكافتي. وفي موش وبدليس، حسنلي وجبرانلي. وفي منطقة أرضروم لا توجد قبائل كردية، ولكن يوجد كرد في قرى تلك المنطقة بشكل متفرق يعودون إلى قبائل من المناطق الأخرى.
يذكر أنه في كردستان يتوزع قرابة 70 ألف عائلة أرمنية الى جانب 15 ألف عائلة نسطورية و200 عائلة يهودية (ص 49). تتكلم هذه الطوائف بالكردية الكرمانجية وتعيش بحرية وسلام، وهم محاربون أشداء. ص 50. يفصّل المخطوط الأصلي في العشائر الإيزيدية وأماكن تواجدها وأسماءها ويفصل بينهم وبين إيزيديي منطقة شنغال (سنجار) والموصل ويطلق على هؤلاء «إيزيدخان».
ولكن على الرغم من أن الملا محمود استند في كتابته على كتاب «شرفنامه»، إلا أنه يعطي ملاحظات تختلف عن تلك التي وردت في الكتاب. فبينما ينظر «شرفنامه» بشكل إيجابي إلى الإيزيديين، فإن الملا محمود أشار إليهم بإشارات سلبية، كما لفت إلى نقطة خطيرة مفادها أن قتل الإيزيديين بالنسبة للمسلمين شرعي. وقد يكون الملا محمود متأثراً بالفتاوى التي صدرت ضد الغيزيدين في الفترة اللاحقة للكتاب. ولذلك، أشار إلى هذه النقطة التي فرّقت بين نظرته ونظرة البدليسي صاحب «شرفنامه».

من خلال المعلومات الموجودة في المقدمة فقط نلاحظ أن ملا محمود البايزيدي يقدم عملاً تاريخياً مميزاً بمعلومات وفيرة حول الكرد والحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية لمجتمعاتهم المختلفة. وبحسب [باسيل] نيكيتين، فإن المستشرق الروسي الشهير فلاديمير مينورسكي استرد عدداً من الأعمال غير المنشورة لجابا (كذا في الأصل) التي قيل إنها مفقودة، حيث مُنِح كافة الوثائق المتبقية والملاحظات اللغوية من قبل أحفاد جابا. ولكن يبدو أنه لم يستطع أن ينشر أي من تلك المواد. إن كان ذلك صحيحاً، فإن الأمل ما يزال قائماً بأن تاريخ البايزيدي الحديث قد يُعثر عليه في يوم ما. إن إيجاد نسخة المخطوط هذه ستجعل من التاريخ الكردي أكثر وضوحاً، خاصةً في الفترة التي تلت انهيار الإمارات الكردية وظهور الطبقة البيروقراطية الكردية التي كان الملا محمد البايزيدي واحداً من أبنائها، بحسب السيرة الذاتية. وبالتأكيد، سوف يكون لهذا الكتاب دور كبير في فهم نشوء الفكر القومي الكردي.

 

المصدر: المركز الكردي للدراسات

شارك هذه المقالة على المنصات التالية