الأربعاء, ديسمبر 18, 2024

المشهد السوري ما بعد الأسد.. وتداعيات السقوط

د. عبد الإله المصطفى – باحث في مركز الفرات للدراسات

كان سقوط الأسد مدوياً، ومفاجئاً وسريعاً، وانهيار جيشه فاق كل التوقعات، ولم يترك مجالاً لحلفائه وأصدقائه، المثقلين بالمشاكل والهموم أصلاً، لنجدته أو إيجاد فرصة للبحث عن حلول لهذا التداعي السريع، ولم تتمكن مجموعة أستانا من تداركه بطرح مبادرة الحل السياسي العاجلة للأزمة السورية، وكان الأغرب هو موقف أنقرة الداعي إلى إنقاذ الأسد ولو في اللحظات الأخيرة.
أفرز تقدم هيئة تحرير الشام وخروجها من ثكناتها في إدلب تكهناتٍ كثيرةً، وترك الكثيرين في دائرة التساؤل حول الهدف النهائي والحقيقي وراء معركة حلب، وربما لم تدرك الهيئة نفسُها المقصد الأخير، وربما تفاجؤوا بسرعة انهيار دفاعات الأسد العسكرية، وربما هذا الانهيار هو ما شجعهم على المضي قدماً نحو دمشق. وعلى كل حال، لا يمكن الارتهان إلى الاندفاع الذاتي للهيئة وتجاهل المحرض الأساسي المتمثل بالتوافقات الدولية التي فاقت القدرة الطبيعية لتلمسها من قبل القوى التقليدية، المحلية والإقليمية، وتُرك الأمر للتكهنات والتوقعات، وكانت نتيجة تلك التوافقات سقوط الأسد المفاجئ.
كيف يبدو المشهد السوري اليوم؟ وما تداعيات سقوط الأسد؟ فقد غابت أو غُيّبت العديد من القوى التي كانت فاعلة بشكل كبير في المسألة السورية، وحلّت محلّها قوى جديدة، فما هي هذه القوى؟ وما مدى ثقلها وتأثيرها في الأحداث الجارية؟ إضافة إلى العديد من التساؤلات المحيّرة الأخرى، ومنها: إلى أين تسير الأمور؟ وما مستقبل سوريا وشرقي الفرات؟
حرَمَنا الأسدُ من المشهد الدراماتيكي التقليدي لسقوط الطاغية وهو مقتله في المشهد الأخير دفاعاً عمّا كان يؤمن به، واستبدله بمشهد الهروب المذلّ تاركاً وراءه كلّ مواليه حيارى في مواجهة مصيرهم المجهول دون كلمة رثاء أو ثناء أو وداع. ولكن، ألا يثير هذا السقوط السريع والهروب المذل والانهيار المفاجئ لجيش الأسد التساؤل؟ لقد كانت الطلقات التي أُطلقت ابتهاجاً في قامشلو فقط أكثر بأضعاف مضاعفة ممّا تم إطلاقه في عملية “فتح” دمشق، ولم يتمكن “الفاتحون” من الوصول في الوقت المحدد لحفلة السقوط، فقد أجهز الفاتحون المحليون على النظام، وأطلقوا الرصاصة الأخيرة قبل وصول الزحف القادم من إدلب والواصل إلى حمص. يقال، أن طبخة ما كانت تطبخ في أقبية الاستخبارات الدولية.

سقوط محور أستانا..
أدى سقوط الأسد إلى سقوط محور أستانا وتلاشيه، فقد خَفَتَ صوت الروس ولم نعد نسمع لهم حديثاً مفيداً، وهاهم يحزمون الحقائب للخروج من شرق الفرات وربما سيغادرون حميميم نفسها وكأن اتفاقاً ما قد تم بينهم وبين الجهات الجديدة الفاعلة في الأزمة السورية حول النظر في المسألة الأوكرانية وحلّها أو أنهم أزاحوا عن كاهلهم همّ سوريا والسوريين للتفرغ للأزمة الأوكرانية. وما يتوجب ذكره، هو أنّ قواعدهم ما زالت موجودة في المناطق التي سيطرت عليها هيئة التحرير! وهو ما يوسع دائرة التساؤلات والتكهنات.
بتنا نسمع طنيناً إيرانياً خفيفاً وتمتمة حول الأيام الأخيرة للأسد وبأنه لم يطلب مساعدتهم، وحديثاً عن تفاجؤ الأسد نفسه حيال الانهيار السريع لقواته، وفق تصريحات وزير الخارجية الإيراني. لقد كان لبتر الأذرع الإيرانية في المنطقة دوراً أساسياً ومحورياً في الأحداث الأخيرة، وتعود جذور القضية إلى ما قبل 7 أكتوبر 2023 وما بعدها؛ إذ كان هذا الحدث قد أحدث تغييراً شاملاً في الاستراتيجية الإسرائيلية في الشرق الأوسط، فقد هاج الثور الإسرائيلي وبدء في مناطحة الجوار يميناً ويساراً، قياماً وقعوداً، فأردى كل من حماس وحزب الله، ولم تذهب تصريحات نتنياهو سدىً عند الحديث عن الأسد و”لعبه بالنار” قبيل يوم الثامن من تشرين الأول/ ديسمبر، وعن تغيير وجه الشرق الأوسط، وكأن سقوط الأسد كان من ضمن سلسلة بتر الأذرع في سياق رسم ملامح الشرق الأوسط الجديد. وفي السياق نفسه، كان واضحاً أنّ انهيار حزب الله قد أدى إلى انهيار خطوط دفاع قوات الأسد، وانهيار المعنويات، فكان السقوط سريعاً.
ثمة ضجيج تركي يصدره أردوغان بالقول بأنهم لن يسمحوا بتقسيم سوريا، الأمر الذي يبعث على الشكّ بعلم أردوغان بأن تغييراً جذرياً قد تم الإعداد والتحضير له والاتفاق عليه، كما أنه لا يخفي حسرته حيال رفض الأسد قبول التطبيع مع أنقرة، وكأنّه يقول: (لو أنك أصغيت؛ لما كنت قد سقطت).
انحسر دور أنقرة مع انهيار محور أستانا، وبات دورها اليوم يرتكز في كونها دولة جوار وبأن أمنها القومي مهدّد في حدودها الجنوبية، وهي الورقة الوحيدة التي سيتسوّل بها النظام التركي عند الحديث في الأزمة السورية، وستستخدمها في عدة ميادين؛ لا سيما عند البدء في المفاوضات الدولية لحلّ الأزمة في محاولة لإقصاء الكرد والإدارة الذاتية عن أيّ حل مستقبلي لها، خاصة إذا علمنا أنّ هيئة تحرير الشام تعمل خارج نطاق سيطرة أنقرة، ووفق أجندات خارجية تفوق قدرات أردوغان في التحكم بها أو الوقوف في وجهها.

تنشيط دور القوى القديم.. وبروز قوة جديدة
يبرز في المشهد السوري اللاعب القديم-الجديد في الأزمة السورية؛ الغرب، بشقيه الأوروبي والأمريكي، فالأول رحّب بالسقوط وأعلنت معظم دوله إيقاف طلبات اللجوء للسوريين، والتحضير للبدء بعمليات الترحيل في بعض منها. وعلى المستوى السياسي، يراقب الجميع الأحداث عن قرب، ويتحدثون عن ضرورة تسريع عملية الانتقال السياسي، مع الإصرار والتأكيد على حماية الأقلّيات.
في المقابل، بات صوت اللاعب الأمريكي أكثر وضوحاً من قبل، واتسعت دائرة اهتماماته في الملف السوري، فلم يعد وجوده مقتصراً فقط على محاربة داعش، رغم التركيز على الأمر وتقديمه تبريراً لاستمرار مهام التحالف في شرقي سوريا، إذ أعلن الساسة الأمريكيون عن القبول المبدئي بـــ “الكلمات الصحيحة” الصادرة من جماعة الهيئة، ولكنهم بــ” انتظار الأفعال لا الأقوال”. وعليه، فقد تم الإعلان عن صيرورة العقوبات حتى تظهر ملامح الحياة السياسية الجديدة في سوريا. وفي جبهة أخرى، خلّفت تصريحات بايدن، والتي أكدها فريقه الإداري في عدة مناسبات، حول ضرورة حماية أمن دول جوار سوريا وتقديم الدعم لها؛ الأردن والعراق ولبنان وإسرائيل، وتجاهل تركيا، خلّفت ذعراً في الأوساط الرسمية التركية وتركتهم في حيرة من أمرهم، فما المقصود بدعم الجيران من دون ذكر تركيا؟ من الواضح أنّ التصريح لم يكن قد سقط سهواً، ضمن سلسلة زلّات بايدن، إذ كررته لاحقاً عدة جهات من فريقه الإداري بالصيغة نفسها، وهو ما يؤكد على الشرخ العميق ما بين أنقرة وواشنطن، ومن خلفها تل أبيب، وبأن المياه التركية والأمريكية لا تسير حالياً في الجدول نفسه، ولا في الاتجاه نفسه. ويبقى التساؤل مفتوحاً حول ما يخطط له الأمريكان في المنطقة، وتبقى العيون شاخصة على قدوم ترامب، وبما سيقوم به في الملف السوري، رغم ظهور بعض ملامح اسراتيجيته من خلال تعيينه لأعضاء الكابينة الأمريكية بدراسة اتجاهاتهم وتوجهاتهم الشخصية، وأغلب الظن أنّ واشنطن حالياً تحاول وترغب في رسم الملامح الأساسية الثابتة للحالة السياسية السورية قبل قدوم ترامب.
أما عن العلاقات الأمريكية وقسد، فقد تم التأكيد فيها على استمرارية التنسيق والتعاون، حيث كثرت التصريحات الأمريكية في الإشارة إلى الاستمرار في هذا النهج. تتجه التكهنات إلى مشروع حماية أمريكية حقيقية لشرقي الفرات ضمن الأعمال التي أوكلت إلى واشنطن في إطار التحالف الدولي، وهي ضرورة نفي عودة داعش، والأمر بحاجة إلى استمرارية مستدامة؛ لا سيما أنّ الجماعة التي سيطرت على دمشق كانت توأم داعش في يوم من الأيام، وانفصلا لاحقاً، كما أنّ أفكار معظم الفصائل المنضوية تحت مسمى “الجيش الوطني” تتوازى مع مبادئ وأفكار هيئة تحرير الشام.
أما اللاعب الجديد فهو إسرائيل، ولا يخفى الدور الفاعل الذي قامت به إسرائيل في تغيير مسارات الأزمة السورية، حيث إنّ تحطيم قدرات حزب الله في لبنان وسوريا كان الأكثر أثراً في حسم القتال لصالح عملية “ردع العدوان”؛ فضلاً عن الاستباحات الشديدة للأراضي السورية والتقدم نحو دمشق برّاً، واستهداف القدرات العسكرية الاستراتيجية السورية لضمان عدم تهديد أمن إسرائيل. فيما تدور التكهنات حول الدور الاستخباراتي الإسرائيلي ضمن منظومة القوى المهيمنة في الإعداد لما يشهده الشرق الأوسط من أحداث؛ ولا سيما الأحداث في سوريا. ومن المستجدات العاجلة هو كشف الحكومة الإسرائيلية عن توجّهات يبدو أنها باتت ضمن استراتيجيات جديدة تتبعها إسرائيل في المنطقة بضرورة حماية الأقليات في سوريا مع التأكيد على الدور البارز الذي قام به الكرد في محاربة داعش وضرورة تقديم الدعم لهم وحمايتهم، ما يوحي إلى دور إسرائيلي قادم في الأزمة السورية، ولم تتحدّد ملامحه بالشكل الكافي بعد.

الأوضاع السياسية الداخلية في سوريا
أعلنت هيئة تحرير الشام في اليوم التالي من سقوط نظام الأسد تعيين محمد البشير، رئيس حكومة الإنقاذ في إدلب، وتكليفه بمهام الحكومة السورية الانتقالية في إطار التحضير والإعداد للبدء في عملية الانتقال السياسي في سوريا، وبناء الكيان السياسي ورسم ملامحه، متجاهلة الائتلاف السوري وفصائله وحكومته المؤقتة، وهو أمر تجرّعه الائتلاف بمرارة واضحة من خلال حديث وملامح بعض أعضائه في القنوات الإعلامية؛ إذ لم تتم استشارة الائتلاف مطلقاً، وخلت الحكومة من أيّ شخص من شخصياته، وأعلن أعضاء الائتلاف أنهم في انتظار الخطوات العملية التي يجب أن تخطوها الحكومة لتسهيل الوصول إلى عملية الانتقال السياسي. كما تجاهلت هيئة التحرير التواصل مع الإدارة الذاتية ومشاورتها فيما يمكن القيام به تحضيراً للمرحلة اللاحقة، وهو ما لا يدعو إلى الاطمئنان أو الارتياح لمستقبل العلاقات، ويشير إلى محاولات التفرد وفرض الأمر الواقع من قبل هيئة تحير الشام. وفي الوقت نفسه، لا ينبغي أن ننكر أن الهيئة تعاملت بشكل يدعو إلى الارتياح مع المناطق التي يسكنها الكرد في حلب (الأشرفية والشيخ مقصود)، وفي دمشق (زورآفا)، مقارنة مع الفظائع التي قامت بها فصائل “الجيش الوطني” الموالية لتركيا تحت مسمى “فجر الحرية” بحق أهالي عفرين النازحين إلى تل رفعت وتهجيرهم مجدداً؛ فضلاً عن استغلال الظروف والانقضاض على سد تشرين، والهجوم على منبج والسيطرة عليها بعد توافقات أمريكية- تركية.
كانت التصريحات الرسمية الصادرة عن “إدارة الشؤون السياسية” التابعة لهيئة تحرير الشام تلمّح لبعض المسارات، ومنها “عدم حمل السلاح خارج نطاق الدولة، وبعدم قبولهم بسوريا مقسمة، وبأن على الجميع أن يهيّئ نفسه للحدث”، وهو ما قد يفصح عن بعض نوايا الهيئة التي ستسير ربما وفق مسارات الدولة المركزية، دون الحديث عن ملامح الحوكمة القادمة إلا بعبارات فضفاضة عن العدل والمساواة دون الخوض في التفاصيل.
إنّ الحديث عن التعددية الحقيقية التي تمثلها الإدارة الذاتية نموذجاً، والتي تقدم الحل المثالي للأزمة السورية، لا يبدو دارجاً في “الكلمات الصحيحة” التي أطلقتها الهيئة وحكومتها وإدارة الشؤون السياسية التابعة لها، وهو ما قد يبقي التساؤل قائماً حول كيفية تقييم الحكومة الحالية لمصطلح “التعددية”، ومدى فهمهم له، وهل سيكون المسيحيون مواطنون سوريون أم “أهل ذمة”؟ وهل الكرد يشكلون “أقلية” أم سكان مناطقهم الأصليين؟ وهل الدروز والعلويون والإيزيديون وغيرهم جماعات بثقافات متميزة أم سيتم صهرهم في نطاق سوريا الوطن بحوكمة سنية واضحة المعالم؟
لا يبدو الأمر سهلاً ولا مريحاً، وعلينا أن ننتظر بعض الوقت لنفهم ونعرف كيف يفكر هؤلاء، وهل فعلاً ستنسجم الأفعال مع الأقوال؟ وهل من الممكن أن نتجه إلى بناء سوريا ديمقراطية تعددية لامركزية يحكمها دستور عادل ينظم جميع شؤونها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؟
سقط الأسد وعاد البلد، ولكن أي بلد، بلد من ركام ومحترق حتى العظم، نال منه الفقر والعوز حتى النخاع، ومشرد أهله ما بين نازحين ومهاجرين. ولتحقيق هذه “العودة”، لن يكون الأمر حقاً وصحيحاً إلا بالبحث عن الحلول الناجعة والسليمة التي تتسم بالإنصاف والإنسانية، وباستحضار التجارب الصحيحة والاستفادة منها في بناء دولة الحق والقانون والعدل، مع احترام خصوصية سوريا والسوريين المتعددي الإثنيات والمعتقدات والمذاهب، وإلّا فإنّ الحديث عن غير ذلك سيعيدنا إلى نقطة ما قبل الصفر.

المصدر: مركز الفرات للدراسات

شارك هذه المقالة على المنصات التالية