بقلم: عبد القادر موحد
يُعَدُّ الفكر السياسي لعبد الله أوجلان نقطة تحوُّل في فهم الهوية الكردية، حيث يقدم رؤية نقدية لمفهوم الدولة القومية ويطرح بدائل تستند إلى الديمقراطية المجتمعية. من أبرز هذه البدائل مفهوم “الأمة الديمقراطية” الذي يعيد صياغة العلاقة بين الهوية والمجتمع خارج إطار الدولة القومية التقليدية. في هذا السياق، يظهر تحول مفاهيمي مهم من استخدام مصطلح “الشعب الكردي” إلى “المجتمع الكردي”، بل وحتى “المجتمع الأصيل”، تعبيرًا عن رؤية تتجاوز التصنيفات القومية الضيقة.
يشكل نقد الدولة القومية أحد المحاور الأساسية في فكر أوجلان، هذه الدولة والتي عبر تاريخها كانت أداة قمع وإقصاء أكثر من كونها وسيلة لتحقيق الحرية السياسية (أوجلان، مانيفستو الحضارة الديمقراطية،). ولهذا فإن ربط الهوية القومية بالدولة المركزية سيؤدي إلى القمع وإلى هدر الحرية وإلى تفكيك الروابط الاجتماعية الطبيعية،
وفق هذا التحليل فإن النموذج البديل الذي يطرحه أوجلان تحت عنوان الأمة الديمقراطية يبرز كضرورة سياسية وقيمية وقبل كل شيء إنسانية، فهي :
“نموذج اجتماعي قائم على التنوع الثقافي والتعددية السياسية، لا يسعى إلى تكوين دولة قومية، بل إلى تحقيق إدارة ذاتية مجتمعية تحترم الهويات المختلفة ضمن نظام ديمقراطي تعددي” (أوجلان، خارطة طريق 2012،).
فالأمة تقوم على المجتمع في مقابل الدولة التي تقوم على الشعب والمجتمع كائن أخلاقي أولا وطبيعي ثانيا، بينما الشعب سياسي ومصطنع .
يضع أوجلان مفهوم “المجتمع الأخلاقي والسياسي” في صلب نظريته، معتبرًا أن المجتمعات الطبيعية قبل ظهور الدول القومية كانت تُدار بناءً على قيم أخلاقية جماعية لا على السلطة المركزية (أوجلان، 2011، ص. 89).
ومن هذا المنطلق، فإن الكرد ليسوا مجرد “شعب” يسعى إلى تكوين دولة قومية، بل “مجتمع” قادر على تنظيم نفسه وفقًا لمبادئ الأمة الديمقراطية.
“المجتمع الحقيقي هو الذي يستطيع الحفاظ على بنيته الأخلاقية والسياسية عبر التفاعل المستمر بين أفراده، بعيدًا عن أنظمة القمع القومية والرأسمالية”
(أوجلان، 2010، مانيفستو الحضارة الديمقراطية: العصرانية الديمقراطية والحل للأزمة المدنية في الشرق الأوسط ).
استخدام مصطلح “المجتمع الكردي” بدلاً من “الشعب الكردي” ليس مجرد تغيير لغوي، بل هو تحول مفاهيمي يعكس فلسفة سياسية جديدة تتجاوز الحدود القومية التقليدية. يركز هذا المفهوم على قدرة الأكراد على تنظيم أنفسهم ديمقراطيًا دون الحاجة إلى دولة قومية، مما يتماشى مع رؤية الأمة الديمقراطية التي تتيح لمختلف الشعوب التعايش والتعاون دون الحاجة إلى دولة مركزية مسيطرة.
بهذا المعنى، لا يعود الكرد مجرد “شعب” يسعى إلى دولة، بل مجتمع يمتلك القدرة على الإدارة الذاتية والتفاعل مع المجتمعات الأخرى دون أن يكون جزءًا من الصراعات القومية التي فرضتها الحداثة الرأسمالية.
إذ إن الدولة القومية ليست مجرد نظام سياسي، بل أداة لفرض التجانس القسري، وقد أدت عبر تاريخها إلى قمع الثقافات المتنوعة وإلغاء الهويات المحلية. هذه الدول، التي تدّعي حماية الشعوب، كانت في الواقع سببًا رئيسيًا للنزاعات القومية والصراعات المستمرة.
و الكرد لم يكونوا يومًا مجرد “شعب قومي” يسعى لتأسيس دولة قومية على غرار النماذج السائدة، بل كانوا على الدوام مجتمعًا متجذرًا في التاريخ، يحمل إرثًا أخلاقيًا وتنظيميًا فريدًا.
في فكر عبد الله أوجلان، لا يكمن الخلاص في اتباع مسار الدول القومية التي قامت على القمع والتجانس القسري، بل في التحرر من هذه العقلية والانخراط في نموذج جديد يجعل من “المجتمع الكردي” كيانًا ديمقراطيًا متفاعلًا مع مكونات المنطقة، لا منافسًا لها.
لماذا إذن “المجتمع الكردي” وليس “الشعب الكردي”؟ لأن مصطلح “الشعب” غالبًا ما يرتبط بمفهوم الدولة القومية، التي تقسم العالم إلى كيانات متناحرة، كل منها يسعى إلى ترسيخ هيمنته. هذه الصراعات لم تكن يومًا سبيلًا للحرية، بل أدت إلى المزيد من القهر والتفكك. على العكس من ذلك، فإن “المجتمع الكردي” ليس كيانًا قوميًّا جامدًا، بل نموذجًا حيًّا يتجاوز الحدود القومية، ويعمل على بناء مستقبل ديمقراطي تتشارك فيه جميع الشعوب دون أن تُفرض عليه هوية واحدة أو سلطة مركزية.
في هذا التحول، لا يواجه الكرد الشعوب الأخرى كخصوم في معركة بناء دولة جديدة، بل يتحولون إلى مجتمع أخلاقي ديمقراطي يقود تحولًا يحقق الخلاص لجميع شعوب المنطقة .
هذا التحول يعني الانتقال من عقلية الشعب المضطهد الذي يسعى إلى دولة كأداة للنجاة، إلى مجتمع قادر على تحقيق الحكم الذاتي، مستندًا إلى القيم الأخلاقية والديمقراطية، متحررًا من قيود الحداثة الرأسمالية والقومية الضيقة .
والكرد هم الأقدر على إنجاح هذا التحول لأن المجتمع الكردي مجتمع أصيل، حافظ على قيمه التقليدية المستندة إلى العيش المشترك والتنظيم المجتمعي المستقل، مما يمثل شكلاً أصيلًا للحياة الاجتماعية التي سبقت ظهور الدول القومية الحديثة وللمجتمع الطبيعي .
فالكرد، وفق أوجلان، لم يكونوا مجرد جماعة قومية حديثة تشكلت في ظل الأنظمة السياسية الحديثة، بل مجتمعًا تاريخيًا حافظ على أنماطه التنظيمية رغم محاولات التفكيك التي تعرض لها عبر القرون . مجتمع متجذر، أصيل، قادر على تشكيل نموذج تحرري جديد، ليس فقط للكرد أنفسهم، بل لجميع شعوب المنطقة .
من خلال هذا النموذج، تصبح الحرية مشروعًا جماعيًا، لا يقتصر على مجموعة واحدة، بل يفتح آفاقًا جديدة للعيش المشترك بعيدًا عن قوالب القومية التقليدية والهيمنة الرأسمالية .
أخيرا يمكن القول وبثقة : إن التحول في استخدام المصطلحات ليس مجرد تبديل لغوي، وليس تراجعا عن مبادئ أو تنازلا لانجاز اتفاق بل هو تعبير عميق عن رؤية فكرية تسعى لتجاوز القيود والانعتاق من أسر الدولة القومية التقليدية .
من منظور أوجلان، الهوية الكردية لم تكن يومًا مجرد كيان سياسي يسعى للانكفاء داخل دولة، بل هي مجتمعٌ نابض، متجذر في التاريخ، متحرر من الإملاءات المركزية، قادر على تنظيم نفسه وفق أسس ديمقراطية تعددية تُعزز التعايش والانفتاح بدلاً من التقوقع والانعزال.
انه كيانٌ حيّ، متفاعل مع الشعوب الأخرى، يُعيد تشكيل نفسه باستمرار في مواجهة الحداثة الرأسمالية وسياسات الهيمنة القومية ووصفه بالمجتمع الأصيل تأكيدٌ على امتداد هذا الوجود في عمق الزمن لمجتمع حافظ على استقلاليته الأخلاقية والتنظيمية رغم كل محاولات التفكيك والاستيعاب القسري .
وهكذا، فإن هذا التحول المفاهيمي يمثل انعكاسٌا لمشروع تحرري شامل، يسعى إلى إعادة تعريف الهوية المجتمعية خارج قوالب القومية التقليدية. إنه دعوةٌ لخلق فضاءٍ ديمقراطي تُدار فيه المجتمعات بعيدًا عن سلطة الدولة القومية، حيث تستطيع الشعوب أن تحيا بكرامة، لا كأدوات في مشاريع قومية مغلقة، بل ككيانات حيّة تنسج مصيرها المشترك في إطار الأمة الديمقراطية، حيث تتجلى الحرية الحقيقية في التعدد، لا في التجانس القسري.
المصدر: مجلس سوريا الديمقراطية “مسد”
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=65116