عزالدين ملا
تُعدّ الهوية الكوردية في سوريا من الهويات التي تحمل تاريخا طويلا من النضال والتحدي، حيث شكّل الكورد عنصرا أساسيا في نسيج المجتمع السوري رغم محاولات الأنظمة السورية السابقة، خاصة في ظل حكم حزب البعث والنظام الأسدي البعثي، طمس هذه الهوية وفرض سياسة قمعية تهدف إلى تهميشهم سياسيا وثقافيا. على مرّ العقود، استُهدفت الهوية الكوردية بسياسات قمعية متعددة الأوجه، شملت حظر استخدام اللغة الكوردية، ومنع الأنشطة الثقافية، والتضييق على التعبير عن الهوية القومية. ورغم كل ذلك، نجح الكورد في الحفاظ على هويتهم الثقافية والفلكلورية من خلال المقاومة والتحدي والنضال المستمر.
منذ استلام حزب البعث السلطة في سوريا منتصف القرن العشرين، واجه الكورد تمييزا ممنهجا كان الهدف منه طمس هويتهم القومية. تجلّت هذه السياسات في حظر اللغة الكوردية وفرض قيود صارمة على استخدامها في التعليم والإعلام والأدب، مما خلق فجوة تعليمية وثقافية عميقة. ولم يقتصر الأمر على ذلك، فقد أطلقت السلطات السورية آنذاك مشروع الاحصاء الاستثنائي في عام 1962 الذي استهدف المناطق الكوردية، حيث تم تجريد عشرات الآلاف من الكورد من جنسيتهم السورية ، ومشروع الحزام العربي في بداية السبعينات بمصادرة آراضي الكورد في مناطق المُسمّى الخط العشرة واسكان المغمورين الذين تمّ جلبهم من مناطق الرقة وديرالزور. وبهذا، أُجبر الكورد على العيش في حالة قانونية مضطربة حالت دون مشاركتهم في الحياة السياسية والاجتماعية.
إلى جانب التهميش القانوني، عمل النظام البعث على محاربة الرموز السياسية والثقافية الكوردية. فقد حُظرت احتفالات نوروز التي تعد رمزا قوميا وثقافيا وهوياتيا هاما، مما أضعف إمكانية تنظيم النشاطات التي تعزز من تماسك الهوية الكوردية سوى ما كانت سراً والتي كانت دون المستوى المطلوب.
رغم القمع المستمر، لم يكن الكورد في سوريا عاجزين عن النضال والتحدي، بل انخرطوا في النضال السياسي وشكّلوا أحزاب سياسية دافعت عن الحقوق الكوردية المشروعة في سوريا وتعرض العديد من القيادات والمثقفين الكورد إلى الاعتقال والتعذيب، وامضى البعض سنوات وسنوات في معتقلات النظام الأمني السوري. وفي عام 2004، اندلعت انتفاضة كوردية في مدينة قامشلي، إثر حدث رياضي لمباراة بين فريقي الجهاد من قامشلي والفتوة القادم من ديرالزور، ونتيجة بثّ السلطات الأمنية التابعة للنظام في محافظة الحسكة الفتنة والنعرات الطائفية أدت إلى حدوث صِدام بين جماهير الفريقين، والتي تحولت إلى احتجاجات شعبية حاشدة حتى وصلت إلى داخل مضجع النظام الاسدي المجرم في دمشق وهزّ أركان عرشه ضد سياساتها العنصرية والشوفينية وبث روح التفرق والعنصرية بين الكورد والعرب. كانت هذه الانتفاضة لحظة فاصلة في التعبير عن الرفض الشعبي الكوردي للإقصاء، إذ خرج الآلاف يطالبون بحقوقهم الثقافية والسياسية المشروعة كمواطنين سوريين. ورغم قمع النظام الأسدي العنيف لهذه الاحتجاجات، فإنها أكدت على رفض الكورد لجميع سياساتها وممارساتها اللاأخلاقية بحقهم.
وبالتزامن مع ذلك، بدأت الحركة السياسية الكوردية بالبحث عن تحالفات جديدة مع المعارضة والقوى الوطنية السورية. ففي عام 2005، ساهم الكورد إلى جانب تلك القوى الوطنية في تأسيس إعلان دمشق، وهو تجمع سياسي يهدف إلى إسقاط نظام البعث وتحقيق العدالة لجميع مكونات الشعب السوري. كان هذا التحالف خطوة هامة باتجاه انفتاح الكورد على القوى الوطنية الأخرى، مما مهّد الطريق لمرحلة جديدة من العمل السياسي.
مع اندلاع الثورة السورية في عام 2011، انخرط الكورد بفعالية في الحراك الشعبي السلمي الذي طالب بإسقاط النظام. وفي ظل أجواء الثورة، رفع الكورد مطالبهم بوضوح أكبر، حيث طالبوا بإسقاط النظام ومن ثم التنسيق مع قوى الثورة للعمل في سوريا المستقبل على الاعتراف باللغة الكوردية كلغة رسمية، وبتطوير المناهج الدراسية التي تعكس ثقافتهم، وبإنشاء مؤسسات ثقافية مستقلة تعزز هويتهم، بل وشملت أيضا حقوقا سياسية، مثل منح خصوصية للمناطق الكوردية. وقد ساهم هذا التحرك في إبراز القضية الكوردية كجزء لا يتجزأ من المطالب الوطنية السورية، مؤكدين على أن حقوقهم تمثل مكونا أساسيا لأي حل سياسي شامل.
رغم النجاحات التي حققها الكورد في إحياء هويتهم الثقافية، إلا أن التحديات السياسية الداخلية والخارجية ما زالت قائمة. فعلى الصعيد الداخلي، تعاني الحركة الكوردية من انقسامات سياسية بين الأطراف السياسية الكوردية، مما يؤدي أحيانا إلى ضعف التنسيق في مواجهة التحديات المشتركة.
إلى جانب ذلك، يواجه الكورد تحديات أخرى تتمثل في محاولات الأطراف أخرى استغلال الانقسامات العرقية والطائفية لتمرير أجنداتهم السياسية، مما يزيد من تعقيد المشهد السوري. في هذا السياق، تبرز الحاجة إلى تعزيز الوحدة الكوردية وتطوير رؤية مشتركة مع بقية القوى الوطنية السورية لتحقيق أهداف الثورة في الحرية والعدالة ونظام حكم لا مركزي يضمن حقوق جميع المكونات دون إقصاء أو تهميش.
إن إحياء الهوية الكوردية في سوريا ليس مجرد استعادة للحقوق الثقافية المفقودة، بل هو جزء من النضال الشامل من أجل الحرية والكرامة لكل السوريين. يتطلب تحقيق هذا الهدف تعزيز العلاقات بين القوى الكوردية وتوحيد صفوفها، إلى جانب بناء شراكات مع المكونات الأخرى في المجتمع السوري.
كما أن الحفاظ على المكتسبات الثقافية والسياسية يحتاج إلى تطوير المؤسسات الكردية، وتعزيز التعليم باللغة الكردية، وإحياء الفنون والتراث الثقافي. من المهم أيضا أن تكون هناك جهود دبلوماسية فعالة لنقل القضية الكوردية إلى المحافل الدولية، حيث يمكن للكورد استخدام هذه المنصات لحشد الدعم لقضيتهم.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن للكورد لعب دور محوري في صياغة دستور جديد لسوريا يضمن المساواة والاعتراف بجميع المكونات. ويعد هذا الاعتراف جزءا أساسيا من بناء سوريا ديمقراطية حديثة تتسع لجميع مكوناتها العرقية والثقافية.
لقد أظهر الكورد في سوريا قدرة فائقة على الصمود والحفاظ على هويتهم رغم عقود من التهميش والقمع. ومع استمرار الصراع في سوريا، يبقى إحياء الهوية الكوردية جزءا أساسيا من بناء مستقبل عادل وشامل للجميع. ولتحقيق ذلك، يجب على الكورد العمل على تعزيز وحدتهم وتطوير رؤى مشتركة مع القوى الوطنية والدولية، لضمان الاعتراف بحقوقهم وتحقيق العدالة في سوريا الجديدة.
لذلك، يُعتبر النضال الكوردي في سوريا جزءا لا يتجزأ من نضال الشعب السوري ككل. فإعادة بناء سوريا المستقبل يجب أن تستند إلى مبادئ الحرية والمساواة والكرامة لجميع مكوناتها، مع الاعتراف بالخصوصيات الثقافية والعرقية التي تشكل ثراء فريدا لهذا البلد.
المصدر: المجلس الوطني الكردي
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=65291