تعيش سوريا مرحلةً من أدقِّ المراحلِ وأكثرِها تعقيداً منذ اندلاعِ الأزمةِ قبل أكثرَ من عقد. وبينما تأمل الشعوبُ المقهورةُ ببَوادِر حلولٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ تُخرج البلادَ من أزماتها المتراكمة، تطفو مجدداً على السطحِ محاولاتٌ خبيثةٌ لخلق فتنةٍ داخليةٍ جديدة، هذه المرة من بوابةِ الطائفيةِ والتقسيمِ المناطقيِّ، كما نراه في أحداثِ السويداء وما رافقَها من توتراتٍ أمنيةٍ في مناطق الساحل.
ما يحدثُ اليوم لا يمكن عزلهُ عن المشهدِ الإقليميِّ والدوليِّ، حيث تتقاطع مصالحُ قوىً متعددةٍ على الأرضِ السورية، ويُستثمر في حالةِ الإنهاكِ الشعبيِّ من أجل إعادةِ خلطِ الأوراقِ وتفجيرِ الوضعِ من الداخل. وللأسفِ، فإنّ هذه المحاولات تجد في بعضِ الجراحِ الاجتماعيةِ والاقتصاديةِ بيئةً خصبةً لنشرِ خطابِ الكراهيةِ وزرعِ الشكوكِ بين مكوناتِ المجتمعِ السوريِّ.
في هذا السياق، تتحمّل مكوناتُ شمالِ وشرقِ سوريا، التي اختبرت معنى العيش المشتركِ والنضالِ المشتركِ ضد الإرهابِ والاستبداد، مسؤوليةً تاريخيةً في الحفاظِ على مكتسباتِها وعلى السِّلمِ الأهليِّ الذي لطالما كان صمامَ أمانٍ في وجهِ الانهيار، فالمطلوب اليوم، أكثر من أي وقتٍ مضى، هو اليقظةُ الجماعيةُ والتكاتفُ الشعبيُّ والتأكيدُ على أن مشروعَ التعايشِ بين الكردِ والعربِ والسريانِ الآشوريين وغيرِهم في شمالِ وشرقِ سوريا ليس مجردَ اتفاقٍ سياسيٍّ، بل تجربة حيّة مبنية على التضحياتِ والمشاركةِ والمصيرِ المشترك.
لقد أثبتت قواتُ سوريا الديمقراطيةُ (قسد) مرارًا أنها القوةُ الوحيدةُ التي وضعت محاربةَ الإرهابِ، وتحديداً تنظيمَ داعش، فوق كل الاعتبارات، وقدمت في سبيلِ ذلك آلافَ الشهداءِ من مختلفِ المكوناتِ، كما أن الإدارةَ الذاتيةَ الديمقراطيةَ، رغم كل الانتقاداتِ والتحديات، قدّمت نموذجاً بديلاً لإدارةِ شؤونِ الناسِ بعيداً عن المركزيةِ المفرطةِ أو الهيمنةِ الأحادية.
واليوم، حين تُطرَح سيناريوهاتٌ لضربِ هذه التجربة، يجب أن يكون الردّ شعبيّاً ومؤسساتيّاً في آن، يقوم على تحصينِ الجبهةِ الداخليةِ سياسيّاً، وتنميةِ الوعيِ العامِّ بخطورةِ الفتنة، وتطويرِ الأداءِ الإداريِّ بما يُلبّي طموحاتِ الناس.
إن المؤامرات التي تُحاكُ في الخفاءِ ليست جديدة، لكنها تتجدد بأدواتٍ وذرائعَ مختلفة. واليوم، عندما يُدفَع أبناءُ طوائفَ وأعراقٍ متجاورةٍ إلى مواجهاتٍ عبثيةٍ، فإن المستفيدَ الوحيدَ هي الأنظمةُ التي تقتات على الفوضى، أو قوى الاحتلال التي تبحث عن ذريعةٍ للبقاءِ والتوسعِ، أو الجماعاتِ المتطرفةِ التي تنتظر الفرصةَ لإعادةِ التموضع. ولذلك فإن الردَّ الحقيقيَّ على هذه التهديدات يبدأ من داخلِ المجتمع، من قدرةِ الناسِ على وعيِ الخطر، ورفضِ الانجرارِ إلى الاستقطابِ والاقتتال.
وإن كنا نطالب شعوبَ شمالِ وشرقِ سوريا بالتكاتف، فإننا نؤكد في الوقتِ نفسه على ضرورةِ أن تقوم الإدارةُ الذاتيةُ بواجبِها كاملاً تجاه مواطنيها. يجب أن تكون أكثرَ شفافيةً، وأكثرَ حرصاً على توفير وتوزيع الخدمات، وأكثرَ انفتاحاً على النقدِ والتطوير، فالأوطان لا تُبنى فقط بالسلاح، بل بثقةِ الناسِ ورضاهم وتماسكم أيضاً.
في النهاية، ما بين الفوضى والمشروعِ الديمقراطيِّ، لا خيارَ أمام العقلاءِ سوى الانحيازِ لوحدةِ المصير، والمطلوبُ الآن ليس فقط تفادي الفتنة، بل تعزيزُ المناعةِ الاجتماعيةِ والسياسية ضدها. ولتكن هذه المرحلةُ اختباراً جديداً لقوةِ التعايشِ في شمالِ وشرقِ سوريا.
افتتاحية العدد 106 من صحيفة السلام
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=73290