محمد سعيد رياض

إن ما عاناه الكرد من الفرس بعد العهد المكدوني، وأخيراً من العثمانيين ما لبث أن أصبح حافزاً قوياً أثار مشاعر ضد كل ما هو مجحف بحقهم، كأمة لها كيانها، الأمر الذي أدى مجدداً إلى بروز إمارات كردية حديثة، والتي ثارت ضد العثمانيين المحتلين الذين نجحوا في القضاء عليها تباعاً.
وقد اخترنا من هذه الإمارات في كردستان، ما كانت مناطق كل منها تشمل أجزاء من شمال ســوريا الحالية إبان احتلال العثمانيين للبلاد العربية، وعدم وجود أية حدود سابقة، وعلى الرغم من فشل هذه الثورات، فإن الباب العالي كان يبقى على علاقته بتلك القاعدة الاجتماعية الكردية، التي كان بوسعها الاعتماد عليها في حروبه، وكم من مرة نال البعض من زعماء هذه الثورات العفو السلطاني العثماني.
إن أولى هذه الثورات كانت في (أمارة جانبولاد ـ جانبلاط 1707م) وكان مركزها (كلس)، التي كانت تشمل جبل الأكراد ومنطقة حلب، وبعد أن قتل العثمانيون أميرها (الأمير حسين) الذي كان يتولى شؤون الإمارة من حلب؛ لأنه لم يلتحق ورجاله بالسلطان العثماني في إحدى حروبه، فما كان من أخيه (الأمير علي) إلا أن أعلن الثورة من حلب … ولكن العثمانيين قضوا عليها، كما أن إمارة بدرخان باشا خلال الأعوام 1812ـ 1884م كان مركزها (جزيرة بن عمر – بوطان)، وكانت هذه الإمارة تمتد ما بين وان و سيرت في تركيا، حتى راوندوز شرقاً والموصل، وشنكال بحيث شملت أنحاء الجزيرة العليا، بما فيها كامل ما يسمى بمنقار البطة في الشمال الشرقي في سوريا الحالية، ولكن العثمانيين قضوا عليها أخيراً.
أما إمارة إبراهيم باشا الملي فكان مركزها (ويران شهر) الواقعة الى الشمال من (سري كانيه)، وكانت تمتد إلى الجنوب من سري كانيه لمسافة تزيد عن50 كم داخل شمال سوريا الحالية، وثارت هذه الإمارة بعد أن اتحد الكرد والقبائل العربية التي كانت تستقر في هذه المنطقة منذ أيام العباسيين إلا أن العثمانيين ضيقوا الخناق على إبراهيم باشا في جبل عبد العزيز، وقبضوا عليه وأعدموه عام 1908م.
وهل ينســى استشهاد البطل الكردي يوسف العظمة، الذي ســجل التاريخ في أولى صفحات الشــرف دفاعاً عن حرية ســوريا واستقلالها ؟! كما ســجل صفحات مشرفة لثورة جبل الزاوية بقيادة إبراهيم هنانو وحركة تمرد المريدين في جبل الأكراد و ثورة حماة بقيادة البرازيين وانتفاضة بياندور عام 1925، التي أخرجت مناطق عديدة في الجزيرة من ســيطرة الإدارة الفرنســية بعد مقتل (دوغان) حتى غاية عام 1927، وأخيراً وليس آخراً انتفاضة عـامـودا التي لم تتمكن سلطات الانتداب الفرنسي من قمعها إلا بعد إدخال الســـــلاح الجوي في المعركة، إننا لا نذكر بهذه الوقائع من باب المطالبة بمكافأة عن تضحياتهم، فالتضحية واجب على مواطن يسعى للحرية، كما إن حقوق الكرد ليست مكافأة تمنح من أية جهة كانت، بل هي وكما توحي بذلك كلمة (الحقوق) ـ من مستلزمات وجود الإنسان الكردي التي لا تكتمل شخصيته إلا بها، وإنما نذكر بها لبيان المفارقة بين الفعل، وبين المثابة، والجزاء المشابه لجزاء (سنمار).
لقد شعر الكرد بالغبن عندما خلت كتب التاريخ المتعمدة في التدريس من أية إشارة إلى الأصل الكردي ليوسف العظمة، وإبراهيم هنانو وسائر الجنود المجهولين من الكرد الذين قدموا أرواحهم قرابين من أجل حرية الوطن، إلا أن ذلك الغبن سرعان ما فقد أهميته بالقياس إلى تلك الإجراءات البعيدة كل البعد عن أي اعتبار قانوني أو سياسي، أو حتى إنساني، تلك الإجراءات التي مورست بحق الكرد من تجريد من الجنسية، وحرمان من الانتفاع والملكية ناهيك عن الاضطهاد القومي والتهجير والصهر، تلك الإجراءات، التي لو قوبلت من الكرد برد فعل مماثل، لكان أول ضحية للفعل والرد هو (الوحدة الوطنية)، التي تتخذ هذه الإجراءات باسمها.
إن الوحدة الوطنية تبنى على الحرية….  الحرية لكل أبناء الشــعب، فالحر وحده يستطيع أن يبني الوحدة بإرادته المحررة من كل قيد، كما أن هذه الوحدة لا يمكن لها أن تكتمل ما لم يتم الإقرار الدستوري بالحقوق القومية، والديمقراطية المشروعة للشــعب الكردي في سوريا ضمن إطار وحدة البلاد.
أما بعد خروج العثمانيين من البلدان العربية في الحرب العالمية الأولى واحتلال الفرنسيين والانكليز لها واقتسامها بينهما بموجب اتفاقية سايكس بيكو 1916، فإن هذه الاتفاقية الاستعمارية قد اشتملت على كردستان العثمانية أيضاً، حيث قسمت بين تركيا، وبين العراق، وسوريا، اللتين أنشئتا حديثاً وبقي القسم الشرقي من كردستان تحت الحكم الإيراني. فحرم الكرد من الانتفاع بمبدأ حق تقرير المصير للشعوب الواقعة تحت السيطرة العثمانية، الذي أعلن رسميا آنذاك … الأمر الذي أصيب معه الكرد بأكبر نكسة عرفها تاريخهم الحديث.


وما إن تم رسم الحدود بين تركيا وسوريا؛ فإن الخط الحديدي، الذي أنشئ بينهما قد قسم تلك العشائر الكردية إلى قسمين، قسم بقي ضمن حدود الدولة التركية، والقسم الآخر أصبح ضمن حدود الدولة السورية ومع ذلك كله فإن سوريا بعد الاستقلال عام 1946، وما كانت عليه مع باقي الدول العربية من شعور بالغبن، الذي لحق بهم من جراء قيام الاستعمار بتقسيم وطنهم الى دول وإمارات، وإقامة دولة إسرائيل، والصراع العربي المرير معها…. فإنهم من ناحية أخرى رؤوا الوطن العربي وحدة جغرافية وبشرية لا تتجزأ، وإن كل من يعيش عليها هو عربي، وهذا يعني أنهم أنكروا وجود أقليات قومية أخرى تعيش على أرضها التاريخية بينهم، وبذلك تحولوا من شعب تعرض للاضطهاد الاستعماري إلى شعب يضطهد القوميات الأخرى.
وما إن استقرت الأحوال في سوريا بعد الاستقلال حتى بدأت الأوساط الشوفونية منذ أوائل الخمسينات، تدعو المسؤولين من أجل القيام بتطبيق سياسة التمييز القومي حيال الأكراد بهدف القضاء على تطلعاتهم القوية، وذلك عبر مشاريع واجراءات استثنائية من شأنها العمل على تهجير الكرد من الجزيرة، وصهرهم في المجتمع العربي، وكان على رأس هؤلاء ـ محمد طلب هلال ـ ضابط الأمن السابق في الحسكة، الذي جاهر علنا عام 1962 بكل ما يتعلق بهذه الإجراءات العنصرية، وطالب الأخذ بها، وبدأ بتنفيذها في “محافظة الجزيرة” حيث تم أولا تنفيذ مشروع الإحصاء الاستثنائي بتاريخ 5ـ10ـ1962 الذي أدى إلى تجريد أكثر من 150 ألف كردي في محافظة الجزيرة من جنسيتهم السورية، واعتبروا لاجئين بعد أن حرموا من حقوقهم المدنية، وبعد سنوات تم تنفيذ المشروع الاستثنائي الآخر، الذي سمي بالحزام العربي حيث تم بموجبه مصادرة الأراضي التي كان تستقر فيها آلاف العائلات الكردية ويستثمرونها أباً عن جد، ووزعت على آلاف العائلات العربية التي جلبت من المناطق، التي غمرتها مياه سد الفرات، ومن المناطق الداخلية الأخرى، وأسكنتها في قرى شبه مستوطنات، أنشأت لهم على طول الشريط الشمالي للجزيرة والمتاخمة للحدود التركية، التي وضعت أساسا كحدود مصطنعة قسمت الكرد.
هذه الإجراءات الاستثنائية وسياسة التمييز العنصري كانت لها فاعليتها و تأثيراتها اللا إنسانية المباشرة على الكرد في الجزيرة دون غيرهم من القوميات الأخرى سواء من الناحية الاقتصادية، وأقلها ندرة العمل الزراعي، أو الاجتماعية من حيث الفقر والحاجة والتخلف، أو الثقافية في حرمان الكثير من الكرد من الارتقاء بمستواهم الثقافي عبر المراكز الثقافية، والمعاهد العليا، أو السياسية، ومنع الكرد من مزاولة حقوقهم الثقافية الكردية وممارسة فلكلورهم الشعبي، علاوة على معاناة المجردين من الجنسية، وحرمانهم من حقوقهم المدنية، الأمر الذي جعلهم محرومين من اللحاق بركب الحضارة البشرية المتطورة؛ وما زاد هذه المعاناة عندما استقدمت الدولة آلاف العاملين العرب، الذين شغلوا الوظائف في مختلف دوائر الدولة ومؤسساتها ومدارسها ومعاهدها الثقافية، وقدمت لهم التسهيلات اللازمة للسكن في الجزيرة… في الوقت الذي منع فيه العنصر الكردي من شغل هذه الوظائف حتى أنه منع من نقل مسكنه من مكان الى آخر ضمن حدود المحافظة الإدارية، وإذا ما أراد بناء دار أو ترميمه، أو شراء مسكن أو أراضٍ زراعية أو آلية وجب عليه مراجعة الجهات الأمنية بخصوص ذلك. أما سياسة التعريب فقد شملت أسماء القرى والبلدات الكردية المعروفة بأسمائها الكردية منذ القديم، واستبدلت بأسماء عربية تتبعاً لما سبق لتركيا بأن طبقتها في شمال كردستان، حتى أن جبل الأكراد (منطقة عفرين) التابع لمحافظة حلب والمعروفة بهذا الاسم منذ القديم قد استبدل باسم (جبل حلب)!
أما من الكرد، الذين كان لهم دور في بناء التراث الأدبي العربي سواء الشعر، أو الأدب العربي أمثال أحمد شوقي والرصافي، وفي التاريخ الإسلامي والعربي مثل ابن خلكان وابن الاثير، وفي مجال الفكر والعلم مثل عباس بن فرناس، وآخرين كأبي مسلم الخراساني، وابن تيميمة، وابن شداد، والســجادي، وأعلام النهضة محمد عبدو، وقاسم أمين، وأحمد أمين، وأحمد حســن الزيات، ومحمد كرد علي والعقاد والزهاوي … و..ألخ.
وأخيرا هل من العدل والإنصاف أن يبقى الكرد محرومين من حقوقهم القومية والثقافية في الوقت، الذي يعترف بها حتى لأصغر الأقليات العرقية.
#المصادر والمراجع ـ محمد أمين زكي ـ تاريخ الكرد وكردستان

​صحيفة روناهي

شارك هذه المقالة على المنصات التالية