تراجع شعبية إسرائيل وصعود المأزق الفلسطيني

د. محمود عباس

من البداهة السياسية والتاريخية أنّ لإسرائيل الحق في أن تُعترف بها كدولة ذات سيادة، راسخة الجذور في المنطقة، ومرتبطة بتاريخ طويل ورد ذكره في الديانات السماوية الثلاث، وأي مشروع للسلام في الشرق الأوسط لن يرى النور ما لم يتم تغيير الثقافة المعادية لها، التي غذّتها عقود من الدعاية الأيديولوجية والمزايدات الإقليمية، إنّ تجاوز هذه الثقافة، وتهيئة مناخ جديد قائم على التفاهمات الدولية، هو المدخل الوحيد لجعل حل القضية الفلسطينية ممكنًا، في إطار يعترف بحقوق الشعب الفلسطيني، ويحفظ في الوقت ذاته مكانة إسرائيل كجزء من المعادلة السياسية والتاريخية للمنطق، ومن هنا تكتسب أهمية خاصة الاستطلاعات الأخيرة للرأي في الولايات المتحدة، التي تعكس تحولًا لافتًا في المزاج الشعبي الأمريكي تجاه إسرائيل والفلسطينيين.

تشير استطلاعات الرأي الأخيرة في الولايات المتحدة إلى تراجع ملحوظ في شعبية إسرائيل، خاصة بين الفئات الشبابية والجامعية، وبين أوساط الحزب الديمقراطي، في مقابل ارتفاع نسب التعاطف مع الفلسطينيين كشعب وليس كحكومة أو كحراك سياسي عسكري وخاصة منظمة حماس، التي تعرف كمنظمة إرهابية متربطة بإيران. ففي استطلاع غالوب (Gallup) في تموز/يوليو 2025، لم تتجاوز نسبة التأييد للإجراءات العسكرية الإسرائيلية في غزة 32%، وهي أدنى نسبة منذ بدء هذه الاستطلاعات، بينما ارتفعت نسبة الرافضين إلى ما يقارب 60%. كما أظهر استطلاع بيو للأبحاث (Pew Research Center) في نيسان/أبريل 2025 أنّ 53% من الأمريكيين عبّروا عن آراء سلبية تجاه إسرائيل، مقارنة بـ 42% فقط عام 2022، ما يعكس تحوّلًا نوعيًا في المزاج العام، وقد جاءت هذه النتائج أكثر وضوحًا بين الشباب تحت الثلاثين عامًا، حيث عبّر ثلثاهم عن أن سياسات إسرائيل “قاسية” تجاه الفلسطينيين، ولا شك أنّ علينا ألا ننسى تأثير نسبة الجالية العربية والإسلامية في بعض الولايات، والتي انعكس حضورها على أرقام الاستطلاع، خاصة في ظل حرب غزة.

وفي السياق السياسي، صرّح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في مقابلة مع صحيفة Daily Caller، بأن نفوذ إسرائيل في الكونغرس “لم يعد كما كان قبل 20 عامًا”، مؤكّدًا أنّ اللوبي الإسرائيلي، الذي كان يُعتبر الأقوى في واشنطن عبر منظمة إيباك (AIPAC)، تراجع تأثيره لصالح جماعات ضغط أخرى، وأنّ إسرائيل لم تعد قادرة على احتكار القرار الأمريكي كما في العقود الماضية.

هذه الأرقام تكشف جدلية عميقة، فهي لا ترتبط بتنظيم حماس مباشرة، إذ لو كان الاستطلاع منصبًا على الحركة لكانت النتائج معاكسة تمامًا، بل تتعلق أساسًا بصورة الشعب الفلسطيني في غزة والكارثة الإنسانية التي يعيشها منذ حصار 2007 والحروب المتكررة (2008–2009، 2014، 2021، 2023، وصولًا إلى الحرب المستمرة منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023 وحتى اليوم). أما حماس نفسها فما زالت مصنفة أمريكيًا، منذ 1997، كمنظمة إرهابية إلى جانب “داعش” و”القاعدة”، وهذا هو الفارق الجوهري بين المأساة الإنسانية للشعب الفلسطيني وسياسات الحركة التي أفقدت القضية شرعيتها الدولية.

الإعلام العربي والإسلامي، ومعه الإعلام التركي، يتعمّد التغطية على هذا التمايز، فيُصوّر وكأن القضية الفلسطينية مرادفة لحماس وحدها، هذا الخطاب يضلل الرأي العام الفلسطيني ويزرع الانقسام بين القوى الوطنية، وهو امتداد لنهج قديم استخدمت فيه الأنظمة العربية الدكتاتورية القضية الفلسطينية كورقة لمصالحها الإقليمية الضيقة منذ قمة الخرطوم 1967 وما بعدها. وقد أشار المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد مرارًا إلى أنّ تلك الأنظمة “احتكرت” القضية لتكريس شرعيتها الداخلية، بدل دعم الشعب الفلسطيني في نضاله.

وبعد إخفاق الأنظمة العربية، انتقلت الورقة إلى إيران منذ 1979، التي أعادت تسويق القضية تحت شعار “الممانعة”، ثم إلى تركيا مع صعود رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية، إلا أنّ الوقائع تفضح هذا النفاق، ففي 29 آب/أغسطس 2025 أعلن وزير الخارجية التركي هاكان فيدان أنّ أنقرة “قطعت كليًا” العلاقات التجارية مع إسرائيل وأغلقت مجالها الجوي أمام الطائرات الإسرائيلية، لكن إسرائيل سارعت إلى نفي وجود أي قيود فعلية على طيرانها أو تجارتها، مما كشف التناقضات في الخطاب التركي الرسمي.

في الداخل الفلسطيني، تتضاعف المأساة مع تضارب المواقف، فقد صرّح خليل الحيّة، نائب رئيس المكتب السياسي لحماس من الدوحة، في تشرين الأول/أكتوبر 2024 بعد مقتل يحيى السنوار، بأن الحركة ستستمر على نهجه ولن تتخلى عن الرهائن إلا بانسحاب إسرائيل من غزة، رغم الكلفة الإنسانية الباهظة، وفي المقابل، خرجت أصوات فلسطينية، مثل صلاح البردويل القيادي السابق في حماس، لتؤكد أن الحركة “خسرت رهانها السياسي” وأن عليها أن تنسحب من إدارة القطاع، غير أن هذه الأصوات غالبًا ما تُغيب وسط ضجيج الإعلام كقناة الجزيرة، وتوظيف القوى الإقليمية كإيران وتركيا.

إنّ مثل هذه الاستطلاعات، وتصريحات شخصيات كهاكان فيدان، لا تحمل في جوهرها مشروعًا للسلام، بل تعكس استغلالًا جديدًا للقضية الفلسطينية، فهي تعمّق الشرخ بين السلطة الفلسطينية وحماس، وتزيد من تعقيد فرص التسوية، ولو كان لهذه التحولات الشعبية أثر عملي مباشر، لكان من المفترض أن تحد من الدعم العسكري الأمريكي لإسرائيل، البالغ سنويًا نحو 3.8 مليار دولار وفق اتفاقية أوباما–نتنياهو 2016، لكن ذلك لم يحدث، ما يؤكد أن العلاقة الأمريكية–الإسرائيلية جزء من ثوابت الأمن القومي الأمريكي وليست مجرد انعكاس للرأي العام.

المأساة الكبرى أنّ كلما طُرح سؤال عن الحلول الجدية، يُعاد استحضار اسم حماس كعقبة مركزية، وكأن مصير غزة يُختزل بين بقاء الحركة أو زوالها، بينما يبقى الشعب الفلسطيني غارقًا في الحصار والمجازر، وبينما تتحول القضية على طاولة القوى الكبرى إلى ورقة مساومة، يغيب جوهرها كقضية شعب ينشد الحرية والكرامة.

وعليه، فإن أي رهان على تغيّر الرأي العام الأمريكي وحده يبقى ناقصًا ما لم يُقترن بجهد سياسي فلسطيني واعٍ، يميّز بين قضية شعب محاصر وبين تنظيمات حوّلتها إلى ورقة في لعبة إقليمية ودولية، والأهم أنّه لن يكون هناك حل مستدام في الشرق الأوسط ما لم يتم التطبيع الكامل مع إسرائيل والاعتراف بها كدولة ذات سيادة وتاريخ عريق، ورد ذكرها في الديانات السماوية الثلاث، فإسرائيل، بوجودها كدولة معترف بها ومرتبطة بجذور تاريخية وروحية، باتت جزءًا من معادلة المنطقة، ومن دون هذا الاعتراف والتطبيع الشامل، ستظل أي حلول مجرد مسكنات مؤقتة، بينما يبقى السلام العادل بعيد المنال.

 لا يمكن أن تُعدّ منظمة وطنية وهي تجعل من شعبها دروعًا بشرية، ولا تُصنَّف صادقة مع قضيتها إن كانت تضحي بأبنائها بلا تردّد؛ وذلك ما فعلته حماس بالأمس وتفعله اليوم، وهو الدليل الأكبر على خيانتها لمفهوم الوطنية. غير أنّ هذا لا يعني تبرير كل ما يقوم به نتنياهو في قطاع غزة، فبعض جرائمه لا تسقط بالتقادم، ولا تعكس وجه إسرائيل كدولة ديمقراطية، ولا يمكن أن تُغطّى بانحرافات حماس.

الولايات المتحدة الأمريكية

5/9/2025م

Scroll to Top