ناصر السيد النور*
يدخل الروائي السوري (الكردي) والطبيب في روايته الصادرة مؤخراً عن دار رامينا اللندنية -هذا العام- إلى تجاويف سردية غائرة بدلالاتها السيكولوجية في تعبير جريء وشاخص لشخصياته روايته التي اتخذت مساراً سردياً يغلب عليه التفصيِّل في شمول سردي يتخطى أحيانا المساحة (الفضاء السردي) المتاح. بافتراض أن التطابق ما بين احالات النص السردي وقيمة الحدث والوصف المتقارب يحكمها زمن وايقاع زمني له بعدان سردي وفيزيائي. واستطاع أن يجمع في رواية (الموسوس) شخصيات متجلية بصورة “واقعية” تبرز اسئلتها القلقة ترحلها لغة تركز بعمق التفصيل الذي يسرد سيرتها المضطربة. وللروائي تجربة سردية في نصوص القصة القصيرة والكتابات المفتوحة والرواية.
رواية الموسوس:
في رواية (الموسوس) تفجَّر السرد مُفصحاً عن هوية الشخصيات الروائية ومخرجا لمحتواها الخبيء في تاريخها الشخصي ومحاولا نزَّع ما تراكم في طبقاتها النفسية العميقة من جروح غائرة. مما اقتضى السارد بصوته الجهير سرد البدايات المشكلة للشخصيات في طورها البيولوجي وتجربتها النفسية في الحياة وتناقضاتها الحياتية اللاحقة. فعبر ثلاثة عشر فصلاً (عنونا) أو مقاما سرديا، شكلت بنية الرواية على النمط السردي في الكتابة الروائية التي تطل من خلالها شخصية (صهيب) بطل الرواية متداخلا مع عناصر الشخصية المفتاحية الأخرى في حكاية الرواية. ومن المدخل أي الفصل الأول بدلالة عنوانه الترميزي (عندما مات شيء في أعماق صهيب) تمتد مسيرة سردية تتفاوت احداثها تماسكا وقوة من حيث التماثل السردي أو التركيز الداخلي بالمفهوم النقدي Focalization Internal بين بنية الرواية والمدى الذي تتحرك فيه الأحداث تشكيلا لعالم سردي موازٍ. فالمشاهد السردية مرصودة –بدقة سارد عليم- تتقدمها تفاصيل الأحداث بما يهمش احياناً أصوات الشخصية الروائية.
واللافت أن البنية المشكلة للرواية جاءت فصولها حكاياتها منفصلة مركبة من شخصية واحدة تنهض على حكايتها بصوتها الداخلي في عرض متعدد الوحدات دون أن تفقد صلتها المباشر بمركزية القصة المنضوية تحت نسق التتابع السردي لجملة الرواية. وبذلك تكون الشخصية الروائية متحققة الوجود على الفضاء السردي بكل ما يعنيه من دلالة في نقد الخطاب السردي؛ ومكوناته التي تتخالف بين النص الكتابي والمكان في الزمان والجغرافيا وغيرها من مكونات تتدخل التعريفات النقدية لرسم حيز يصف محققاً مسار الشخصيات الروائية داخل بنية النص الروائي. ويحيلها إلى المختبر الإنساني بكل ابعادها الانفعالية والعاطفية بما يحلل في ضوء مفهوم التحليل النفسي Psychoanalysis ولكن بطريقة سردية تسمح لها بالتعبير عن الذَّات في قالب سردي يتجدَّدُ بفاعليِّة سردية تأخذ بالمعلومة العلمية المرضية ومعالجتها روائياً في سياق آليات السّرد وشروطه التي يتقنها الروائي.
إذن يحوِّل السرد الشخصية الروائية إلى مصدر إلهام في بناء الروائي للرواية في مسارات متداخلة بقصد إعادة التعريف من حيث المقاربة الموضوعية كمصطلحات علم الاجتماع النفس وقدرة اللغة في إعادة التعريف الشخصية المستهدفة بالدراسة أو الكتابة. فالشخصية الروائية وما تمثله حالة من المنازعة وموقف له متغيرات تدفع به إلى أقصى درجات المواجهة تفاعلا بين شخصية المريضة وقوة الإزاحة الاجتماعية التي لا تني في إبقائها حيث هي. فالشاهد أن النصوص أو المعالجات التي تتناول التحليل النفسي تحاول من خلال آليات السرد التوصل إلى التحليل من خلال مركبات الظاهرة نفسها كالدراسات والمصطلح العلمي المحايد.
تشريح سردي:
فالقول بالتشريح السردي لمقاربة رواية (الموسوس) سرديا ليس استعارة مجازية لنظرية الناقد الكيندي نورثروب فراي (تشريح النقد)، لإلا أن هذا المصطلح يتجسد معناه في مفهومه السردي الأقصى لخلفية الروائي (الطبيب) وطريقة معالجته للشخصية الروائية كما تتضح في التصوير الباطني لهوية شخصياته وتفاعلها ضمن سياق الحدث السردي. فإذا كان “تشريح النقد” لا ينهض إلا على نصوص إبداعية وجمالية شاملة في بعدها الإنساني والفني بما يخصب الصورة السردية في تجلياتها اللغوية التعبيرية ومنها الخطاب الروائي بتعدد صوره وفقا للقراءة البنيوية لما بداخل النص الروائي. ولكن كيف للأدب أن يتناول ظاهرة تخصُّ الفرد أو الإنسان ومأزقه الوجودي كما تبدى على النص الروائي في رواية (الموسوس)؟ لا تقدم الرواية شخصية الفرد بمعزل عن ظروف وعناصر محيطة تدخل في صلب عملية التكوين الذاتي للقصور الإنساني متجليا في تصرفات الشخصية والتنبؤ بما تؤول إليه مصائرها المحتومة. إنه الاتجاه الأكثر نزوعا في الخطاب الروائي في تقديم الشخصيات وفق تقنيات سردية تتفاوت فيها نتائج “التشريح” وما يفحص عنه من رموز وأفكار تتأولها لغة سردية فاحصة متوغلة في خيالها متتبعة لدلالات معانيها المتجسدة في صراعات الشخصية.
شخصية وشخصيات سردية:
يتصاعد السرد متطورا عبر شخصية صهيب في محيط اجتماعي مضطرب ولشخصية تترَّسم على صفحات حياتها خيوط منعرجة فرضت عليها احكاما قاسية اورثتها تقاليد متشددة افضت إلى وساوس قهرية شديدة الوطأة على صهيب؛ والذي مثَّل بهيمنته المطلقة في الحكاية السردية للرواية محوراً تجسدت عليه بصورة شاخصة حالة مرضية لمتلازمة أمراض نفسية من الوسواس القهري والفصام وغيرها من علَّل يشخصها الروائي بخبرة الطبيب وتمهر السارد لينتهي إلى توصيف حالة تمثيل مرضي Pathological Representation على مفهوم الناقد إدوارد سعيد. وفي التكرار الذي لازم تصرفات شخصيته كما لو كان محاولة لتثبيت الحالة “المرضية” بوصفها نوبات متكررة. فالمحيط الأسري حول صهيب شكل دائرة مغلقة يدور داخلها بين شخوص الشخصيات المحيطة (أكرم العطار والده، زهرة الشياح والدته، عصام خاله، الدكتورة هدى الخياط) حيزاً سردياً الفاعل فيه (الراوي) إلى جانب أصواتٍ الشخصيات الأخرى التي تسرد تفاصيل الراوي نفسه! وبدا أن مأزق شخصية “صهيب” الذاتي طغى على الشخصيات الأخرى في الرواية بما أبطل فاعلية دورها أو ربما قلَّل من أهميته. فبالنظر إلى الشخصيات المحايثة لشخصية البطل Protagonist ” صهيب” مثلت حضوراً بأدوارها واصواتها الجهيرة وفي الوقت نفسه تماسكت في النص الروائي مستجيبة لتطور الأحداث الذي يعيد تشكليها دورها وقراءته بما يستلزمه التكوين الروائي. فشخصية صهيب تقع بين شخصيات الرواية الأخرى على تفاوت المسافة من جوهر العمل كما لو ارادت الرواية بالتذكر بمدى المؤثرات والظروف الإنسانية التي تسهم في تشكيل هوية في بيئة معتلة. أزمة صهيب وتداخلها ما بيني الديني وما يقود إليه مصيره المأساوي كما تعرفها الطبيبة ” أنت تنظر إلى الوجود من خلال ثقب صغير جدا. أنت لا ترى من الديانات الا دينك، ولا ترى من اللغات الا لغتك، ولا ترى من الشعوب الا شعبك، ولا ترى من الثقافات الا ثقافتك، وهذا خطا كارثي لا يستطيع أحد تصحيحه سواك“. بهذا التشخيص العلمي تكوِّن الرواية ما يمكن أن يختزل موقف الشخصية من خلال التحليل النفسي والمطابقة السردية. ثمة مطابقة في الشخصية تنمُّ عن حالة نفسية مضطربة مورثة في شخصية عصام أخ والدة صهيب.
تسلسل السياق السردي:
وعلى مدى تسلسل أحداث الرواية لم تنحصر في فضائها المجرد على حالة نفسية متطورة لمريض يعاني الوسواس القهري، بل تمتد هذه الحالة إلى جغرافيا وواجهة معارك نتجت عن تشوهات نفسية منذ أن يغادر صهيب بيته ويختفي ليظهر قائدا تنظيما مدفوعا بوساوس قهرية ملتبسة تتبدى في تصرفاته الوحشية واستخفافه بقيمة الحياة. فمن الحالة الإنسانية (المرضية) إلى الملاذ الجهادي توثق لها الرواية لأحداث في مشاهد ومناطق تغلي سياسيا، ويضيف هذا البعد ما بين تبرير القتل على الطريقة الجهادية ونفسية المنفذين لأعمال منافية للعقل بعدا تفسيرا آخر تنتقل معه الرواية متصلة بأحداثها إلى تطور منطقي يربط بين الحالة الإنسانية وخطر التأويل الذي ينبثق عن معتقدات يشوبها التشويه النفسي والفكري. وكيف أن الشخصية التي تفتك بها الاضطرابات النفسية قد يؤدي بها إلى خلق عالما منعزلا يطلق عليه الروائي ” القوقعة” تفترض من خلاله الشخصية بقدرتها على التأثير المدمر بوصفه Anthropogenic مركزاً كونيا مطلقا من خلال رؤيتها لعوالمها المفترضة.
تترحل سردية الرواية مع الهوية الجديدة لصهيب في تنظيم الدولة ليصبح الأمير ” أبو أنس النجدي” ذلك التحول الذي يفصل في مستويات السرد ويحليها إلى نص وجودي آخر. ويستطيل السرد الوصفي خلافاً لبداية الرواية حيث يمثل التحول انتقالا وجوديا في عالم تشكله هواجس مطبقة عمليا في توحش إنساني دقَّق الروائي في إبرازه. وينفصل التركيب السردي في متن الرواية بإحالة الشخصية إلى داخل لغة وحركة سردية جديدة تعيد صياغة مشاهدها دون أن تنفك عن ثيمتها المحورية. في هذه القوقعة المتسعة الأخرى يرصد الرواية لحظات فاجعة لأحداث تقع في قرية “المنهوبة” المكان تنكشف فيه شخصية صهيب المتحولة إلى مسخ بشري يشكل جماع الهوس والطغيان في أبشع صوره. وهذا التحول في الشخصية يتأسس على مقدمة منطقية على الشخصية في طور تخلقها في الرواية بكل ما حملت من تشوهات لتنتهي إلى التدمير الذاتي على النحو الذي حملت تفاصيله المتركبة عن تاريخ مرضي موغل في سيرتها الذاتية؛ إنها مثالا لقدرة الخطاب الروائي في مقاربته السردية للأزمات المرجعية التي تحيط بالشخصيات الروائية. ويماثل هذا الاحتدام في شخصية صهيب بين الهوس الديني والتمييز السلبي الذي أحاط بواقع حياته بشخصية “راسكولنيكوف” في رواية الجريمة والعقاب لعملاق الأدب الروسي دوستويفسكي بكل فصامه النفسي إلى حد المطابقة في تجاوز المعقول.
لغة الرواية:
ثمة تكثيف لغوي استخدمه الروائي في انتاج النص الروائي مكونا أسلوبا متماسكاً من حيث تقنيته وأدواته السردية، لغة حادة في رؤيتها البصرية ومتجذرة في إفصاحها المبين، وهكذا تشكلت لغة سردية لازمت الشخصيات والأحداث واستنطقت ما لزم حتى في أقصى التعابير الإنسانية حرجا. لغة احتشدت بالتعابير البلاغية والاقتباسات العلمية منبثقة عن الجملة اللغوية العربية وتشبيهاتها البصرية في محاذاة الوصف السردي. وهذا التدفق اللغوي بالمحافظة على مساره إذ لم يختلف في تعبيره السردي مما خلق تمازجا سرديا/لغويا حقق في وجود تعدد الأصوات على نحو المفهوم النقدي الباختيني دون ان يخل بالصور السردية ما بين الشخصيات والاحداث التي تفعل من حركتها داخل نسق الخطاب الروائي. ولو أن الوصف قد طغى بثراء المفردات اللغوية المستخدمة في اللغة تنجح أحيانا إلى إعلاء قيمة الدلالة اللغوية أكثر من العلامات السردية التي تضمر التعبير اللغوي في اختصاراته الموحية برمزية الحدث.
قدم الروائي آلان كيكاني تجربة روائية في عالم تشابكت علاقات شخصياته تمكن من تفكيكها واضعا حيواتها في صور سردية مفعمة المشاهد على حدة تقلباتها وتورطها في لحظات تاريخية فارقة في احداث امتدت تأثيراتها بما تجاوز الوصف السردي إلى التحليل التوثيقي الوصفي أعيد تشكليها روائيا ولكنها تبقى شواهد تحتمل أكثر من زاوية للقراءة. وانطوت هذه الأحداث بما جعل من الرواية أن تستقصي بجهد نافذ استعادتها سرديا محمولة على مخيلة قادرة على التصوير والوصف. وأثارت من أسئلة في بعد أنطولوجي تمثيلا لواقع يقوم على مبدأ روائي تعدد فيه الخطابات داخل النص بما يطرحه ويجيب عليه من تساؤلات من عمق صوت شخصيات الرواية.
###
* ناقد ومترجم سوداني.
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=80759





