الإثنين 30 حزيران 2025

تضخيم قصف إيران يكشف صراع الاستراتيجيات بين ترامب والدولة العميقة 3/3

د. محمود عباس

في عمق هذا التنازع بين المشروعين الأمريكيين، مشروع ترامب القومي الصدامي، ومشروع الدولة العميقة الكونية، يتجلّى صراعٌ فلسفي داخل الأروقة السياسية الأمريكية، يتجاوز الخلافات التكتيكية والتحالفات الظرفية، نحن أمام رؤيتين متناقضتين للعالم وللمستقبل:

الرؤية الأولى، التي يُمثّلها ترامب وتياره، تقوم على استعادة مفهوم الدولة – الأمة، وتكريس الهيمنة الأمريكية من خلال أدوات القوة التقليدية، واستعراض السطوة الجيوسياسية، والتحالفات القومية العابرة للحظة، والحروب الاستباقية التي تعيد تشكيل موازين القوى على الأرض. عالم هذه الرؤية لا يحتمل التعدد ولا التسويات، بل يُدار بمنطق من معنا ومن ضدنا، ويُعيد إنتاج مفردات الحرب الباردة بنَفَس جديد.

في المقابل، تسعى الرؤية الثانية، التي تُجسّدها الدولة العميقة بصيغتها المعولمة، إلى تجاوز الدولة التقليدية نحو تشكيلات ما بعد قومية، تعمل فيها الشركات العملاقة العابرة للقارات، والمؤسسات المالية الدولية، والمنصات الخوارزمية، كأدوات هيمنة أكثر فاعلية من الطائرات والصواريخ. عالم هذه الرؤية تُعاد هندسته لا بالاحتلال، بل بالعقود، ولا بالانقلابات، بل بالبيانات، وتُصاغ فيه الخريطة لا على الورق، بل على شاشات بورصة وادي السيليكون.

لكن هذا الصراع النظري يجد تعبيره العملي في الملف الإيراني، وتحديدًا في العلاقة المتوترة بين طهران وتل أبيب، التي تجاوزت منذ زمن منطق الردع، ودخلت في منطق الكينونة، من له الحق في أن يبقى؟ ومن يُنظر إليه كخطر لا يُحتوى، بل يُزال؟

فبينما ترى واشنطن، وخصوصًا في عهد إداراتها المعولمة، أن إيران يمكن تطويقها وتفكيك أوراقها عبر الاحتواء والعقوبات الذكية، ترى إسرائيل أن النظام الإيراني يشكّل تهديدًا وجوديًا، لا سياسيًا فحسب، تهديد ينبع من عمق عقائدي يتأسس على فتاوى دينية ومواقف أيديولوجية ترى أن وجود إسرائيل ذاته يُمثّل نقيضًا لجوهر الأمة الإسلامية الثورية. ومن هنا، لا تنظر إسرائيل إلى طهران كخصم عادي، بل ككيان ميتافيزيقي يجب إسقاطه، لا التفاوض معه.

ومن هذه الزاوية، يصبح المشروع الإيراني برمّته غير قابل للاحتواء، بل للتصفية، في كل صاروخ من الجنوب اللبناني، أو من اليمن الحوثية، وكل طائرة مسيرة فوق الجليل، وكل خطاب ثوري يصدر من الحرس الثوري، يُقرأ في تل أبيب كجزء من خطة هجومية محتملة، يُفترض الرد عليها دفاعيًا، وإن اقتضى ذلك توجيه ضربات مركّزة داخل العمق الإيراني.

وهكذا تتقاطع الاستراتيجيتان الأمريكية والإسرائيلية، لا باعتبارهما وحدة عضوية، بل بوصفهما قوتين تلتقيان تكتيكيًا وتختلفان استراتيجيًا، فبينما ترى واشنطن أن إيران ورقة في لعبة كبرى مع الصين وروسيا وإمدادات الطاقة، ترى تل أبيب أن إيران هي قلب الخطر، وأن أي تسوية معها هي انتحار بطيء.

في هذا السياق، لم تكن الحرب التي دامت اثني عشر يومًا بين إيران وإسرائيل مؤخرًا سوى فصل متوتر من حرب مفتوحة مؤجلة، انتهت بهدنة هشة، لكنها لم تُنهِ جذور الصراع، ولم تُجب عن الأسئلة الكبرى، ولهذا، فإن الحديث عن تجدّد المواجهة ليس نبوءة، بل ترجيح عقلاني، بل إن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في كلمته الأخيرة بقمة الناتو في لاهاي، أشار بصراحة إلى أن “الصراع بين إسرائيل وإيران قد يعود في أية لحظة، بل إنه شبه حتمي، طالما استمرت طهران في نهجها العقائدي، ورفضها للواقع الجيوسياسي القائم”.

وهو تصريح لا يأتي من فراغ، بل يستند إلى بنية أيديولوجية راسخة في منظومة الحكم الإيراني، التي لا تزال تستلهم فتاوى الخميني، وتبني سرديتها على ضرورة “إزالة إسرائيل من الوجود”، ليس بوصفها كيانًا سياسيًا فقط، بل باعتبارها نقيضًا عقديًا لفكرة الدولة الإسلامية الحاملة لمشروع العدالة الإلهية حسب التصور الثوري الشيعي.

إن هذا التفاعل بين البنية العقائدية الإيرانية، وعقيدة الأمن الوقائي الإسرائيلي، يجعل من تجدد الصراع بين الطرفين مسألة وقت لا أكثر.

وفي نهاية المطاف، لسنا فقط أمام صراع على منشآت نووية أو خطوط نفوذ، بل أمام صراع على تعريف المستقبل:

هل سيكون المستقبل لعالم تتصارع فيه العقائد والرؤى الوجودية، أم لعالم تُهندسه التكنولوجيا، والأسواق، والتحالفات البراغماتية؟

هل ستُحسم معركة الشرق الأوسط بقرار من غرفة عمليات، أم بإجماع من مراكز البحث والمنصات الرقمية التي تُعيد تشكيل الوعي والسردية؟

وهل ستكون الجولة المقبلة في طهران، أم في شاشات التحليل الاستراتيجي في واشنطن؟

الاحتمالات مفتوحة، واللاعبون كثر، لكن ما هو مؤكّد أن الشرق الأوسط سيظل ساحة اختبار حيّة، أولها إعادة تركيبة خريطة سايكس – بيكو الجيوسياسية.

الاحتمالات كلها مفتوحة، لكن المؤكد أن الهدنة لم تُنهِ الحرب، بل أجّلت فصولها القادمة.

الولايات المتحدة الأمريكية

25/6/2025م