الأحد 01 حزيران 2025

حرية الصحافة في سوريا بين عقودٍ من الاحتكار وضباب المستقبل

* آلان عثمان
مرّت سوريا منذ العهد العثماني وحتى تسلّم حزب البعث السلطة في عام 1963 بمراحلَ متباينةٍ على صعيد حرّية الصحافة وحقوق الإنسان، لكن المقارنات التاريخية لأعداد الصحف خلال الفترات الزمنية الماضية تشير إلى أن العقود الأكثر قتامةً للصحافة بدأت مع حزب البعث الذي احتكر وسائل الإعلام في البلاد ومنع إصدار أي صحيفة أو تأسيس وسيلة إعلامية لصالح أي جهة خاصة، باستثناء ما ندر، وبعد انطلاق ما تُعرف بثورات ربيع الشعوب في المنطقة تأمّل السوريون وشريحة الصحفيين بشكل خاص خيراً مع بدء الاحتجاجات الشعبية في آذار/ مارس 2011 لكن عسكرة تلك الاحتجاجات أدخلت الصحافة في درب شائك وبدأت حقبة مظلمة أخرى بالنسبة للصحفيين والحريات، حيث لا تزال سوريا ثاني أخطر بلد في العالم بالنسبة لسلامة أهل المهنة وفق جدول التصنيف العالمي لحرية الصحافة الذي نشرته منظمة مراسلون بلا حدود في وقت سابق من عام 2024.
وبالعودة سريعاً إلى بدايات الصحافة في سوريا وإظهار بعض المقارنات تتوضح الصورة أكثر؛ فقد صدرت (272) صحيفةً يوميةً في بيروت ودمشق وبقية البلاد الشامية منذ تأسيس الصحافة السورية عام 1858 وحتى عام 1916 كما صدرت في الفترة نفسها (103) مجلات أسبوعية تخصصت بأنواع مختلفة من الاتجاهات الفكرية، وفق ما أورده د. شمس الدين الرفاعي في كتابه “تاريخ الصحافة السورية واللبنانية من العهد العثماني حتى الاستقلال 1800- 1947” مشيراً إلى أن عدد الصحف التي صدرت منذ إعلان الدستور (العثماني) عام 1908 وحتى عام 1916 بلغ (215) صحيفةً يوميةً في بيروت ودمشق والبلاد الشامية و(73) مجلةً أسبوعيةً في جميع البلاد ومنها دمشق وبيروت.
وفي عهد الحكم الفيصلي (1918 – 1920) تحسنت حال الصحافة وأُلغيت الرقابة وطُلب إلى أصحاب الصحف السورية المعطلة إبان العهد العثماني إصدارها مجدداً، وبحسب ما أورده الرفاعي فإن فترة الحكم الفيصلي لسوريا لم تشهد صدور قرار بتعطيل أي صحيفة أو توقيف أصحابها.
وخلال الحكم الفرنسي لسوريا (1920- 1946) وثقت الدراسات التاريخية في مجال الصحافة السورية صدور عشرات الصحف والمجلات، ووفق أحد المراجع صدر في سوريا نحو 325 جريدةً خلال ما يقرب من نصف قرن بدءاً من عام 1918 وكان منها 24 جريدةً هزليةً انتقاديةً، وبعد جلاء القوات الفرنسية شهدت البلاد انفتاحاً في الحياة السياسية وفي الحريات، الأمر الذي انعكس على حرية الصحافة، ثم جاءت فترة الانقلابات العسكرية التي تراجعت معها الحريات.
ومع تسلّم حزب البعث السلطة عام 1963 وإعلان حالة الطوارئ دخلت الصحافة في نفق مظلم، إذ وصف الحزب نفسه في دستور عام 1973 أنه قائد المجتمع والدولة، كما كان للقبضة الأمنية دورٌ بارزٌ في تكميم الأفواه المعارضة، وانعدمت الحياة السياسية واقتصر العمل السياسي على “جبهة تقدمية” يقودها البعث، فيما منع إصدار أي صحيفة أو ممارسة العمل الإعلامي إلا في إطار المؤسسات التابعة للدولة والجبهة التقدمية والتي كانت تروج لأفكار الحزب الحاكم ولسياسات الحكومة، وبالتالي خلق هذا المناخ مجتمعاً تقوده أفكار البعث من خلال ما يتعرض له من تلقين في المدرسة والجامعة ووسائل الإعلام.
ظل المجتمع السوري حبيساً لأفكار البعث لعقود إلى أن دخلت القنوات الفضائية والشبكة العنكبوتية إلى منازل السوريين، والتي أتاحت لهم الاطلاع على مصادرَ متنوعةٍ من المعلومات، وبرغم فرض السلطات السورية قيوداً على العديد من مواقع الإنترانت قبل عام 2011 من خلال الحجب إلا أن السوريين كانوا يسلكون طرقاً بديلةً لتجاوز الحجب. ومع انتشار منصات وشبكات وسائل التواصل الاجتماعي بدأت حقبة جديدة لا سيما أن انتشارها تزامن مع بدء الاحتجاجات الشعبية في العديد من الدول العربية والتي كانت سوريا جزءاً منها، كما كانت تلك المنصات فرصةً لتعبير المواطنين عن أفكارهم بحرية، ما خلق صداماً مع السلطات التي لم تتعود لعقود على سماع الرأي الآخر.
الاحتجاجات التي تحولت إلى صراع مسلح بين طرفي النزاع في البلاد ألقت بظلالها على حرية الصحافة، وبات الصحفيون أهدافاً لرصاص الأطراف المتحاربة؛ إذ فقد العديد من الصحفيين حياتهم خلال تغطيتهم للأحداث في مختلف مناطق النفوذ، كما تعرضوا للاعتقال والتنكيل من قبل تلك الأطراف، وفيما كان السوريون يتطلعون إلى الحرية والديمقراطية وتحسين أوضاع حقوق الإنسان تلاشت آمالهم مع اشتداد أتون الحرب الأهلية وسعي كل طرف لفرض سيطرته، وبالتالي انتشر الخوف وفرض المجتمع رقابةً ذاتيةً على نفسه لا سيما وأن أطراف الصراع ارتكبت انتهاكاتٍ فظيعةً؛ من قتل وتعذيب وتهجير واعتقال بحق الأشخاص المعارضين لها.
ومع استمرار النزاع ودخوله عامه الرابع عشر دون أية بوادر للحل تلوح في الأفق، يبقى للمجتمع الدولي دور مهم في حماية حقوق الإنسان في حال القيام بواجبه؛ من خلال دعم عملية السلام ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات ودعم المنظمات الحقوقية الفاعلة، فيما يتطلب من الأخيرة بذل المزيد من الجهود لرصد الانتهاكات وفضح الأفراد والجهات التي ترتكبها.
وعند الحديث عن تقدم أي مجتمع أو إدارة أو دولة تعد مسألة حرية الصحافة والحريات العامة أمراً بالغ الأهمية؛ لتعزيز المساءلة والحكم الرشيد والمشاركة في الحياة السياسية، ومما لا شك فيه أن هذه المسائل مرتبطةٌ بالأوضاع العامة في البلاد، فأي حل سياسي سيكون له الأثر البالغ على المجتمع السوري الذي يعاني من آثار الحرب، كما أن أي عملية سياسية جامعة ينبغي أن تُفضي إلى نظام ديمقراطي يحترم الحريات للخروج من عنق الزجاجة، فمن دون الحريات لا يمكن حل الأزمة