الأحد, يوليو 7, 2024

حليم يوسف: خمسون مقبرة

القسم الثقافي

لا يمكن الحديث عن شاعر كردي، وأقصد الشاعر بالكردية، وليس المنحدر من أصول كردية، بمعزل عن استثناء الحالة الكردية الراهنة بكل تشعباتها التراجيدية. ولو كان الحديث عن شاعر آخر، عدا أحمد حسيني، لعنونت المداخلة القصيرة هذه بـ (خمسون وردة أو خمسون شمعة)، لكنها المقابر، نتركها وراءنا بدلاً من السنوات.

البداية كانت “شرمولا” ـ مقبرة عامودا، حيث كان الانشداد الأول بعد الخروج من الرحم، هناك يكون نحو شرمولا المقبرة التي تشد انتباه الاطفال المذهولين قبل الكبار. وأحمد الشاعر المنحدر من عائلة كانت التراجيديا اسماً لها، الأم والأب و…الأخوة، يصطفون على سلم الموت الذي ضرب العائلة عرضاً. وخارج العائلة، تنفتح دائرة الصداقة والشعر، حيث يتخذ اليافع أحمد شاعراً في العشرين “فصيح سيدا” مثالاً يحتذى به، إلا أنه لا يلبث أن يحترق، وأقولها ليس من باب المجاز، بل إن النيران التهمت جسده ومات محترقاً، ومثله كسرى عبدي الشاعر الآخر- هذا ما يؤكده في مقدمة ديوانه الذي يتضمن الأعمال الكاملة ـ ولذلك كانت قصيدته حقاً انتقاماً عميقاً من الموت. وتتسع شرمولا عبر جسد القصيدة، لتصبح مدينة كاملة تحمل اسم عامودا، تكاد البيوت فيها أن تكون توابيت متحركة، إذ لا وجود لماء ولا لعشب ولا لحرية شخصية، وتمنع فيها اللغة الأم والحب والسياسة والطفولة والشعر. وتقذف أمواج الفقر، عدا الاضطهاد القومي، بالكثيرين إلى ضفاف أوطان أخرى، وكانت روح أحمد حسيني إحدى تلك الارواح الهائمة هنا وهناك. لم تجد ملاذاً في بيوت التنك في بيروت، ولافي بيوت طينية تتساقط نقاط مياه عكرة من سقوفها القديمة كل شتاء في عامودا والقامشلي، وكان جليد سكندنافيا البعيدة ملاذاً. أخذ بعدها يتدثر بقصائده التي باتت تتدفأ على جذوات غبار لا يزال يتصاعد وراءه هناك، حيث البلاد مستباحة لأشباح يمعنون فيها سَلْباً ونهباً، وما من صوت قادر على أن يرتفع ولو قليلاً. تتخذ المقابر شكل حسرة تتسرب إلى الروح وتتزاحم، ولا عزاء سوى الشعر، الذي كاد أن يكف عن أن يكون عزاء للروح، لطالما قالها احمد: (الشعر أيضاً لم يعد يطفىء هلعي، سأتركه ورائي كحذاء عتيق. الجميع يكتب كالجميع، لم تعد للقصيدة نكهة أو معنى. أحس بالجفاف، لم يعد لدي ما أقوله، إنني أموت).

شاعر، من الشعراء المقربين إلى روحي، ربما لأن أحمد حسيني كما عرفته في عامودا، في القامشلي، في حلب، في السويد، في ألمانيا، هو هو مجبول من ضحكة صادقة لا تخطئ عنوان الروح، إلا أنها تخلف وراءها دمعة ساخنة، تسقط على جرح أعمق من الحزن بقليل. ويظل جميلاً بقصائده ولحيته الكثة ومشيته الخفيفة التي تشبه الركض وبشتائمه أيضاً. شاعر يحمل روح طفل، أكلت براري عامودا رجليه الباحثتين عن قطعة أرض آمنة قادرة على أن تكون موطئ قدم. سار دوماً على رمال الأمكنة المتحركة، سانده الشعر دائماً، ولم تخذله القصيدة.

سيرة هذا الشاعر، هي سيرتنا جميعا. كتب الشعر عن آلامه التي كانت آلامنا، وعن غباره فكان غبارنا، وعن فرحه العارم فكان فرحنا، وعن حزنه العميق فكان حزن شعب بملايينه، التي لم تخضع يوماً إلى احصائيات رسمية، فتنخفض إلى العشرين وترتفع إلى الأربعين. إن أحمد حسيني هو الوحيد من بين شعراء جيله الذي استطاع أن يرتقي بلغته الكردية إلى مستوى نص شعري متميز، يتفرد بخصوصية ملفتة. كما استطاع أن يرتقي بالقصيدة الكردية الحديثة ـ المكتوبة بالكرمانجية ـ إلى مستوى القصيدة التي تكتب باللغات الأخرى. أرى هذه التجربة الشعرية من أكثر التجارب الشعرية أهمية في الكرمانجية بعد رحيل جكرخوين وجيله الشعري. وتكتسب هذه التجربة أهميتها في سياق آخر، حيث إن الاحساس بأهمية هذه التجربة الشعرية يزداد مع مرور الزمن على عكس التجارب الشعرية التي تفقد أهميتها بقضاء الفترة الزمنية التي ظهرت فيها. إن احمد حسيني أحد أهم الشعراء الأكراد المعاصرين الذين يجب الاحتفاء بهم في حياتهم، وعدم انتظار ـ لاسمح الله ـ رحيله لكيل المديح له، لأن ما قدمه إلى القصيدة الكردية الحديثة (الكرمانجية) يضعه في صف الشعراء الأكراد الأمامي. من هنا تأتي لفتة موقع تيريز في غاية الأهمية.

– شكرا أحمد حسيني.

– خمسون تحية حب لك في عامك الخمسين.

ألمانيا 2005

​المصدر: اتحاد مثقفي روجآفايي كردستان

 

شارك هذا الموضوع على