من جون ديفيسونووأورهان قره مان وخليل العشاوي وفراس دالاتي
الرقة (سوريا) 19 سبتمبر أيلول (رويترز) – أصبح نهر الفرات جبهة ساخنة في الصراع على سوريا الجديدة إذ يفصل بين أكبر معسكرين مسلحين في البلاد، ويمثل بونا شاسعا بين رؤى متضاربة بشأن المستقبل.
يوجد على أحد جانبي النهر جيش الحكومة السورية الجديدة، التي تهيمن عليها الفصائل الإسلامية التي أسقطت نظاما دكتاتوريا. وعلى الجانب الآخر تنتشر قوات منطقة يديرها الأكراد المستعدون لحماية استقلالهم الذي حصلوا عليه بشق الأنفس.
ومع تصاعد التوتر، سافر صحفيون من رويترز لمسافة 1800 كيلومتر عبر هذا الخط الفاصل في الصيف، وزاروا مراكز استراتيجية رئيسية على ضفتي النهر وأجروا مقابلات مع عشرات المسؤولين العسكريين والمدنيين والنشطاء والنازحين.
ووجد صحفيو رويترز منطقة يغيب عنها حكم القانون تقع تحت سيطرة فصائل مسلحة لديها حسابات تريد تصفيتها، وتوترا محليا يقوض آمال القادة في تحقيق الوحدة، وجنودا مستعدين لقتل بعضهم قبل التنازل عن الأرض.
وتفصل بين هذه القوات مسافة 200 متر عند أقرب نقطة بينهما، وتتمركز عند طرفي جسر ترابي فوق النهر في مدينة دير الزور المقسمة بشرق سوريا.
وعندما اقترب فريق الصحفيين، تلقى المقاتلون على جانبي النهر أوامر بإغلاق الجسر أمام حركة المرور، لكن لم يوضح أيٌّ منهم السبب ولم يسمحوا بالعبور إلا بعد فحص أوراق الصحفيين مرارا.
ووقف مقاتلو الحكومة على جانب من الجسر بأسلحتهم مشهرة، وكان من بينهم مسلح عدواني بعينين حمراوين يحاول منع حشد من سكان المنطقة يتدافعون لمغادرة الجانب الكردي. وأدى إطلاق النار عبر النهر إلى إصابة عدد من المقاتلين والمدنيين في الأسابيع التي تلت ذلك. ويتهم كل طرف الآخر بالبدء في إطلاق النار.
ويتمركز أحمد الهايس، وهو قائد الفرقة 86 في الجيش السوري الجديد يشرف على دير الزور، على الضفة الغربية لنهر الفرات. وتسيطر القوات الكردية على أرض أجداده على الجانب الآخر من النهر. وهو يحتفظ برشاش إلى جانبه وبمسدس وسكين في حزامه ويحيط نفسه بمقاتلين محنكين.
وقال في إشارة إلى سقوط الرئيس السوري بشار الأسد إنهم يتحدثون في دمشق عن التحرير، لكن “ما زلنا محتلين هنا”.
وإلى الشرق من النهر، كانت سوزدار ديرك، وهي قائدة في الكتائب النسائية الكردية، تتخذ احتياطاتها الخاصة بعدم حمل هاتف محمول حتى لا يتم تعقبها وبتغيير موقعها بانتظام. وقالت إنها لن تثق أبدا في الهايس ورفاقه الذين قاتلتهم في الماضي.
وأضافت “حرب؟ نحن مستعدين، ما نريد نحارب بس إللي يهاجمنا نضربه، مجبورين نحمي حالنا”.
وبرز الطرفان على جانبي النهر باعتبارهما أقوى المعسكرات بعد الإطاحة بالأسد في ديسمبر كانون الأول 2024.
وتسيطر فصائل إسلامية كانت تنتمي للمعارضة المسلحة تقريبا على كل المناطق الواقعة إلى الغرب من نهر الفرات، أي ما يقرب من ثلثي سوريا بما يشمل مدنها الرئيسية وساحل البحر المتوسط. ويهيمنون على الحكومة الجديدة في دمشق بقيادة الرئيس أحمد الشرع، وهو قائد سابق في تنظيم القاعدة. ويسعون إلى السيطرة الكاملة على البلاد ويحظون بدعم الإدارة الأمريكية وتركيا العضو في حلف شمال الأطلسي.
ويسيطر مسلحون بقيادة الأكراد على ما يقرب من ثلث سوريا، ومعظمهم في شرق الفرات الذي يضم ثروة نفطية وسدودا كهرومائية تساعد في تزويد البلاد بالطاقة. ويديرون منطقة خاصة بهم ويريدون الحفاظ عليها على هذا النحو. وعملت الولايات المتحدة على تدريبهم، لكنهم يخشون تخلي الحلفاء الأمريكيين عنهم.
ويحاول مفاوضون من الجانبين داخل قاعات الاجتماعات من أجل المضي قدما في اتفاق وحدة متعثر تم توقيعه في مارس آذار. ومن شأن الاتفاق، الذي يجري التفاوض عليه الآن في دمشق، أن يدمج القوات التي يقودها الأكراد في الجيش الخاضع لهيمنة الإسلاميين.
ميدانيا، تشير الدلائل على الأرض إلى أن التقسيم سيستمر لفترة طويلة أو ستحدث مواجهة. ولن يجلب أي من ذلك الاستقرار أو الوحدة التي كان كثير من السوريين يأملون بشدة في أن ينعموا بهما بعد سقوط الأسد.
ووقعت اشتباكات في كل نقطة من النقاط التي زارها فريق الصحفيين على خط المواجهة على نهر الفرات، سواء في الأسابيع التي سبقت وجود الفريق هناك أو بعدها.
وفي الوقت الذي اندلعت فيه مناوشات عبر النهر في دير الزور، قتلت القوات الكردية عند المنبع أحد أقارب قائد عربي أجرت معه رويترز مقابلة في معركة جديدة بالأسلحة النارية. وردا على ذلك، أرسل القائد رجالا وأسلحة إلى الجبهة. وشنت تركيا في غضون ذلك أول غارات جوية لها منذ شهور على المواقع الكردية، وحفر الأكراد أنفاقا دفاعية جديدة.
وبعد مرور شهور على الإطاحة بالأسد، خبت الآمال في انتقال سلمي للسلطة. وسحقت قوات الأمن التابعة للحكومة الجديدة تمردا مؤيدا للأسد بقتل المئات من أفراد الأقلية العلوية في المناطق الساحلية. وأدت أحداث دموية بين مسلحين دروز وعشائر بدوية إلى جانب غارات جوية إسرائيلية في الآونة الأخيرة إلى زعزعة الاستقرار في جنوب سوريا.
وتهدد المناوشات عند نهر الفرات بإشعال معركة أكبر. ويوجد على الجانبين عشرات الآلاف من المقاتلين الذين حصلوا على تمويل وتدريب وأسلحة من الولايات المتحدة وحلفائها في مختلف مراحل الحرب الأهلية.
ولم ترد الحكومة السورية على طلبات للتعليق على الوضع عند نهر الفرات.
وقال الشرع، في مقابلة أجراها مع التلفزيون السوري الرسمي في وقت سابق من الشهر، إن المفاوضات توقفت “وتتدخل أطراف دولية مثل الولايات المتحدة وتركيا”.
وأضاف “كل ما يسهل عملية ألا تحصل معركة أو حرب لعلاج هذه المشكلة أنا فعلته”.
وأضاف أن سوريا لن “تتنازل عن ذرة تراب واحدة”.
وتساءل فرهاد شامي المتحدث باسم قوات سوريا الديمقراطية، التي يقودها الأكراد، عن إمكانية تشكيل جيش سوري موحد.
وقال لرويترز “نريد بناء جيش سوري يقوم على المواطنة والتعددية وليس على الهوية الواحدة، لذا، الاختلاف معهم ليس عسكريا بحتا، إنما اختلاف هوية بالمعنى الصحيح”.
ويخشى السوريون من أن يؤدي التدخل الخارجي الجديد وأمراء الحرب المحليين والعنف بين الفصائل إلى دفع البلاد نحو الصراع من جديد.
وعاد طارق خريج كلية الهندسة من تركيا هذا العام إلى دير الزور مسقط رأسه المدمر. وقال “أخبرتني عائلتي أن الأمور تحسنت … لا أشعر بأمان… ليتني لم أعد”.
* الجبهة الشمالية: مواجهة على السد
بدأ فريق التغطية رحلته عند منبع النهر، حيث أشعلت الإطاحة بالأسد صراعا كامنا وصل الآن إلى طريق مسدود بسبب تسرب المياه من سد على نهر الفرات.
كان النهر في الماضي يغذي حضارات قديمة. أما الآن، فهو يمد تركيا وسوريا والعراق بالمياه والطاقة، مما يجعل السيطرة عليه من الدعائم الأساسية للقوة في المنطقة.
فمع اقتحام مسلحي المعارضة بقيادة الشرع، الذي تولى الرئاسة فيما بعد، دمشق في ديسمبر كانون الأول، خاضت جماعات مدعومة من تركيا تحت قيادة منفصلة معارك مع القوات الكردية في محاولة للسيطرة على أراض في شمال سوريا. وطردت الأكراد من الأراضي التي كانوا يسيطرون عليها غرب النهر، منها مناطق قرب مدينة حلب على بعد نحو 100 كيلومتر وصولا إلى سد تشرين.
وقالت السلطات الكردية لرويترز إن 418 من مقاتليها و57 مدنيا، بالإضافة إلى ثلاثة صحفيين، لقوا حتفهم في اشتباكات منذ ديسمبر كانون الأول، معظمهم في الأسابيع الأولى من الاضطرابات.
وزار الصحفيون الجيوب التي كانت تحت سيطرة الأكراد سابقا قبل أن يتجهوا شرقا نحو نهر الفرات متتبعين خط انسحاب الأكراد. وكانت محطتهم الأولى مقر قيادة قائد عربي مدعوم من تركيا قاد التقدم.
وقال معتصم عباس القائد في الفرقة 80 إن القوات الكردية “ما قاوموا كثير”.
وكان عباس يتحدث قبل أسابيع قليلة من منع وزارة الدفاع السورية المسؤولين العسكريين من مقابلة وسائل الإعلام دون موافقة مسبقة.
ويقود عباس نحو 2000 مقاتل في مناطق تمتد من مسقط رأسه مارع قرب حلب إلى نهر الفرات. وتمت ترقيته في الربيع إلى قائد لواء الفرقة 80 الجديدة في الجيش السوري، وهو منصب يمنحه رسميا السيطرة على هذا الجزء الشمالي من خط المواجهة مع الأكراد.
ويقاتل عباس صاحب البنية الضخمة والجسم الرياضي والبالغ من العمر 38 عاما منذ أن كان في الرابعة والعشرين من عمره. ويصف نظام الأسد وتنظيم الدولة الإسلامية بأنهما ألد أعدائه. لكن بعد رحيلهما، صارت خصومته مع قوات سوريا الديمقراطية التي يقودها الأكراد. وسيطر تنظيم الدولة الإسلامية على أراض في سوريا بين عامي 2014 و2019.
وقال عباس “إذا صار في استقرار وما ضل في شي اسمه قسد (قوات سوريا الديمقراطية) واندمجوا ضمن الجيش والحكومة… إن شاء الله يصير في استقرار وانتعاش”.
وأضاف أنه على الرغم من الهدنة غير الدائمة حول السد، استمرت القوات الكردية في إرسال طائرات مسيرة للتجسس على قواته أو مهاجمتها. وتنفي السلطات الكردية شن أي هجمات، قائلة إنها كانت ترد على أفعال القوات الحكومية السورية.
ويحمل عباس أيضا ضغينة شخصية الآن، فقد قال إن قريبا له قتل في اشتباكات مع الأكراد الشهر الماضي. وأضاف “الطلقة جاءت في ظهره… تم تعزيز نقاط الحراسة ومنع الاختراق… بالبشر والسلاح”.
ونفت السلطات الكردية أي تورط لها في القتال، وألقت باللوم في وفاته على نزاع داخلي بين الفصائل الحكومية على النفوذ. ولم يتسن لرويترز التحقق من ملابسات الوفاة.
ومقر قيادة عباس عبارة عن مجموعة من المباني المنخفضة تنتشر خارجها ناقلات جند مدرعة وسيارات نصف نقل مزودة بأسلحة. والمقر محاط بشبكة أسلاك لحمايته من هجمات الطائرات المسيرة. ويتنقل عباس في سيارات مدرعة محاطا بحراس شخصيين. وهو الآن يتبع رسميا وزارة الدفاع في دمشق، لكنه لا يزال على ولائه القوي لداعمه الرئيسي تركيا التي تقول مصادر من كلا الطرفين إنها زودت مجموعته بالأسلحة والذخيرة منذ فترة طويلة.
وأفاد عدد من مسؤولي الأمن في كلا البلدين بأن تركيا تدفع أيضا أجورا شهرية لكل من المقاتلين بنحو 3000 ليرة تركية (80 دولارا). ولم ترد الحكومة التركية على طلبات للتعليق سواء بشأن الرواتب أو أي تفاصيل أخرى عن جهودها في سوريا.
وفي مكتب عباس، تصف لوحة معلقة على خزانة الرئيس رجب طيب أردوغان، بلغة تركية غير سليمة، بأنه “الخليفة المسلم”، تقديرا “لموقفه البطولي تجاه الشعب السوري”.
ويعود ظهور الفصائل المدعومة من تركيا وخلافها مع الأكراد إلى الحرب الأهلية السورية. وعندما تحولت الانتفاضة السلمية المناهضة للأسد في 2011 إلى حرب، عمدت دول غربية ودول خليجية عربية وتركيا إلى تسليح مجموعة كبيرة من فصائل المعارضة.
واندمجت هذه الفصائل في نهاية المطاف في تحالفين إسلاميين رئيسيين هما هيئة تحرير الشام التي كان يقودها الشرع والجيش الوطني السوري، وهو مجموعة من الفصائل المسلحة والمدربة من تركيا، وهو الآن شريك صغير في الحكومة الجديدة.
وامتد التوتر العرقي داخل تركيا إلى شمال سوريا لسنوات في ظل هدف تركي معلن منذ فترة طويلة لطرد المسلحين الأكراد من الحدود. ويرتبط المسلحون الأكراد السوريون بحزب العمال الكردستاني، وهو جماعة مسلحة انفصالية حاربتها تركيا في الداخل لعقود.
وقال عباس إن القضية الكردية بدت الأكثر بروزا بين المشاكل التي تواجه سوريا.
ويتميز الطريق بين قوات عباس والأكراد بمساحات ريفية شاسعة مع وجود عدد قليل من نقاط التفتيش العسكرية. وقرب البلدة التي قتل فيها قريب عباس، كانت مجموعة من المسلحين الذين لا يضعون أي شارات أو رتب يأخذون أموالا من سائقي السيارات للسماح لهم بالمرور بأمان.
وعند سد تشرين، ألقت القوات الكردية المتمركزة هناك باللوم في المعارك الأخيرة على الفصائل المدعومة من تركيا، وقالت إنها تعرضت للقصف ست مرات من القوات المتناحرة معها.
وقال خليل قهرمان القائد الكردي في الموقع “كان آخر هجوم علينا قبل أسبوع، بنيران المدفعية”. وفي الأسابيع التي تلت ذلك، كان هناك المزيد من تبادل إطلاق النار في المنطقة، وهو ما شمل غارات جوية تركية حول السد لأول مرة منذ شهور.
وقال مهندسون في الموقع إن السد يزود البلدات القريبة الخاضعة للسيطرة الكردية بالكهرباء، لكن إذا تم إصلاحه، وإذا توصل الجانبان إلى اتفاق، فيمكنه تغذية المدن السورية التي مزقتها الحرب غربا وشرقا. وقال المهندسون إنه من أجل ذلك، يحتاج إلى تدفق منتظم من المنبع في تركيا وقطع غيار أجنبية لإصلاح التسريبات حول التوربينات والتي قللت من توليد الطاقة.
لا يزال قهرمان، وهو مقاتل مخضرم شاحب الوجه ينتشر الشيب في شعره، يشعر بمرارة من اضطراره إلى التراجع أمام عباس والفصائل الأخرى المدعومة من تركيا. كما شعر بالصدمة من خطط الولايات المتحدة لسحب قواتها من شمال شرق سوريا والتي تدعم الأكراد منذ أكثر من عقد في القتال ضد تنظيم الدولة الإسلامية. وشاهد فريق رويترز قاعدتين أمريكيتين تم إخلاؤهما حديثا خلال الرحلة.
وقال قهرمان إن قواته مستعدة للقتال بمفردها ضد جميع الأعداء لحماية السد.
وقال “اكتسبنا خبرة في قتال داعش (تنظيم الدولة الإسلامية)، والآن نكتسب المزيد من الخبرة في قتال هذه الفصائل. نطور تكتيكات جديدة”.
كما يمتلكون أسلحة جديدة، وتحديدا أسطول طائرات مسيرة قال قهرمان وقائدان آخران إنها أطلقت لأول مرة في ديسمبر كانون الأول وأثبتت أهميتها في وقف تقدم الجماعات المدعومة من تركيا نحو السد. وأضاف قهرمان أن التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة ساعد في تطويرها.
ولم يرد الجيش الأمريكي على طلب للتعليق على تسليح القوات الكردية أو أي أسئلة أخرى بشأن أنشطته في المنطقة.
وتلجأ القوات الكردية أيضا إلى دفاعات تقليدية. فصدى أصوات المعاول والمجارف يتردد في التلال المحيطة بسد تشرين، حيث يحفر العمال شبكات أنفاق جديدة.
وتتسع الممرات تحت الأرض فقط لمرور مقاتل عريض المنكبين ومعداته. وتمتد الأنفاق على عمق 30 مترا على الأقل تحت الأرض. ولدى حفاري الأنفاق تصميمات لشبكة تتفرع بين التلال كل 100 متر تقريبا.
* الجبهة الشرقية: تصفية حسابات
على بعد حوالي 300 كيلومتر إلى الجنوب في دير الزور، ينظر الهايس القائد في الجيش السوري المدعوم من تركيا، والمعروف باسمه الحركي أبو حاتم شقرا، عبر النهر إلى قريته التي يقطنها ويشعر بضغينة.
وقال الهايس الذي جلس محاطا بمقاتلين ملتحين في قاعة طعام للضباط كانت مخصصة لجيش الأسد في السابق إن “الرئيس الشرع كان ينظر دائما إلى تحرير الشام (دمشق) أنا انظر إلى الأراضي اللي محتلة من قسد أنا أقاتل أشد بمية مرة مشان هذا (من أجل هذا)”.
وتقع دير الزور في الطرف الجنوبي الشرقي من الخط الفاصل الذي يمثله نهر الفرات عند أقصى مناطق سيطرة دمشق. ولا يفصل العاصمة عن هذه المدينة المهملة التي أصبحت شوارعها المدمرة خاوية بعد سنوات من الحرب إلا صحراء منخفضة الكثافة السكانية لطالما استغلها تنظيم الدولة الإسلامية وتمتد لما يقارب 500 كيلومتر. ولم تبدأ إعادة الإعمار بعد.
وللوصول إليها، تحرك المراسلون بالسيارات عبر الصحراء التي تضمنت نقطة تفتيش مؤقتة قال سكان محليون إنها بدأت العمل منذ أيام قليلة فقط. ولم يتعرف السكان على هوية المسلحين القائمين على نقطة التفتيش.
ومنذ سقوط الأسد، انقسمت دير الزور على طول الحدود الطبيعية للنهر إلى مناطق يسيطر عليها رجال الهايس وقوات يقودها الأكراد.
ولا يفصل الهايس عن ما يسعى إليه إلا الجسر الترابي الذي عبره مراسلو رويترز، والمسلحون على الجانب الآخر.
وعينت حكومة دمشق في مايو أيار الهايس قائدا للفرقة 86 في الجيش السوري الجديد، مما يجعله مسيطرا على مساحة 150 كيلومترا من الأراضي على طول نهر الفرات من أطراف الرقة، العاصمة السورية السابقة لتنظيم الدولة الإسلامية، إلى دير الزور.
والرقة والريف الشرقي لدير الزور منطقتان يعتقد الهايس والحكومة في دمشق وتركيا أنه ما كان ينبغي أن تكونا تحت سيطرة الأكراد.
ووقعت اشتباكات بين المسلحين الأكراد وقوات الأسد في بداية الحرب الأهلية، ثم تجنب كل منهما الآخر إلى حد كبير، مما سمح للأكراد بفرض نوع من الحكم الذاتي. واعتمدت الولايات المتحدة فيما بعد على القوات الكردية في قتال تنظيم الدولة الإسلامية.
ومع تقهقر تنظيم الدولة الإسلامية بعد 2017، انتزعت القوات التي يهيمن عليها الأكراد الأراضي التي كان يسيطر عليها التنظيم حول الفرات، مما دفع تركيا إلى شن عمليات توغل شاركت فيها قوات الهايس.
وأثار تعيين الهايس غضب الأكراد لما يقال عن أنه ساعد في انشقاق أعضاء سابقين في تنظيم الدولة الإسلامية قسم منهم انضم لفصائل أخرى، ولأنهم يتهمونه بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان، بما في ذلك ضد الأكراد.
وقال الهايس إنهم ساعدوا في انشقاق مقاتلين سابقين من تنظيم الدولة الإسلامية، وأضاف أن ذلك كان انتقاما من التنظيم الذي استقطب عددا من مقاتليه خلال الحرب الأهلية. وهو ساخط على القوات الكردية لحصولها على القسم الأكبر من الدعم الأمريكي لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية عندما كان هو ورفاقه يقاتلون التنظيم أيضا.
ونفى الهايس ارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان، وقال إنه لا يشعر بالقلق من أن يفقد منصبه بسبب غضب الغرب حيال اتهامات بارتكاب انتهاكات. وقال الهايس الذي تحدث مع رويترز قبل صدور أمر وزارة الدفاع بشأن التحدث مع الصحفيين “كيف يمكن أن يسلبوه مني؟ لقد أوصلنا الحكومة إلى السلطة حاليا”.
وكان الهايس يخطط لإضعاف القوات التي يقودها الأكراد في المناطق القريبة، فهو يأمل في تشجيع الانشقاق عن الكتيبة العربية التابعة لهم، وهو تكتيك يقول إنه حقق نجاحا في الماضي. وأضاف “أراقب وأستمع. عندي ناس في أراضيهم”.
وتتجنب القوات الكردية على الضفة المقابلة في هذا الجزء من خط المواجهة أي مجازفة.
وعلى مشارف الرقة، يجري حفر مزيد من الأنفاق وتنقل الشاحنات الملاجئ الخرسانية الجاهزة باتجاه المدينة. ويقع المقر الرئيسي للإدارة المحلية في مجمع محاط بجدران واقية من الانفجارات، مع إطلالة بانورامية على النهر، وعلى أي قوات متقدمة تنشرها دمشق.
وعلى مسافة أبعد، في مقر القيادة العسكرية الكردية، قالت ديرك، قائدة الكتيبة النسائية، إن تعيين الهايس ورفاقه المدعومين من تركيا في مناصب عسكرية رفيعة استفزاز من الحكومة الجديدة.
وأضافت “هذول الأشخاص يجب معاقبتهم دوليا… عليهم كثير من القضايا”.
وعبرت ديرك عن قلقها من أن يكون تعيين الهايس إشارة إلى أن الحكومة السورية الجديدة تعتزم انتزاع السيطرة على دير الزور والرقة والحسكة من القوات الكردية. وقالت “أنا أظن أنه غلط أنه يتم فرض شخص على أي منطقة”.
ولدى ديرك ذكريات مؤلمة عن قتال رجال الهايس الذين استولوا على أراض من الأكراد في إطار توغل تركي في 2019، وهي المرة الأخيرة التي أمر فيها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بانسحاب كبير للقوات من سوريا.
وقالت إنها لن تنضم مطلقا إلى الجيش السوري الذي يضم الهايس ومجموعة كبيرة من القادة الآخرين المدعومين من تركيا.
وعقدت ديرك آمالا جديدة على الطائرات المسيرة والأنفاق في صد الهايس وقواته. وعلى الرغم من التراجع الكردي، قالت إن الطائرات المسيرة المستخدمة في ديسمبر كانون الأول كانت اختبارا جيدا في مواجهة القوات المدعومة من تركيا وتمكنت من تجاوز التشويش على الرادار.
وقالت مبتسمة “كانت كابوسا للعدو”.
* رؤى متباينة
بعيدا عن خطوط المواجهة، تلتقي السياسية الكردية فوزة يوسف والمسؤول الحكومي عن منطقة عفرين مسعود بطال وجها لوجه على طاولة المفاوضات.
وتتمثل مهمتهما في توحيد هؤلاء القادة تحت قيادة عسكرية واحدة ودمج الإدارة التي يقودها الأكراد في حكومة دمشق.
يتعرض الطرفان لضغوط شديدة من واشنطن التي تدعو إلى سوريا موحدة.
قال مسؤول في وزارة الخارجية الأمريكية في بيان لرويترز “الولايات المتحدة مهتمة بخلق مسار سلمي ومزدهر ومستقر لسوريا. لن يحدث هذا من دون وحدة سورية”.
وقال الشرع، في حديث مع رويترز ومراسلين آخرين هذا الأسبوع، إن لا بديل آخر بالنسبة لسوريا.
وقال “أعتقد أن سوريا لا تقبل القسمة، يتعذر عليها القسمة”.
لكن لدى يوسف وبطال وفريقيهما رؤى متابينة لبلدهما.
يتولى بطال مسؤولية منطقة عفرين الواقعة قرب حلب والمحاطة بقواعد عسكرية تركية حيث يرفرف علم تركي كبير بجوار مبنى البلدية. وقال أحد رفاقه إن تركيا كانت مستمرة في دفع رواتب العديد من المسؤولين المحليين حتى أواخر يونيو حزيران.
يقوم مسلحون ذوو لحى طويلة على غرار السلفيين بالسيطرة الأمنية في منطقة بطال، ويرون في المنطقة التي يديرها الأكراد مشروعا انفصاليا يرفض التخلي عن حقول النفط السورية ويستغل خطر عودة تنظيم الدولة الإسلامية كورقة مساومة للحفاظ على الدعم الأمريكي. وتحتجز القوات الكردية تقريبا جميع مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية وعائلاتهم الذين ألقي القبض عليهم في سوريا أثناء انهيار التنظيم المتشدد. ويريد ترامب أن تتولى الحكومة السورية الجديدة هذه المسؤولية.
ويضمر بطال كراهية شخصية تجاه القوات الكردية.
وقال بطال وهو كردي من مدينة القامشلي شمال شرق سوريا “سجنت أنا بالقامشلي وحاولوا تجنيدي إجباريا”. وفر إلى شمال غرب سوريا وانضم بدلا من ذلك للفصائل الإسلامية المسلحة. ولم تتمكن رويترز من التأكد من روايته بشكل مستقل. ونفت قوات سوريا الديمقراطية اعتقال بطال.
كانت منطقة عفرين، ذات الأغلبية الكردية التي يديرها بطال، بؤرة توترات عرقية منذ طرد القوات المدعومة من أنقرة القوات الكردية في 2018.
ويتمسك بطال مثل غيره من المسؤولين الجدد في المناطق الخاضعة لسيطرة دمشق ببعض الأفكار الدينية المحافظة.
وقال “حرية المرأة المطلقة مثلا… حتى الغرب ما يريدها ها الدرجة، الطلاق بأيد المرأة وبأيد الرجل” في المناطق التي يسيطر عليها الأكراد في إشارة إلى المساواة في حقوق الطلاق بين الرجال والنساء. كما انتقد تجنيد الأكراد للمقاتلات الشابات.
أما فوزة يوسف فهي سيدة كردية تقيم في الجزء الكردي من سوريا ولديها إيمان راسخ بالمساواة في حقوق المرأة والأقليات.
وترى هي وزملاؤها أن حكومة دمشق إسلامية مقربة من تركيا المعادية لهم وغير جادة في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية. وتقول “انتهت الثورة في دمشق. أما هنا، فلم تنته بعد. علينا ضمان هذه الحقوق”.
لكن منطقتها تعاني أيضا من رقابة أمنية مشددة وبيروقراطية وتوترات عرقية خاصة بها. واستجوبت قوات الأمن الكردية عربا عند نقاط التفتيش قرب الرقة. واعتقل مسلحون ملثمون رجلا مسنا عند إحدى هذه النقاط واقتادوه في الجزء الخلفي من شاحنة صغيرة.
ولا يعرف السوريون في المراكز الحضرية المنهكة على جانبي الخط الفاصل ما إذا كانوا أكثر أمانا مع الإسلاميين أم الأكراد.
وفر بعض العلويين من غرب سوريا إلى مناطق خاضعة لسيطرة الأكراد بعد حوادث القتل التي وقعت في مارس آذار. كما قدم سياسيون أكراد الدعم للمدنيين الدروز خلال الاشتباكات مع مسلحي العشائر والقوات الحكومية في يوليو تموز.
لكن آخرين بدأوا يشعرون بالاستياء من طريقة الإدارة التي يقودها الأكراد.
وقالت مريم وهي من سكان الرقة وتساعد في إدارة منظمة حقوقية محلية “تعتقل السلطات هنا الأبرياء باسم الأمن، وتتخذ من تهديد تنظيم الدولة الإسلامية ذريعة”.
وأطلعت رويترز على تصاريح مكتوبة صادرة من الإدارة الذاتية الكردية من أجل عقد اجتماعات المنظمة، ونصت تلك التصاريح على تقديم تقرير شهري للنشاط، وقالت مريم إن السلطات كانت تطلب في كثير من الأحيان معرفة ما يُناقش في الاجتماعات. واكتفت بالكشف عن اسمها الأول خوفا من الانتقام. وقالت قوات سوريا الديمقراطية إن السلطات المحلية تطلب معرفة وقت وتاريخ الاجتماعات لضمان الأمن العام.
عاشت مريم تحت حكم الأسد وتنظيم الدولة الإسلامية والآن الأكراد. واختفى اثنان من أشقائها بعد قيام تنظيم الدولة الإسلامية باعتقالهما. وقالت إن شقيقا ثالثا قتل في غارة جوية أمريكية أثناء وقوفه في طابور للحصول على الماء في الرقة.
ولا تروق لها أي من الخيارات المطروحة.
وقالت “تتجه سوريا نحو التقسيم. إذا زرت مدنا خاضعة لسيطرة الحكومة الجديدة في دمشق، يشتبه الأكراد فيك. وإذا عشت في هذه المنطقة، فأنت بالنسبة للطرف الآخر عدو تابع للأكراد”.
وتقع مدينة مريم عند منتصف نهر الفرات محاطة بأراض خصبة وتشرف على طرق في الشمال الشرقي. وتزداد أهمية المدينة كلما اندلعت حرب في سوريا.
وقالت “نحن عالقون في المنتصف”.
إعداد نهى زكريا ومحمود سلامة ومحمد أيسم والشيماء سعد للنشرة العربية – تحرير سها جادو
المصدر: رويترز
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=76249